قصة عيسى بن مريم عليه السلام
واختلاف
الناس فيه
عيسى ابن مريم هو الذي بُشرت به أمه من قِبل الله قبل الحمل به أنه {غُلَامًا زَكِيًّا(19)} مريم وأن{اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ(45)وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنْ الصَّالِحِينَ(46) } آل عمران
وقد مر معنا هذا في قصة أمه مريم ابنة عمران الذي هو من المصطفين الأخيار وأمها حنة من العابدات جدة عيسى عليه السـلام , من أهل بيت من الله بمكان
إنه عيسى الذي خلقه الله من مريم من غير أب , مريم التي وهبتها أمها لخدمة بيت المقدس وتقبلها الله ورعاها حتى كبرت وطهرها واصطفاها على نساء العلمين لتبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ولا يصدقونها في خبرها , فجعلها الله هي وابنها أية , لما أتت مريم قومها تحمله {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا(29)} فأجابهم عيسى , تكلم عيسى بن مريم في صغره {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31)وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا(32)وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(33)}مريم
ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان
{ ذَلِكَ عِسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ(34)} مريم
فكذلك اعتقدوه, لا كما تقول اليهود أنه ابن يوسف النجار, ولا كما قالت النصارى إنه الإله أو ابن الإله
وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله , والحق هو الله عز وجل الذي أرسل جبريل يخبر مريم بأنه يُعلم ولدها الحكمة والتوراة ويجعله رسولاً
{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ(48 ورَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (49)} آل عمران فكلمهم رسولاً قائلا لهم { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ (49) } آل عمران أصور لكم {مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ (49) فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا } آل عمران كان يصور من الطين شكل طير ثم ينفخ فيه فيطير عيانا {بِإِذْنِ اللَّهِ (49} آل عمران الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله
خلق خفاش لأنه أكمل الطير تخلقا ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثديا وأسنانا وأذنا ، وهي تحيض وتطهر وتلد . إنما طلبوا خلق خفاش لأنه أعجب من سائر الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور ، فيكون له الضرع يخرج منه اللبن ، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا ، ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة . ويقال : إن سؤالهم كان له على وجه التعنت فقالوا : اخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالتك ، فأخذا طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى والخلق من الله , وقال لهم {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ (49} آل عمران وأبرئ الأكمه وهو الذي يولد أعمى وهو أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي، والبرص بياض يعتري الجلد,(يشبه البياض الذي يعتري المكان المصاب بحرق في الجسم بعد الشفاء )وكان الغالب على زمن عيسى عليه السلام الطب فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك وقال لهم عيسى {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ (49} آل عمران
أحيا أربع أنفس : العاذر وكان صديقا له ، وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح ، فالله أعلم
فأما العاذر فإنه كان قد توفي قبل ذلك بأيام فدعا الله فقام بإذن الله وودكه يقطر (يعني سمنته تتحلل) فعاش وولد له
وأما ابن العجوز فإنه مر به يحمل على سريره فدعا الله فقام ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله
وأما بنت العاشر فكان أتى عليها ليلة , فدعا الله فعاشت بعد ذلك وولد لها ، فلما رأوا ذلك قالوا : إنك تحيي من كان موته قريا فلعلهم لم يموتوا فأصابتهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح فقال لهم : دلوني على قبره فخرج وخرج القوم معه حتى انتهى إلى قبره فدعا الله فخرج من قبره وقد شاب رأسه . فقال له عيسى كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانكم شيب ؟ فقال: يا روح الله ، إنك دعوتني فسمعت صوتا يقول : أجب روح الله ، فظننت أن القيامة قد قامت ، فمن هول ذلك شاب رأسي . فسأله عن النزع فقال : يا روح الله ، إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي ، وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة ، فقال للقوم : صدقوه فإنه نبي ، فآمن به بعضهم وكذبه بعضهم وقالوا : هذا سحر
رأت امرأة عيسى عليه السلام يحيى الموتى, ويبرئ الأكمه والأبرص في سائر آياته فقالت طوبى للبطن الذي حملك, والثدي الذي أرضعك; فقال لها عيسى عليه السلام: طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى واتبع ما فيه وعمل به
بعث عيسى عليه السلام في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد أو على مداواة الأكمه والأبرص وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد
ولما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا : أخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد , فقال {وأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ(49} آل عمران فأخبرهم فقال : يا فلان أنت أكلت كذا وكذا ، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا
وكان يخبر الصبيان في الكُتاب بما يدخرون حتى منعهم آباؤهم من الجلوس معه
وكان الله القوي العظيم ينصره بجبريل فقد أخبر الله تعالى بذلك فقال:
{إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا (110)} المائدة
وكان قد مر بمريم ابن عمها ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها أثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه
وسبب ذهاب عيسى إلى مصر , أن جماعة من المجوس بعثهم ملك الفرس يسألون أين ولد الملك العظيم ؟ وجاءوا إلى هيردوس وكان الملك على بيت لحم يسألونه وقالوا جئنا لنسجد له ، و حدثوه بما أخبر الكهان وعلماء النجوم من شأن ظهوره وأنه يولد ببيت لحم ابن سنتين فما دونها , وسمع أوغسطس قيصر بخبر المجوس فكتب إلى هيردوس يسأله ، فكتب له بمصدوقية خبره وأنه قتل من الصبيان , وحذِر هيرودوس من شأنه وأمر أن يقتل الصبيان ببيت لحم
وكان يوسف النجار قد أوعى الله له في المنام وقال له قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك, فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه فقام من نومه وامتثل أمر ربه وأخذ المسيح ومريم أمه ونزل مصر, وفي حال وصوله مصر نزل ببئر البلسان بعين شمس التي بظاهر القاهرة وغسلت ثيابه على ذلك البئر فالبلسان ([1]) لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الأرض ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمد به النصارى
وفي تلك السفرة وصل عيسى إلى مدينة الأشمونين وقسقام المعروفة الآن بالمحرقة فلذلك يعظمها النصارى إلى الآن, ويحضروا إليها في عيد الفصح من كل مكان لأنها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر, ومنها عاد إلى الشام ([2])
فأقام هنالك اثنتي عشرة سنة ، و ظهرت عليه الكرامات ، و هلك هيردوس الذي كان يطلبه و أمروا بالرجوع فرجعوا . فمن مصر دعوته
وظهرت عليه الخوارق من إحياء الموتى و إبراء المعتوهين وتتابعت عنه المعجزات وانثال الناس عليه يستشفون و يسألون عن الغيوب وخلق الطير وغير ذلك من خوارقه , وقال عيسى جئتكم {َمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} لما قبلي {مِنْ التَّوْرَاةِ } وجئتكم {َلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} من الأطعمة . أحل لهم عيسى عليه السلام ما حرم عليهم بذنوبهم ولم يكن في التوراة ، نحو أكل الشحوم وكل ذي ظفر . وأحل لهم أشياء حرمتها عليهم الأحبار ولم تكن في التوراة محرمة عليهم جاءهم عيسى بألين مما جاء به موسى عليه السلام وقال لهم عيسى{ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } للدلالة على رسالتي {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي(50)إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(51)} أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ} استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال ووجد من بني إسرائيل أرادت قتله { قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } من أنصاري في الدعوة إلى الله فانتدب الله له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ولهذا قال تعالى مخبرا عنهم {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أنصار نبي الله ودينه
والحواريون أصحاب عيسى عليه السلام، كانوا أثنى عشر رجلا
سموا بذلك لتبييضهم الثياب
وكانت مريم قد أسلمت عيسى إلى أعمال شتى ، وآخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين فأراد معلم عيسى السفر فقال لعيسى : عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان وقد علمتك الصبغة فاصبغها . فطبخ عيسى حبا واحدا أي لون واحد وأدخل فيه جميع الثياب وقال : كوني بإذن الله على ما أريد منك . فقدم الحواري والثياب كلها في الحب فلما رآها قال : قد أفسدتها ، فأخرج عيسى ثوبا أحمر وأصفر وأخضر إلى غير ذلك كما كان على كل ثوب مكتوب عليه لون صبغته صبغ ، فعجب الحواري ، وعلم أن ذلك من الله ودعا الناس إليه فآمنوا به ، فهم الحواريون . الذين قالوا { آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ } في كتابك وما أظهرته من حكمك {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(53)}. اكتبنا مع الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق
وكان إيمان الحواريون بعيسى مِنّة من الله على عيسى كما أخبر تعالى بذلك حيث قال : {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ(111)}
أمتن الله على عيسى عليه السلام بأن جعل له أصحابا وأنصارا والمراد بهذا الوحي وحي إلهام أي أُلهموا ذلك فامتثلوا ما أُلهموا وقُذف في قلوبهم واستجابوا لعيسى وانقادوا له وتابعوه فقالوا آمنا بالله واشهد بأننا مسلمون, وطلبوا منه أن يدعوا الله أن يأتيهم بطعام من السماء فقد كانوا فقراء
{ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ }
هذه قصة المائدة وإليها تنسب سورة المائدة في القرآن الكريم وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسي لما أجاب دعاءه بنزولها فأنزلها الله آية باهرة وحجة قاطعة , وقصتها ليست مذكورة في الإنجيـل ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين
لما طلب الحواريون الطعام من عيسى قال لهم { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(112)قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ(113)}
قال الحواريون وهم أتباع عيسى عليه السلام يا عيسى ابن مريم هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء , إنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ويتقوون بها على العبادة قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين أي فأجابهم المسيح عليه السلام قائلا لهم اتقوا الله ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنة لكم وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها أي نحن محتاجون إلى الأكل منها. وتطمئن قلوبنا إذا شاهدنا نزولها رزقا لنا من السماء ونعلم أن قد صدقتنا أي ونزداد إيمانا بك وعلما برسالتك ونكون عليها من الشاهدين أي ونشهد أنها آية من عند الله ودلالة وحجة علي نبوتك وصدق ما جئت به
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ(114)}
نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا يعني يوما نصلي فيه. أرادوا أن يكون اليوم لعقبهم من بعدهم , وآية منك أي دليلا على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك لدعوتي فيصدقوني فيما أبلغه عنك وارزقنا من عندك رزقا هنيئا بلا كلفة ولا تعب وأنت خير الرازقين
{ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ(115)}
قال الله فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا ([3]) من العالمين أي من عالمي زمانكم
وهذا أثر روي في نزول المائدة على الحواريين
{لما سأل الحواريون عيسي ابن مريم المائدة كره ذلك جدا فقال اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض ولا تسألوا المائدة من السماء فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها. فأبوا إلا أن يأتيهم بها فلذلك قالوا" نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا" الآية فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم , فقام عيسى عليه السلام وتوضأ ثم دخل مصلاه فصلى ثم بكى بكاء طويلا ودعا الله , فقال اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء تهوي إليهم وعيسى يبكي خوف من أجل الشروط التي أخذها الله عليهم فيها أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين وهو يدعو الله في مكانه ويقول اللهم اجعلها رحمة لهم ولا تجعلها عذابا إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني إلهي اجعلنا لك شاكرين اللهم إني أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضبا ورجزا إلهي اجعلها سلامة وعافية ولا تجعلها فتنة ومثلة. فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسى والحواريين وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط وخر عيسى والحواريون لله سجدا شكرا له لما رزقهم من حيث لم يحتسبوا وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمرا عجيبا أورثهم كمدا وغما ثم انصرفوا بغيظ شديد وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة فإذا عليها منديل مغطى فقال عيسى من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه فليكشف عن هذه الآية حتى نراها ونحمد ربنا ونذكر باسمه ونأكل من رزقه الذي رزقنا فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته أنت أولانا بذلك وأحقنا بالكشف عنها. فقام عيسى عليه السلام واستأنف وضوءا جديدا ثم دخل مصلاه فصلى كذلك ركعات ثم بكى بكاء طويلا ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقا ثم انصرف وجلس إلى السفرة وتناول المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين وكشف عن السفرة فإذا هو عليها بسمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير وليس في جوفها شوك يسيل السمن منها سيلا قد تحدق بها بقول من كل صنف غير الكراث وعند رأسها خل وعند ذنبها ملح وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر خمس رمانات فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عيسى أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية. فقال له شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالا يا ابن الصديقة فقال عيسى عليه السلام: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة فقال له كن فكان أسرع من طرفة عين فكلوا مما سألتم بسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم فإنه بديع قادر شاكر فقالوا يا روح الله وكلمته إنا نحب أن يرينا الله آية في هذه الآية فقال عيسى: سبحان الله أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى ؟ ثم أقبل عيسى عليه السلام على السمكة فقال يا سمكة عودي بإذن الله حية فأحياها الله بقدرته فاضطربت وعادت بإذن الله حيه طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد تدور عيناها لها بصيص وعادت عليها بواسيرها ففزع القوم منها وانحاسوا فلما رأى عيسى منهم ذلك قال: ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول فقالوا يا عيسى كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ثم نحن بعد فقال عيسى: معاذ الله من ذلك. يبدأ بالأكل من طلبها فلما رأى الحواريون وأصحابه امتناع عيسى منها خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثله فتحاموها فلما رأى ذلك عيسى منهم دعا لها الفقراء والزمنى وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيك واحمدوا الله الذي أنزلها لكم فيكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم وافتتحوا أكلكم باسم الله واختموه بحمد الله: ففعلوا فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينقص منها شيء ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها وبرئ كل زمن أكل منها فلم يزالوا أغنياء أصحاء حتى خرجوا من الدنيا وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سـالت منها أشفارهم وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبل بنو إسرائيل إليها يسعون من كل مكان يزاحم بعضهم بعضا الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضه بعضا فلما رأى ذلك جعلها نوبا بينهم تنزل يوما ولا تنزل يوما فلبثوا على ذلك أربعين يوما تنزل عليهم غبا عند ارتفاع النهار فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قاموا ارتفعت عنهم إلى جو السماء بإذن الله وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم قال فأوحي الله إلى نبيه عيسى عليه السلام أن اجعل رزقي في المائدة للفقراء واليتامى والزمنى دون الأغنياء من الناس فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء من الناس وغمطوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه فى قلوب الربانيين حتى قالوا لعيسى أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء أحق ؟ فإنه قد ارتاب بها منا بشر كثير, فقال عيسى عليه السلام هلكتم وإله المسيح طلبتم المائدة من نبيكم أن يطلبها لكم من ربكم فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله. فأوحى الله إلى عيسى إني آخذ المكذبين بشرطي فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات }([4])
{فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ } الصف في زمن عيسى {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} الصف بإظهار دينهم على دين الكفار{ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) } الصف ([5])
ومما أخبر به عيسى أيضاً البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من بعده {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (6) } الصف فعيسى عليه السلام وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل وقد قام في ملإ بني إسرائيل مبشرا بمحمد وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة فعيسى كغيره من الأنبياء بلغ ذلك ليأخذ علي قومه العهود بإتباع محمد ونصرته إذا خرج فيهم { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ(81)} آل عمران
ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه ([6]) وقد أخبر الله تعالى بذلك و بين في الإنجيل والتوراة أن محمد صلى الله عليه وسلم { الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ } الأعراف
وكان عيسى كلما جاءهم بأية يكفروا بها ويحفظه الله تعالى منهم قال تعالى : {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ(110)} المائدة وخططوا لقتله ولم يمكنهم الله من قتله ورفعه إلي السماء فهو موجوداً بها إلى إن يأذن الله بنزوله آخر الزمان , وقالت اليهود ومن شايعهم من النصاري بقتل وصلب عيسى ورد الله عليهم
وهذه مؤامرة اليهود على قتل عيسى
اليهود عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه حسدوا عيسى ابن مريم لما بعثه الله بالبينات والهدى على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات التي كان يبرئ بها الأكمة والأبرص ويحيى الموتي بإذن الله ويصور من الطين طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله عز وجل إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه ومع هذا كذبوه وخالفوه وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم حتى جعل نبي الله عيسى عليه السلام لا يساكنهم في بلدة بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام , وكانوا قد أخرجوه وأمه من بين أظهرهم , ثم عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطئوا على الفتك به عليه السلام وإرادته بالسوء والصلب حين تمالئوا عليه ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان , ملك دمشق وكان كافرا مشركا من عبدة الكواكب وكان يقال لأهل ملته اليونان , وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلا يفتن الناس ويصدهم عن طاعة الملك ويفسد الرعايا ويفرق بين الأب وابنه إلى غير ذلك مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب وأنه ولد زانية حتى استثاروا غضب الملك من هذا فبعث من يأخذه إلى نائبه بالقدس وأمره أن يحتاط على هذا المذكور وينكل به ويصلبه ويضع الشوك على رأسه ويكف أذاه عن الناس فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر نفرا وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت فحصروه هنالك
فلما أحس بهم وأنه لا محالة من دخلوهم عليه أو خروجه إليهم قال لأصحابه أيكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة ؟ فانتدب لذلك شاب منهم فكأنه استصغره عن ذلك فأعادها ثانية وثالثة وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب فقال: أنت هو وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو وفتحت روزنه من سقف البيت وأخذت عيسى عليه السلام سنة من النوم فرفع إلى السماء وهو كذلك كما قال الله تعالى {ْ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا }آل عمران فلما رفع خرج أولئك النفر فلما رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك , وكان هذا من مكر الله بهم فإنه نجى نبيه ورفعه من بين أظهرهم وتركهم في ضلالهم يعمهون يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبهم وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعنادا للحق ملازما لهم وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد ولهذا قال تعالى { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(54)}
ولما قال اليهود { إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ } سلم لهم طوائف من النصارى ذلك لجهلهم وقلة عقلهم ما عدا من كان في البيت مع المسيح فإنهم شاهدوا رفعه. وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح ابن مريم وهذا كله من امتحان الله عباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات فقال تعالى وهو أصدق القائلين ورب العالمين المطلع على السرائر والضمائر الذي يعلم السر في السموات والأرض { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ (157)}
أي رأوا شبهه فظنوه إياه ولهذا قال { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ }
يعني بذلك من ادعى أنه قتله من اليهود ومن سلمه إليهم من جهال النصارى كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسعر ولهذا قال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا(157)}أي وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(158)} فالله منيع الجناب لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ ببابه حكيما في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم والأمر القديم
أما الحواريون الذين كانوا موجودين بداخل البيت مع عيسى وشاهدوا رفعه من روزنه في البيت إلى السماء افترقوا ثلاث فرق فقالت فرقة كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء فكفرت بهذه المقالة وقالت فرقة كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه فكفرت بهذه المقالة وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقاتلوها فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم }([7])
فالحواريون الذين كانوا في البيت مع المسيح وشاهدوا رفعه هم الذين اختلفوا فيه وانقسموا إلى ثلاثة فرق {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ }
فاختلف قول أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فصممت طائفة منهم وهم جمهور اليهود عليهم لعائن الله على أنه ولد زانية وقالوا كلامه هذا سحر
وقالت طائفة أخرى إنما تكلم الله
وقال آخرون بل هو ابن الله
وقال آخرون بل هو عبد الله ورسوله وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين
وجاء اجتماع بعد هذه الفُرقة ليزيدوا قول آخر في عيس أنه ثالث ثلاثة
اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع فقال بعضهم هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء فقال الثلاثة كذبت ثم قال اثنان منهم للثالث قل أنت فيه قال هو ابن الله فقال الاثنان كذبت ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه فقال هو ثالث ثلاثة الله إله وهو إله وأمه إله وهم الإسرائيلية ملوك النصارى عليهم لعائن الله قال الرابع كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا فاقتتلوا وظهروا على المسلمين فاختلفوا فيه وصاروا أحزابا , وتتابعت ابتداع الأقوال في التثليث
فالنصارى عليهم لعائن الله من جهلهم ليس لهم ضابط ولا لكفرهم حد بل أقوالهم وضلالهم منتشر فمنهم من يعتقده إلها ومنهم من يعتقده شريكا ومنهم من يعتقده ولدا وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة وأقوال غير مؤتلفة. ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولا
النصارى كان فيهم من على دين الإسلام بعدما رفع عيسى, يصلون إلى القبلة , ويصومون شهرهم , حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب , وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس , قتل جماعة من أصحاب عيسى فقال إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا وجحدنا وإلى النار مصيرنا , ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار وإني أحتال فيهم فأضُلِهم فيدخلون النار , فأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب وقال للنصارى أنا بولس عدوكم قد نوديت من السماء أن ليست لك توبة إلا أن تتنصر, فأدخلوه في الكنيسة بيتا فأقام فيه سنة لا يخرج ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل , فخرج وقال نوديت من السماء أن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه , ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم نسطورا وأعلمه أن عيسى ابن مريم إله , ثم توجه إلى الروم وقال لهم إن عيسى لم يكن بإنس فتأنس ولا بجسم فتجسم ولكنه ابن الله. وعلم رجلا يقال له يعقوب ذلك , ثم دعا رجلا يقال له الملك فقال له , إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى , فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا وقال له أنت خالصتي ولقد رأيت المسيح في النوم ورضي عني , وقال لكل واحد منهم إني غدا أذبح نفسي وأتقرب بها , فأدع الناس إلى نَحلتك (ملتك) , ثم دخل المذبح فذبح نفسه , فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته (ملته) , فتبع كل واحد منهم طائفة, فاقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا, فجميع النصارى من الفرق الثلاث , وكل من أعتنق قول من هذه الأقوال أو حمل أفكار توافق ما جاء به واحد من هؤلاء الثلاثة نسب إلى مبتدعه الأول , فمن قالوا أن عيسى إله نسبوا إلى نسطور لأنه أول من أبتدع هذا القول فالملة التي تقول بهذا القول تسمى نسطورية , وهكذا الملة التي تقول إن عيسى ابن الإله يقال لهم اليعقوبية نسبة إلى يعقوب الذي هو أول من دعاهم بهذا القول ,والملة التي تقول بأنه ثالث ثلاثة ينسبوا إلى المليكانية لأن الرجل الذي أبتدع هذا القول أسمه مالك فنسب كل من قال بالتثليث إلى مالك فهذا كان سبب شركهم فيما يقال , والله أعلم. وهذا كله في معنى قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (14) } المائدة
وهذه الأقوال الثلاثة كلما جاءهم ملك يحكمهم ومال إلى قول من هذه الأقوال الثلاث أخذ به ونصره ونصر القائلين به وخاصة إذا جاءوه بإضافات جديدة للقول وأعجب به , محا ما عاده من الأقوال وقضى على مخالفيه
وهذه قصة أخرى من قصصهم التي تبين هذا الضلال ما فعله قسطنطين بهم كما ذكرها بعض علمائهم المشاهير عندهم وهو سعيد بن بطريق بترك الأسكندرية في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية تحدث في هذا التاريخ على ما مضى من اجتماعاتهم أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة , وكانت النصارى بعد أن رفع الله تعالى المسيح عليه السلام إلى السماء تفرفت أصحابه شيعا بعده فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله وآخرون قالوا هو الله وآخرون قالوا ([8]) هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالتهم في القرآن ورد على كل فريق
فاستمروا على ذلك قريبا من ثلثمائة سنة ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له قسطنطين فدخل في دين النصرانية قيل حيلة ليفسده فإنه كان فيلسوفا وقيل جهلا منه إلا أنه بدل لهم دين المسيح ، أنهم لما جمعهم قسطنطين في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم فكان جماعة الأساقفة, اختلفوا عليه اختلافا لا ينضبط ولا ينحصر فكانوا أزيد من ألفين أسقفا فكانوا أحزابا كثيرة كل خمسين منهم على مقالة وعشرون على مقالة ومائة على مقالة وسبعون على مقالة وأزيد من ذلك وأنقص. فلما رأى منهم عصابة قد زادوا على الثلثمائة بثمانية عشر نفرا وقد توافقوا على مقالة فأخذها الملك ونصرها وأيدها وكان فيلسوفا داهية فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم ومحق ما عداها من الأقوال فوضعوا له الأمانة الكبيرة ([9]) بل هي الخيانة العظيمة ووضعوا
له كتب القوانين وشرعوا له أشياء أحدثوا فيها الأمانة التي يلقنونها
الولدان من الصغار ليعتقدوها ويعمدونهم عليها وابتدعوا بدعا كثيرة وحرفوا دين المسيح وغيروه فابتنى لهم حينئذ الكنائس الكبار في مملكته كلها ببلاد الشام والجزيرة والروم فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثني عشر ألف كنيسة
وبنت أمه هيلانة كنيسة القمامة ([10]) على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي يزعم اليهود أنه المسيح وقد كذبوا بل رفعه الله إلى السماء (وجاءت لهم ببدعة السجود للصيب وتعظيمه وأخذت الصليب إلى روما)
هذا قسطنطين وما فعله فقد بدل لهم دين المسيح وحرفه وزاد فيه ونقص منه وصلوا إلى المشرق وأحل في زمانه لحم الخنزير , أمه جآتهم ببدعة الصليب وهو باستحلال أكل الخنزير والمبالغة في محبته , وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون وصار دين المسيح دين قسطنطين وبنى المدينة المنسوبة إليه القسطنطينية (وكان مكانها مدينة صغيرة تسمى بيزنطية) ([11]) واتبعه طائفة الملكية منهم وهم في هذا كله قاهرون لليهود أيده الله عليهم لأنه أقرب إلى الحق منهم وإن كان الجميع كفارا عليهم لعائن الله , وأتباع هؤلاء هم الملكانية.
ثم إنهم اجتمعوا مجمعا ثانيا فحدث فيهم اليعوقوبية وهم القائلين إن عيسى ابن الله ثم مجمعا ثالثا فحدث فيهم النسطورية وهم القائلين إن
عيسى الإله وكل هذه الفرق كل فرقة منهم تكفر الفرقة الأخرى ونحن نكفر الثلاثة لأن الله تعالى كفر هؤلاء الثلاثة , وقد بين كذبهم في كل افتر أتهم ([12]) هذه وبين أن عيسى عبد الله ورسوله , ونفى عيسى ما
يقولونه أنه الإله عندما أثبت عبوديته لله تعالى عندما أمر قومه وهو في مهده وأخبرهم إذ ذاك أن الله ربه وربهم وأمرهم بعبادة الله {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(36) }
والله تعالى الذي له الأديان كفر من يقول إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ(72)} المائدة
ونفى الله أن يكون عيسى أو غيره ابناً له سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون فقد نزه الله تعالى نفسه المقدسة فقال {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ } سبحانه عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علوا كبيرا ([13]) , والله تعالى بين أنه خلق عيسى عبدا نبيا بكن فكان {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(35)}
إذا أراد شيئا فإنما يأمر به فيصير كما يشاء فإن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فكان , لذا قال تعالى {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ } لن يأنف ولن يحتشم, ولن يمتنع
المسيح ولن يتنزه من العبودية ولن ينقطع عنها ولن يعيبها ومع ذلك قال تعالى لأصحاب هذه المقالة {انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } تنزيها عن أن يكون له ولد بل {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فلا شريك له, وعيسى ومريم من جملة ما في السموات وما في الأرض, وما فيهما مخلوق, فكيف يكون عيسى إلها شريك لله وهو مخلوق أو تكون أمه مريم إله شريكة لله وهي مخلوقة فكيف يكون مع الله شريك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا(3)} الجن فأصحاب هذا القول الذين
يقولون إن الله ثالث ثلاثة قال لهم الله تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ([14]) انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ
وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا(171)}
وبين الله تعالى الذي له الأديان أن من قال بالتثليث فقد كفر وله عذاب شديد {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(73)} المائدة
وعندما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم أخر الأنبياء والمرسلين كتب إلى أهل نجران من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد
فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام" فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه ففذع به وذعره ذعرا شديدا وبعث , إليه وفد من نصارى نجران ستون راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم وأمرهم يؤول إلى ثلاثة منهم وهم العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم وأبو حارثه بن علقمة
وكان أسقفهم([15]) صاحب مدارستهم وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها وشرفوه وبنوا له الكنائس وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وشأنه ما علمه من الكتب المتقدمة ولكن حمله ذلك على الاستمرار في النصرانية لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها
فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه فلم يرد عليهم وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم
فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس فقالوا يا عثمان ويا عبدالرحمن إن نبيكم كتب إلينا كتابا فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا وتصديقنا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما أترون أن نرجع؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال علي لعثمان وعبدالرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم يعودون إليه ففعلوا فسلموا عليه فرد سلامهم ثم قال "والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم
فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة والعاقب عبد المسيح والسيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون: هو الله ويقولون: هو ولد الله ويقولون: هو ثالث ثلاثة تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسلما" قالا قد أسلمنا قال "إنكما لم تسلما فأسلما" قالا: بلى قد أسلمنا قبلك قال "كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير([16])
ثم سألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له ما تقول في عيسى فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى يسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى" فأصبح الغد وقد أنزل الله الآيات إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم في صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره وقال تعالى {َ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(61)}
قال تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم" أي نحضرهم في حال المباهلة ثم نبتهل أي نلتعن فنجعل لعنة الله على الكاذبين أي منا ومنكم
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(62)} هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63) } آل عمران
من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به وسيجزيه على ذلك شر الجزاء وهو القادر الذي لا يفوته شيء
فأبوا أن يقروا بذلك , لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبيتهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم أن ردوا ذلك عليه , دعاهم رسول الله إلى المباهلة فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ثم انصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم. ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم فإن كنتم أبيتم إلا ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة
فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ونرجع على ديننا , قال كبيرهم لرسول الله بعد مشاورتهم إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك فقال وما هو؟ فقال حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل وراءك أحدا يثرب عليك ؟ فقال سل صاحبي فسألهما فقالا ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأيه فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبي صلى الله عليه وسلم لنجران إن كان عليهم حكمه , في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل عليهم وترك ذلك كله لهم على ألفي حلة في كل رجب ألف حلة وفي كل صفر ألف حلة وذكر تمام الشروط
ووفودهم كان في سنة تسع وكان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقالوا ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكـم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا فإنكم عندنا رضا
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح وقال اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه فلما قام أبو عبيدة قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم هذا أمين هذه الأمة
فهؤلاء وأمثالهم يدخلون في وعيد الله {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ(37)} تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله وافترى وزعم أن له ولدا أو شريك ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة وأجلهم حلما وثقة بقدرته عليهم فإنه الذي لا يعجل على من عصاه { إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته }
{ لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم }
ومع ذلك يحذرهم من غلوهم وقولهم على الله غير الحق ويقول لهم
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء فهذا كثير في النصارى فانهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه , بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا أو ضلالا أو رشادا أو صحيحا أو كذبا ولهذا قال الله تعالى : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31) } التوبة
{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)} إبراهيم الله تعالى علام الغيوب الذي نفى بعلمه أن يكون عيسى طلب منهم أن يتخذوه إله كما بين ذلك في كتابه الذي أنزله عل محمد صلى الله عليه وسلم {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ (79) } آل عمران
وهذا مما يخاطب الله به عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رءوس الأشهاد ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ {إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقر بها فيقول { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ } المائدة الآية ثم يقول { يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ (116)} المائدة إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا رب فإنه لا يخفى عليك شيء فما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب
{ تدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون فيقولون عَطِشنا يا ربنا فاسقنا [فيقال : اشربوا ] فيشار إليهم ألا تَرِدُون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار}([17])
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنْ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(38)} مريم
فالكفار يوم القيامة يكونون أسمع شيء وأبصره { وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ(12)} السجد ة يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئا
ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة لكن الظالمون اليوم في الدنيا في ضلال مبين لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون , فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون
كما كابر قيصر الروم عندما بلغه خبر محمد وما أنزل عليه وعرف أنه الحق لكنه فضل الملك على دخول الإسلام وكما فعل رؤساء وفد نجران عندما عرفوا أن محمد نبياً وأخبرهم بالحق لكنهم فضلوا البقاء على ما هم عليه من كفر ولا يخسروا مكانتهم في مجتمعاتهم
أما {من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل }
كأمثال النجاشي ملك الحبشة عندما بلغه ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وعرف أنه الحق ففاضت عيناه وأمن برسول الله وأسلم ولم يكابر وترك دين النصارى ودخل الإسلام
وبعد نزول عيسى من السماء أخر الزمان الكل يدخل الإسلام يهود ونصارى ويؤمنوا بأن عيسى رسولاً {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا(159)} النساء
يعني قبل موت عيسى فإن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال فتصير الملل كلها واحدة وهي ملة الإسلام الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام
لأن عيسى حي الآن عند الله ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون البر والفاجر , لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موت عيسى عليه السلام
وفي هذا تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك ثم إنه رفعه إليه وإنه باق حي وإنه سينزل قبل يوم القيامة , وليس كما تقول النصارى أنه ينزل يوم القيامة ليقضي بين الخلائق ليؤكدوا أنه الإله تعالى الله عما يقولون بل هو عيسى رسول الله ينزل قبل يوم القيامة فيقتل مسيح الضلالة ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف , فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم , قبل موت عيسى ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض
ووجود عيسى عليه السلام وبقاء حياته في السماء وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ليكذب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه وتصادمت وتعاكست وتناقضت وخلت عن الحق
وهذه قصة نزول عيسى وتشمل أحوال العالم قبل خروج الدجال وبعد خروجه حتى ينزل عيسى فيقضي عليه وعلى الشر كله وينشر الإسلام ولا يقبل دين غيره ثم خروج يأجوج ومأجوج وقبول الله دعاء عيسى عليهم فيهلكوا وتقترب الساعة
نزول عيسى ابن مريم من السماء في آخر الزمان
وأحوال العالم قبل نزوله
( تكون بينكم وبين بني الأصفر ( أي أبناء الروم ) هدنة ، ثم تغزون أنتم وهم عدواً فتنصرون ، ثم تنزلون مرجاً (مكان يرعى فيه الإبل ) فيرفع رجل من أهل الصليب الصليب فيقول غلب الصليب ، فيغضب رجل من المسلمين فيقوم إليه فيدفعه ، فعند ذلك تغدر الروم فيجتمعون للملحمة الكبرى ، فيأتون تحت ثمانين غابة ( راية ) تحت كل غابة اثنا عشر ألفاً ( وجملة العدد المشار إليه تسعمائة ألف وستون ألفاً , والروم لم تجتمع إلى الآن ولا بلغنا أنهم غزوا في البر في هذا العدد مليون إلا أربعين ألف مقاتل فهي من الأمور التي لم تقع بعد , وهذا فيه بشارة ، وذلك أنه دل على أن العاقبة للمؤمنين مع كثرة ذلك الجيش )
لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق ( موضعين بالشام قرب حلب ) فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم (أي الذين أخذهم المسلمون أسرى من الروم ثم أسلموا وجاهدوا في صفوف المسلمين ) فيقول المسلمون لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فيهزم ثلث ( يخرج ثلث جيش المسلمين لمقاتلة الروم فيرتد هذا الثلث ويهزم ) ولا يتوب الله عليهم أبدا , ويقتل ثلث ( يخرج الثلث الثاني من جيش المسلمين فيُقتلوا وينالوا جميعا الشهادة) وهم أفضل الشهداء عند الله ويفتح الثلث ( يخرج الثلث الثالث من جيش المسلمين يحدث على أيديهم النصر ) لا يفتنون أبدا , فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون ( هذه إشارة إلى أن هذه الواقعة تكون بالسيوف وليست بالأسلحة النووية أو الذرية ) إذ صاح فيهم الشيطان إن المسيح قد خلفكم في أهليكم , فيبعثون عشرة فوارس طليعة ، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ , فيخرجون فإذا جاءوا الشام خرج , وبين الملحمة وفتح المدينة القسطنطينية ست سنين ويخرج الدجال في السابعة ,لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم عليه السلام أعظم من فتنة الدجال وإن الله لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد ويأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها ثم يأمر الله السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها ثم يأمر الله عز وجل السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فلا تقطر قطرة ويأمر الأرض أن تحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء فلا تبقى ذات ظلف ([18]) إلا هلكت إلا ما شاء الله والذي يُعيش الناس في ذلك الزمان التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة إنه شاب قطط ( أي الدجال شاب قبيح الوجه) من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج من خلة (طريق) بين الشام والعراق فيعيث يمينا ويعيث شمالا , لبثه في الأرض أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم وآخر أيامه كالشررة يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسى وما إسراعه في الأرض كالغيث استدبرته الريح , يخرج الدجال في نقص من الدنيا وخفة من الدين وسوء ذات بين فيرد كل منهل ( يرد كل المشارب ) , سأصفه لكم صفة , إنه يخرج أولاً فيدعي الإيمان والصلاح ثم يدعي النبوة ثم يدعي الألوهية
الدجال ليس به خفاء ، يجيء من قبل المشرق فيدعو إلى الدين فَيُتبَع ويَظهر ، فلا يزال حتى يقدم الكوفة فَيُظهِر الدين ويُعمل به فَيُتبَع ويَحثُ على ذلك ، ثم يدعي أنه نبي فَيَفزعُ من ذلك كل ذي لب ويفارقه
ويتوجه الدجال فينزل عند باب دمشق الشرقي ثم يلتمس فلا يقدر عليه ، ثم يرى عند المياه التي عند نهر الكِسوة ( بالشام )، ثم يطلب فلا يدرى أين توجه , فيختفي ، ثم يظهر بالمشرق في صورة ملك من الملوك الجبابرة , فيعطي الخلافة , وينصره سبعون ألف من التتار وخلق من أهل خرسان ، ثم يخرج من المشرق من أرض خرسان من بلد أصبهان من حارة يقال لها اليهودية يتبعه سبعون ألف من يهود أصبهان عليهم الطيالسة ويكون للمسلمين ثلاثة أمصار مصر بملتقى البحرين ومصر بالحيرة (واد قرب الكوفة ) ومصر بالشام ففزع الناس ثلاث فزعات فيخرج الدجال في أعراض الناس فيهزم من قبل المشرق فأول مصر يرده المصر الذي بملتقى البحرين فيصير أهلها ثلاث فرق فرقه تقول نقيم نشامة (علامة) ننظر ما هو وفرقة تلحق بالأعراب وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم ومع الدجال سبعون ألفا عليهم التيجان وأكثر من معه اليهود([19]) والنساء فيدعي الأولهية فيقول أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا وإنه أعور وإن ربكم عز وجل ليس بأعور وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب أعور العين اليمنى عينه
طافية كأن عينه عنبة طافية وهو عقيم لا يولد له وإن من فتنته أن معه جنة ونارا فناره جنة وجنته نار فمن ابتلى بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه بردا وسلاما كما كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم , وإن من فتنته أن يقول لأعرابي أرأيت إن بعثت لك أمك وأباك أتشهد أنى ربك ؟ فيقول نعم فيتمثل له. شيطان في صورة أبيه وأمه فيقولان يا بني اتبعه فإنه ربك , وإن من فتنته , يأتي على قوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت , إن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت وإن من فتنته أن يمر بالحي ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فيكذبونه فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت وأسبغه ضروعا وأمده خواصر حتى تروح
مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظم ويمر بالخربة فيقول لها
أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل
ومعه جبال من خبز ولحم ونهر من ماء إن معه الطعام والشراب , ويأتي النهر فيأمره أن يسيل إليه فيسيل ، ثم يأمره أن يرجع فيرجع ، ثم يأمره أن ييبس فييبس
وتطوي له الأرض طي فروة الكبش , ويأتي الدجال من قبل المشرق همته المدينة , وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة والمدينة , فإنه لا يأتيهما من نقب من نقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة , ولا يدخل المدينة رعب الدجال ، ولها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان يذبان عنها رعب المسيح , ويجيء الدجال فيصعد أحداً فيتطلع فينظر إلى المدينة فيقول لأصحابه ألا ترون إلى هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد , ثم ينزل في ناحية المدينة ، ينزل بعض السباخ التي في المدينة فيأتي سبخة الجُرف مكان بطريق المدينة من جهة الشام على بعد ميل منها عند الظريب الأحمر الطريق الأحمر عند منقطع السبخة , فيضرب رواقه أي بواقه الذي ينفخ فيه فيعرف أهل البلدان أن الدجال نزل بالمكان , فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه فتخلص المدينة ، فينفى الخبث منها كما ينفي الكير خبث الحديد ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص
فيخرج إليه يومئذ ، رجلا ممتلئا شبابا رجل هو خير الناس فتلقاه المسالح ، مسالح الدجال ، فيقولون له أين تعمد ؟ فيقول أعمد إلى هذا الذي خرج ، فيقولون له أو ما تؤمن بربنا ؟ فيقول ما بربنا خفاء ، فيقولون اقتلوه ، فيقول بعضهم لبعض أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدا دونه ، فينطلقون به إلى الدجال ، فإذا رآه المؤمن قال يا أيها الناس ! هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمر الدجال به فيشج ، فيقول خذوه وشجوه ، فيوسع ظهره وبطنه ضربا فيقول أو ما تؤمن بي ؟ فيقول أنت المسيح الكذاب ، فيؤمر به فيضربه بالسيف فينشره فيقطعه جزلتين حتى يُلقى شقتين ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول انظروا إلى عبدي هذا فإني أبعثه الآن ثم يزعم أن له ربا غيري ثم يدعوه يقول له قم ، فيبعثه الله , فيستوي قائما فيقبل ويتهلل وجهه يضحك , فيقول له الخبيث من ربك فيقول ربى الله وأنت عدو الله الدجال، فيقول له أتؤمن بي ؟ فيقول والله ما كنت بعد أشد بصيرة بك منى اليوم، ثم يقول يا أيها الناس ! إنه لا يفعل بأحد بعدي من الناس ، فيأخذه الدجال ليذبحه ، فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا ، فلا يستطيع إليه سبيلا ، فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به ، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار ، وإنما ألقي في الجنة هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين , ذلك الرجل أرفع الأمة درجة في الجنة ، لا يسلط على أحد بعده , فيغلب الدجال على خارج المدينة ويمنع داخلها ، ثم يأتي إيليا فيحاصر عصابة من المسلمين, ثم يقصد بيت المقدس , وينحاز المسلمون إلى عقبة أفيق ( بين دمشق وبحيرة طبرية ) فيبعثون سرحا لهم فيصاب سرحهم فيشتد ذلك عليهم ويصيبهم مجاعة شديدة وجهد شديد حتى إن أحدهم ليحرق وتر قوسه فيأكله فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من الشجر , يا أيها الناس أتاكم الغوث ثلاثا فيقول بعضهم لبعض إن هذا لصوت رجل شبعان وينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند صلاة الفجر ينزل عند المنارة البيضاء شرفي دمشق منارة الجامع الأموي واضعا كفيه على أجنحة ملكين وهو رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ربعة أحمر كأنه خرج من ديماس يعني الحمام عليه ثوبان ممصران ( ثوبان فيهما صفرة خفيفة ) كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤة (كأن رأسه يقطر كأشكال اللؤلؤ ) ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف , والعرب يومئذ قليل وجلهم يومئذ ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم عليه السلام إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند صلاة الفجر فرجع ذلك الإمام يمشى القهقرى ليتقدم عيسى عليه السلام ويقول له أميرهم يا روح الله تقدم صل فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول تقدم فصل فإنها لك أقيمت , هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض فيتقدم أميرهم فيصلي بهم إمامهم حتى إذا قضى صلاته انصرف قال عيسى افتحوا الباب فيفتح ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وتاج وأخذ عيسى حربته فذهب نحو لدجال فإذا نظر إليه الدجال إذا رآه عدو الله أنطلق هارباً فيقول عيسى إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها فيدركه عند باب اللد الشرقي (بفلسطين ), وقد قال عيسى عهد إلي ربي عز وجل أن الدجال خارج ومعي قضيبان فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص فيهلكه الله إذا رآني ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده فيضع حربته بين ثندوته (أي في صدره بين لحم الثدييين ) فيقتله فيريهم دمه في حربته , ويهزم الله أصحابه اليهود يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر , لَتٌقاتِلُن اليهود فَلتقتُلنُُهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي فتعال فاقتله فلا يبقى شيء مما خلق الله تعالي يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة إلا الغرقدة فإنها من شجرهم الغرقد فإنه من شجر اليهود لا تنطق وليس يومئذ شيء يواري منهم أحدا حتى إن الشجرة تقول يا مؤمن هذا كافر ويقول الحجر يا مؤمن هذا كافر" يا عبد الله هذا يهودي فتعالى اقتله الحجر والشجر يقول يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله فيهلكهم الله فيكون عيسى ابن مريم في أمة محمد حكما عدلا وإماما مقسطا ( يحكم بالقرآن وليس بالإنجيل ) فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير ويفيض المال حتى لا يقبله أحد وحتى تكون السجدة خيرا له من الدنيا وما فيها , وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين , وترتفع الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعُون إلى المال فلا يقبله أحد ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ثم تقع الآمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل والنمار مع البقر ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم وتنزح حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره وتفر الوليدة الأسد فلا يضرها ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله وتضع الحرب أوزارها وتسلب قريش ملكها وتكون الأرض لها نور الفضة وتنبت نباتها كعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم ويكون الثور بكذا وكذا من المال ويكون الفرس بالدريهمات ويرخص الفرس أنها لا تركب لحرب أبدا ويغلى الثور لأنه يحرث الأرض كلها ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم , ولا ينجوا من الدجال إلا اثنا عشرة ألف رجل وسبعة آلاف امرأة ثم يأتي عيسى قوما قد عصمهم الله من الدجال فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج ([20])
وهذه قصة يأجوج ومأجوج
يأجوج ومأجوج عراض الوجوه, صغار العيون, صهب الشعاف, من كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة ( أي وجوههم عريضة ووجناتهم مرتفعة ) أقل ما يترك أحدهم لصلبه ألفاً من الذرية وهم من سلالة آدم عليه السلام, بل هم من نسل نوح ([21]) من أولاد يافث , أبي الترك , والترك تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين
قال تعالى مخبراً عن ذي القرنين عندما سلك طريقاً من مشارق الأرض حتى إذا بلغ بين السدين وهما جبلان متناوحان بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك فيعيثون فيها فساداً ويهلكون الحرث والنسل { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا(93)} الكهف لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس وما يعانون من أذى يأجوج ومأجوج لهم { قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا(94) } الكهف
أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالاً يعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم سداً فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير { مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } الكهف إن الذي أعطانيه الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه أتمدوننيّ بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم , قال ذو القرنين الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ولكن ساعدوني بقوة أي بعملكم وآلات البناء { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95)آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } الكهف آتوني قطع الحديد وهي كاللبنة يقال كل لبنة زنة قنطار أو تزيد عليه {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} الكهف وضع بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولاً وعرضاً { قَالَ انفُخُوا } الكهف أجج عليه النار حتى صار كله ناراً { حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا(96)} وهو النحاس المذاب{فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا(97)}الكهف فلم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإحكام بنائه وصلابته وشدته
فقد أخبر تعالى عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا من فوق هذا السد ([22]) ولا قدروا على نقبه من أسفله , ولا على شيء منه , لما بناه ذو القرنين {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)} الكهف رحمة بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلاً يمنعهم من العيث في الأرض والفساد, { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي } الكهف إذا اقترب الوعد الحق { جَعَلَهُ دَكَّاءَ } الكهف ساواه بالأرض طريقاً كما كان{ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا(98) } الكهف كائناً لا محالة{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في
بعض (99)} الكهف الناس يومئذ, يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس حين يخرجون ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم
إنهم ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً فيعودون إليه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ألقى الله على لسان رجل منهم يقول نجيء غداً فنخرج ويلهمون أن يقولوا إن شاء الله فيقول الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله فيعيده الله كما كان فيعودون إليه كهيئته حين تركوه فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم, ويخرجون على الناس فيطؤن بلادهم فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه وفي حال خروجهم يسرعون في المشي إلى الفساد, من الأرض المرتفعة إنهم من كل حدب ينسلون كالصبيانً ينزو بعضهم على بعض وهم يلعبون ولا يمرون على ماء إلا شربوه فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية (بالأردن ) فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء , فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم, ويضمون إليهم مواشيهم, ويشربون مياه الأرض , تمر الزمرة الأولى بالبحيرة فيشربون ماءها, ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها, ثم تمر الزمرة الثالثة فيقولون قد كان ههنا مرة ماء , وكذلك يمر بعضهم بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً, حتى أن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول قد كان ههنا ماء مرة فينشفون المياه فيفر الناس منهم , ويتحصن الناس منهم في حصونهم , حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة, قال قائلهم هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء , ثم يهز أحدهم حربته, ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة , فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء يقولون غلبنا أهل الأرض وأهل السماء فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه يدعو الله عليهم , فيقول: اللهم لا طاقة ولا يد لنا بهم, فاكفناهم بما شئت , فيسلط الله عليهم دوداً يقال له النغف, فيفرس رقابهم , يبعث الله عليهم نغفاً في رقابهم دوداً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه فيقتلهم بها فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس فيهلكهم ويميتهم , فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة , فيقول المسلمون ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو ؟ فيتجرد رجل منهم محتسباً نفسه قد أوطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض, فينادي يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم, فيخرجون من مدائنهم وحصونهم, ويسرحون مواشيهم, فما يكون لهم رعي إلا لحومهم, فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته , إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكراً من لحومهم ودمائهم ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله , يبعث الله عليهم طيراً تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر, ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيجترف أجسادهم فتطرحهم بالمهبل,(منزل) مطلع الشمس حتى يقذفهم في البحر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ويبعث الله عيناً يقال لها الحياة يطهر الله بها الأرض وينبتها , يقال.للأرض أخرجي ثمرك ودري بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك الله في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر تكفي الفخذ, والشاة من الغنم تكفي أهل البيت وينزل عيسى الروحاء فيحج منها يطوف بالبيت واضعا يديه على منكبي رجلين ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج
ويأتي الصريخ أن ذا السويقتين يريده, فيبعث عيسى ابن مريم طليعة سبعمائة أو بين السبعمائة والثمانمائة حتى إذا كانوا ببعض الطريق, يتوفى عيسى ويصلي عليه المسلمون, ويدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته, ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته يبعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فيقبض الله روح كل مؤمن وكل مسلم حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فيتمثل لهم الشيطان فيقول ألا تستجيبون فيقولون فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار رزقهم عيشهم حسن وهم شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة والساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارا ثم ينفخ في الصور
فهذه الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي بينت صفة نزول عيسى عليه السلام ومكانه من أنه بالشام وأنه يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وتقرير وتشريع وتسويغ له على ذلك في ذلك الزمان حيث تنزاح عللهم وترتفع شبههم من أنفسهم ولهذا كلهم يدخلون في دين الإسلام متابعين لعيسى وعلى يديه ولهذا قال تعالى {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ (159)} النساء
ونزوله بعد خروج الدجال الذي يقتله الله على يديه ويبعث الله في أيامه يأجوج ومأجوج فيهلكهم الله تعالى ببركة دعائه
وعيسى عليه السلام يمكث في الأرض بعد نزوله سبع سنين وقد رفع وله ثلاثه وثلاثون سنة فيكون مجموع إقامته في الأرض قبل رفعه وبعد نزوله الأرض أربعين سنة
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ }
هذا القصص الذي ذكره الله ليبين لنا حقيقة اليهود والنصارى الكفار المشركين بالله حتى لا ينخدع بهم أحد من المسلمين ويظن أن عندهم هدي فيعجب بهم أو بنهجهم في الحياة أو بأفكارهم أو يميل إليهم أو يرضى بهم أو يسعى لكسب رضاهم فليعلم من يفعل هذا أنهم لا يرضون عنه حتى يجردوه من دينه ويكون قد خسر أخرته مع دنياه
{َلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ(120)} البقرة
أخي المسلم إن هؤلاء النصارى المضلولين والذين يضلون أيضاً بنشر كفرهم وشركهم بما يسمونه بالتبشير يبذلون كل ما يملكون من مصادر قوتهم لمحاربة الإسلام وأهله غدراً إلى أن يقضي عليهم أهل الإسلام بفتح مدينتهم العظمى القسطنطينية في الملحمة الكبرى التي أخبر بها محمداً صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى بل يخبر بالوحي ولا تقوم لهم قائمة بعدها ونحن أتينا بهذه الإخباريات لتعلم أن العاقبة للمتقين وليست بكثرة الجيوش وكثرة عدتهم
إن المسلم لا بد أن يكون واعي وعلى بصيرة بكل مكايد أعداء الله له ولدينه إننا لازلنا نجد من يقول ما الفائدة من هذه المواضيع ؟ نحن نريد أشياء تنفعنا , أنظر عندما يكون هذا تفكير مسلم , كأنه يقول ما أخبرنا به في الكتاب أو السنة لا ينفعنا ولم يخطر بباله أن الله لم يقص علينا هذا في كتابه ولم يخبرنا به نبيه صلى الله عليه وسلم إلا ليعلم المسلم أن أعداء الله هم أعدائه فيتخذهم عدو وأن عدو المسلم هو عدو دينه فإن لم ينتبه المسلم لهذا فماذا يفعل وقت الفتن العظيمة كخروج الدجال حيث يبعث معه من الشبهات ويفيض على يديه التمويهات ما يسلب ذوي العقول عقولهم ويخطف من ذوي الأبصار أبصارهم ومجيئه بجنة ونار وإحياء الميت على حسب ما يدعيه و تقويته على من يريد إضلاله تارة بالمطر والعشب وتارة بالأزمة والجدب وغيرها من الفتن التي ينبهر بها السذج والمغفلين وطلاب الدنيا
إن مع كل هذه الفتن التي مع الدجال وادعاء الألوهية يخرج له شاباً ويقول له أمام أتباعه في وسط مسلحته إنك الدجال الكافر ولا يهابه ولا يخافه لماذا ؟ لأنه علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بهذا وغير هذا الشاب كثيرون ممن يجدوا مع الدجال من هذه الخوارق فيعلمون أنه الدجال الكافر فيزداد إيمانهم بالله ولا يضرهم الدجال بما معه . لماذا ؟ لأنهم تعلموا ما أخبر به الله تعالى ورسوله فنتفعوا بفائدة العلم
كيف يعرف المسلمين عيسى عليه السلام عند نزوله ؟ حتى إن أمير المسلمين وإمامهم وقت إقباله على الصلاة فيرى عيسى فيعرفه ويقدمه للصلاة , بما عرفه ؟ عرفه بالعلم بهذه الإخباريات التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخي المسلم إنك لا بد أن يكون عندك بصيرة والبصيرة لا تأتي إلا بالعلم والعلم لا يأتي إلا بالتعلم فعليك بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله لن تضل أبدا
[1] البلسان: شجر صغار كشجر الحناء، يتنافس في دهنها, لا ينبت إلا بعين شمس التي بظاهر القاهرة
ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم, وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة وغيرهم من الملوك عندما يهاديهم به ملوك مصر موقعا جليلا جدا وتكون أحب إليهم من كل هدية لها قدر
[2] ذكر القرطبي نقلاً من تاريخ مصر
[3] { إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون }
[4] قال ابن كثير رحمه الله أثر غريب جدا قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم وأكمل والله سبحانه وتعالى أعلم. وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى ابن مريم إجابة من الله لدعوته كما دل علي ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم , وهو الذي عليه الجمهور أنها نزلت وهذا القول هو والله أعلم الصواب
[5] وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب وجد المائدة هنالك مرصعة باللآلئ وأنواع الجواهر فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بأني جامع دمشق فمات وهي في الطريق فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده فرآها الناس فتعجبوا منها كثيرا لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة ويقال إن هذه المائدة التي وجدوها كانت لسليمان بن داود فالله أعلم
[6] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { بعثت إلى الناس كافة } البخاري 438
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار} مسلم 153
وفي لفظ { ثم لم يؤمن بي دخل النار} وفي لفظ{ فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار} وفي لفظ { فلم يؤمن بي لم يدخل الجنة}
وفي لفظ {والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار}
وهذه بعض تخاريج هذه الألفاظ الطيالسي 1/ 69-ح 509 , المسند 2/317-ح8188 , 2/350-ح8594 , المسند 4/396-ح19554, المسند 4/398-ح19580 , الحاكم 2/372- ح3309 , النسائي في الكبرى 6/364-ح11241
وهذا يقضي مع الشهادة بوحدانية الله الشهادة بأن محمد رسول الله وإتباعه , فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اليهودي أو النصراني يجب عليه الإيمان به رسولاً والإيمان بما أرسل به ولا يقول أنه غير مرسل لأهل الكتاب وإنما هو مرسل للعرب فمن قال هذا مثله مثل من قال إن موسى كان رسولاً ولم يجب عليه أن يدخل أرض الشام ولا يخرج بني إسرائيل من مصر وأن الله لم يأمره بذلك ولا أنزل عليه التوراة ولا كلمه على الطور ومثل من يقول إن عيسى كان رسول الله ولم يبعث إلى بني إسرائيل ولا كان يجب على بني إسرائيل طاعته وأنه ظلم اليهود وأمثال ذلك من المقالات التي هي أكفر المقالات ولهذا قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا(150)} النساء
الفوزان الإرشاد إلى صحيح الأعتقاد ص183
[7] صحح إسناده ابن كثير من رواية ابن أبي حاتم لابن عباس عند شرح الآية 158 من سورة النساء
من تاريخ ابن خلدون نقلاً من كتبهم يقولون كان عيسى قد أبلغ الحواريين بأنه يشبه على اليهود في شأنه فقتل ذلك الشبه و صلب ، و أقام سبعاً . وجاءت أمه تبكي عند الخشبة فجاءها عيسى وقال مالك تبكي؟ قالت عليك . قال إن الله رفعني ولم يصبني إلا خير وهذا شيء شبه لهم ، وقولي للحواريين يلقوني بمكان كذا . ( قلت كأن هذا الكلام تمهيداً لما سيأتي من ذهاب الحواريون إلى المدن فيكون فيه توثيق لإرسالهم من عيسى) فانطلقوا إليه وأمرهم بتبليغ رسالته في النواحي ، كما عين لهم من قبل . وعند علماء النصارى أن الذي بعث من الحواريين إلى رومة بطرس و معه بولس من الأتباع و لم يكن حوارياً ، و إلى أرض السودان والحبشة ويعبرون عن هذه الناحية بالأرض التي تأكل أهلها والناس ، وأندراوس إلى أرض بابل ، والمشرق توماس ، وإلى أرض أفريقية فيلبس ، وإلى أفسوس قرية أصحاب الكهف يوحناس وإلى أورشيلم وهي بيت المقدس يوحنا ، وإلى أرض العرب والحجاز برتلوماوس ، وإلى أرض برقة والبربر شمعون القناني
وبطرس كبير الحواريين وبولص اللذان بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة فإنهما مكثا هنالك يقيمان دين النصرانية ، ثم كتب بطرس الإنجيل بالرومية و نسبه إلى مرقص تلميذه ، و كتب متى إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس و نقله من بعد ذلك يوحنان بن زيدي إلى رومة ، و كتب لوقا إنجيله بالرومية و بعثه إلى بعض أكابر الروم ، و كتب يوحنا بن زيدي إنجيله برومة . ثم اجتمع الرسل الحواريون برومة و وضعوا القوانين الشرعية لدينهم و صيروها بيد إقليمنطس تلميذ بطرس ، و كتبوا فيها عد الكتب التي يجب قبولها ، فمن القديمة : التوراة خمسة أسفار ، و كتاب يوشع بن نون ، و كتاب القضاة ، و كتاب راعوث ، و كتاب يهوذا ، و أسفار الملوك أربعة كتب ، و سفر بنيامين ، و سفر المقباسين ثلاثة كتب ، و كتاب عزرا الإمام ، و كتاب أشير ، و كتاب قصة هامان ، و كتاب أيوب الصديق ، و مزامير داود النبي ، و كتب ولده سليمان خمسة ، و نبوات الأنبياء الصغار و الكبار ستة عشر كتاباً ، و كتاب يشوع بن شارخ . و من الحديثة : كتب الإنجيل الأربعة ، و كتب القتاليقون سبع رسائل ، و كتاب بولس أربع عشرة رسالة ، و الإبركسيس و هو قصص الرسل و يسمى أفليمد ثمانية كتب تشتمل على كلام الرسل و ما أمروا به و نهوا عنه
[8] ما كان من اليهود قبل إرسال عيسى غير متبعين لدين موسى عليه السلام ومكذبين ومحاربين ومقتلين لأنبياء عصورهم فهم كفار , وأما من كانوا يؤمنون بما جاء به موسى ومتبعين لأنبياء عصرهم فهم مسلمين فلم أرسل عيسى عليه السلام فمن قال منهم أنه ولد زنى وكذا من قال أن أمه زانية ومن شاهد معجزاته وكذب به وقال إنه ساحر أو من شاهد منهم المائدة وكذب بها فقد كفر كل هؤلاء , أما من تبع عيسى من اليهود أو غيرهم فهم مسلمين , فلما رفع الله عيسى إلى السماء فمن قال منهم أنه إله أو أنه ابن الإله أو أله أمه أو قال أنه ثالث ثلاثة فكل هؤلاء كفروا , أما من قالوا أن عيسى عبد الله ورسوله فهؤلاء مسلمين إلى أن بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم فمن أمن به منهم ومن غيرهم واتبعوا ما حاء به فهم المسلمين ومن لم يؤمن بمحمد منهم أو من غيرهم فهؤلاء الكفار و الكفار مخلون في النار
[9] الأمانة تعني عقيدتهم وهي قولهم نؤمن بالله الواحد الأحد الأب مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى و بالابن الوحيد إيشوع المسيح ابن الله ذكر الخلائق كلها وليس بمصنوع إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وكل شيء الذي من أجلنا و من أجل خلاصنا بعث العوالم و كل شيء الذي نزل من السماء وتجسد من روح القدس وولد من مريم البتول وصلب أيام فيلاطوس ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء و جلس على يمين أبيه و هو مستعد للمجيء تارة أخرى بالقضاء بين الأحياء و الأموات و تؤمن بروح الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه بمعمودية واحدة لغفران الخطايا
هذا هو اتفاق المجمع الأول الذي هو مجتمع نيقية و فيه إشارة إلى حشر الأبدان و لا يتفق النصارى عليه ، و إنما يتفقون على حشر الأرواح و يسمون هذه العقيدة الأمانة ، و وضعوا معها قوانين الشرائع و يسمونها الهيمايون .ثم تابعة هذه الأمانة أمانات أخرى فكل مجمع لهم يخرجون فيه بأمانة جديد حسب ابتداعهم من الأفكار
[10] جاءت إلى مكان الصليب فوقفت عليه وترحمت وسألت عن الخشبة التي صلب عليها بزعمهم ، فأخبرت بما فعل اليهود فيها و أنهم دفنوها و جعلوا مكانها مطرحاً للقمامة والنجاسة و الجيف والقاذورات فاستعظمت ذلك واستخرجت تلك الخشبة التي صلب عليها بزعمهم ، وقيل لها من علامتها أن يمسها ذو العاهة فيعافى لوقته ، فطهرتها وطيبتها و غشتها بالذهب والحرير ، ورفعتها عندها للتبرك بها ، وأمرت ببناء كنيسة هائلة بمكان الخشبة تزعم أنها قبره وهي التي تسمى لهذا العهد قمامة . و خربت مسجد بني اسرائيل وأمرت بأن تلقى القاذورات والكناسات على الصخرة التي كانت عليها القبة التي هي قبلة اليهود ، إلى أن أزال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند فتح بيت المقدس والآن من عقيدتهم في الصليب يعتبر الصليب شعاراً لهم ، وهو موضع تقديس الأكثرين ، وحمله علامة على أنهم من أتباع المسيح ، ولا يخفى ما في ذلك من خفة عقولهم وسفاهة رأيهم ، فمن الأولى لهم أن يكرهوا الصليب ويحقروه لأنه كان أحد الأدوات التي صلب عليه إلههم وسبب آلامه
وسعى قسطنطين بمنحهم الحرية في الدعوة والترخيص لديانتهم ومساواتها بغيرها من ديانات الإمبراطورية الرومانية ، وشيد لهم الكنائس ، وبذلك انتهت أسوأ مراحل التاريخ النصراني قسوة ، التي ضاع فيها إنجيل عيسى عليه السلام ، وقتل الحواريين والرسل ، وبدأ الانحراف والانسلاخ عن شريعة التوراة ، ليبدأ النصارى عهداً جديداً من تأليه المسيح عليه الصلاة والسلام وظهور اسم المسيحية
[11] للتغلب على عوامل انهيار وتفكك الإمبراطورية أنشأ قسطنطين مدينة روما الجديدة عام 324م في بيزنطة القديمة باليونان على نفس تصميم روما العديمة ، وأنشأ بها كنيسة كبيرة ( أجيا صوفيا ) ورسم لهم بطريركاً مساوياً لبطاركة الإسكندرية وأنطاكية في المرتبة على أن الإمبراطور هو الرئيس الأعلى للكنيسة . وعرفت فيما بعد بالقسطنطينية ، ولذلك أطلق عليها بلاد الروم ، وعلى كنيستها كنيسة الروم الشرقية أو كنسية الروم الأرثوذكس
[12] وتقرير أن للمسيح طبيعتين منفصلتين . فكان ذلك دافعاً أن لا تعترف الكنيسة المصرية بهذا المجمع ولا بالذي يليه من المجامع . ومنذ ذلك التاريخ انفصلت الكنيسة مستقلة تحت اسم الكنيسة المرقسية - الأرثوذكسية - أو القبطية تحت رئاسة بطريرك الإسكندرية ، وانفصلت معها كنيسة الحبشة وغيرها ، لييدأ الانفصال المذهبي عن الغربية . بينما اعترفت كنيسة أورشليم الأرثوذكسية بقرارات مجمع كلدونية وصارت بطريركية مستقلة تحت رئاسة البطريرك يوفيناليوس
وتم الانفصال المذهبي للكنيسة الشرقية تحت مسمى الكنيسة الشرقية والأرثوذكسية ، أو كنيسة الروم الأرثوذكس برئاسة بطريرك القسطنطينية ومذهباً بأن الروح القدس منبثقة من الأب وحده ، على أن الكنيسة الغربية أيضاً تميزت باسم الكنيسة البطرسية الكاثوليكية ، ويزعم أن لبابا روما سيادة على كنائس الإمبراطورية وأنها أم الكنائس ومعلمتهن ، وتميزت بالقول بأن الروح القدس منبثقة عن الأب والابن معاً
وفي وسط لجو الثائر ضد رجال الكنيسة انعقد مؤتمر تزنت عام 1542-1563م لبحث مبادئ مارتن لوثر التي تؤيدها الحكومة والشعب الألماني ،وانتهى إلى عدم آراء الثائرين أصحاب دعوة الإصلاح الديني ومن هنا انشقت كنيسة جديدة هي كنيسة البروتستانت ليستقر فارب النصرانية بين أمواج المجامع التي عصفت بتاريخها على ثلاث كنائس رئيسية لها النفوذ في العالم إلى اليوم ، ولكل منها نحلة وعقيدة مستقلة ، وهي : الأرثوذكس ، الكاثوليك ، البروتستانت ، بالإضافة إلى الكنائس المحدودة مثل : المارونية ، والنسطورية ، واليعقوبية ، وطائفة الموحدين ، وغيرهم
فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق فكانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي العربي خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين
[13] يزعمون أنهم على ملته وطريقته مما قد حرفوا وبدلوا ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين الحق الذي لا يبدل ولا يغير إلى قيام الساعة ولا يزال قائما منصورا ظاهرا على كل دين فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها واحتازوا جميع الممالك ودانت لهم جميع الدول وكسروا كسرى وقصروا قيصر وسلبوهما كنوزهما وأنفقت في سبيل الله كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم عز وجل في قوله "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهـم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا" الآية فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقا سلبوا النصارى بلاد الشام وألجئوهم إلى الروم فلجئوا إلى مدينتهم القسطنطينية ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جدا لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها ولهذا قال تعالى {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين}
[14] يحتجون في قولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتي ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا وذلك كله بأمر الله وليجعله الله آية للناس
ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله يقولون: لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله.
ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت ولكنه هو وعيسى ومريم - تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا - وفي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن.
معنى قولهم بالتثليث
يريدون بالتثليث الله تعالى وصاحبته وابنه , أو قولهم هم ثلاثة , أو يقولوا هو ثالث ثلاثة تعالى الله عما يقول الظالمين, والنصارى مع فرقهم مجمعون على التثليث ويقولون: إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم (والأقنوم، بالضم: الأصل) الأقانيم : ولذلك يؤمنون بالأقانيم الثلاثة : الأب ، الابن ، الروح القدس ، بما يسمونه في زعمهم وحدانية في تثليث وتثليث في وحدانية . وذلك زعم باطل صعب عليهم فهمه ، ولذلك اختلفوا فيه أختلافاُ متبايناً ، وكفرت كل فرقة من فرقهم الأخرى بسببه
ومن معتقداتهم روح القدس : وإن روح القدس الذي حل في مريم لدى البشارة ، وعلى المسيح في العماد على صورة حمامة ، وعلى الرسل من بعد صعود المسيح ، الذي لا يزال موجوداً ، وينزل على الأباء والقديسين بالكنيسة يرشدهم ويعلمهم ويحل عليهم المواهب ، ليس إلا روح الله وحياته ، إله حق من إله حق ومن معتقداتهم الصلب والفداء : المسيح في نظرهم مات مصلوباً فداءً عن الخليقة ، لشدة حب الله للبشر ولعدالته ، فهو وحيد لله - تعالى الله عن كفرهم - الذي أرسله ليخلص العالم من إثم خطيئة أبيهم آدم وخطاياهم ، وأنه دفن بعد صلبه ، وقام بعد ثلاثة أيام متغلباً على الموت ليرتفع إلى السماء
ومن معتقداتهم الدينونة الحساب : يعتقدون بأن الحساب في الآخرة سيكون موكولاً للمسيح عيسى ابن مريم الجالس - في زعمهم - على يمين الرب في السماء ، لأن فيه من جنس البشر مما يعينه على محاسبة الناس على أعمالهم
[15] ) كان صاحب هذا الدين عندهم والمقيم لمراسمه يسمونه البطرك وهو رئيس الملة وخليفة المسيح فيهم ، ويبعث نوابه وخلفاءه إلى من بعد عنهم من أمم النصرانية ويسمونه الأسقف أي نائب البطرك ، ويسمون القراء بالقسيس ، وصاحب الصلاة بالجاثليق ، وقومه المسجد بالشمامسة ، والمنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة الراهب ، والقاضي بالمطران . ولم يكن بمصر بذلك العهد أسقف إلى أن جاء دهدس الحادي عشر من أساقفة اسكندرية وكان بطرك أساقفة بمصر . وكان الأساقفة يسمون البطرك أبا ، و القسوس يسمون الأساقفة أبا ، فوقع الاشتراك اسم الأب ، فاخترع اسم البابا لبطرك الاسكندرية ليتميز عن الأسقف في اصطلاح القسوس ، و معناه أبو الأباء فاشتهر هذا الاسم . ثم انتقل إلى بطرك رومة لأنه صاحب كرسي بطرس كبير الحواريين ورسول المسيح ، وأقام على ذلك لهذا العهد وسمى البابا
[16] قوله صلى الله عليه وسلم لهم يبين شدة تحريم أكله ، وتوبيخ عظيم للنصارى الذين يدعون أنهم على طريقة عيسى ثم يستحلون أكل الخنزير ويبالغون في محبته ويعظمون الصليب ويتباركون به
[17] البخاري 4581 مسلم 183
[18] الظلف للغنم والبقر كالقدم لنا أي لا يبقى غنم ولا بقر ألا هلك
[19] فهم يكونون في انتظاره وأول الناس فرحاً به رغبة منهم في السيطرة على العالم عن طريقه
الطيالسة لباس حربهم
{إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع , من عذاب جهنم , ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال}
[20] قصة الدجال جمعتها من عدة روايات منها البخاري 3176 , 3448 , 7123 , 7124 , 7125 , 7131 , 7133 مسلم 18/229 -230 , 18/233 , 18/ 251 - 252 والمسند 4/ 216 والمسترك 4/524 وعون المعبود 11/295-314 , والأحوذي 6/ 405 – 424 ومن روايات أتى بها ابن كثير عند شرح الآية 159 من سورة النساء وابن حجر 6/ 393-397 , 6/567-568 , الفوزان في الإرشاد في صحيح الإعتقاد 200-214
[21] { (ولد لنوح سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجـوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان)" فهم من نسل يافث أبو الترك} إنما سمي هؤلاء تركاً لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة وإلا فهم أقرباء أولئك ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة
إن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاءوا
الجن والإنس عشرة أجزاء، فتسعة أجزاء يأجوج ومأجوج وجزء سائر الناس
قيل هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز شجر كبير بالشام وصنف عرضه وطوله سواء نحوا من الذراع وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار الشرق وبحيرة طبرية فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس
وقيل رآهم ذو القرنين, وطول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا, لهم مخاليب في مواضع الأظفار وأضراس وأنياب كالسباع, وأحناك كأحناك الإبل, وهم هلب عليهم من الشعر ما يواريهم, وكل واحـد منهم قد عرف أجله لا يموت حتى يخرج له من صلبه ألف رجل إن كان ذكرا, ومن رحمها ألف أنثى إن كانت أنثى
[22] ذكر أن رجلاً قال يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال انعته لي قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال قد رأيته " هذا حديث مرسل. وقد بعث الخليفة الواثق في دولته أحد أمرائه وجهز معه جيشاً سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا فتوصلوا من هناك إلى بلاد ومن ملك إلى ملك حتى وصلوا إليه ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيماً وعليه أقفال عظيمة ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك, وأن عنده حرساً من الملوك المتاخمة له وأنه عال منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال ثم رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم أكثر من سنتين وشاهدوا أهوالاً وعجائب