قصة هود عليه السلام
بعد موت نوح عليه السلام واقتسام ولده الأرض من بعده واتخاذ كل فريق منهم مساكنهم ، فطغى وبغى قوم عاد أي عاد إرم وهم عاد الأولى( [1] ), وعاد الذي ينسبون إليه هو عاد ابن عوض بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام ، وكانوا قوماً جبارين طوال القامة لم يكن مثلهم ، كما قال تعالى فيهم :{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوْحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} (الأعراف: الآية 69) ، فأرسل الله إليهم هود عليه السلام
وهذه هي قصة هود عليه السلام
هو هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام ([2]) وهو أول من تكلم بالعربـية ([3])
وكان من قبـيلة عاد الأولى وكانت هذه القبيلة عرباً يسكنون الأحقاف وهي جبال الرمل، وكانت باليمن من عُمَان وحَضْرَمُوت بأرض مطلة على البحر يقال لها الشحر واسم واديهم مغيث وكانوا كثيراً ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام كما قال تعالى: {أَلَم تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} الفجر: الآيتان 6 ـ 7) وهي{ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلَهَا فِي الْبِلاَدِ} (الفجر: الآية 8)
وكانت هذه القبيلة أول من عبدوا الأصنام بعد الطوفان وكانوا أهل أوثان ثلاثة وكان أصنامهم يقال لأحدها ضرا وللآخر ضمور وللثالث الهبا([4]) ، فدعاهم هوداً عليه السلام إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة دون غيره وترك ظلم الناس ، فكذبوه وقالوا : من أشد منا قوةً ! ولم يؤمن بهود منهم إلا قليل
وكانوا أشد أهل زمانهم في الخلقة والشدة والبطش.
وكانوا عرباً جفاة كافرين عتاة متمردين في عبادة الأصنام فأرسل الله فيهم رجلاً منهم يدعوهم إلى الله وإلى إفراده بالعبادة والإِخلاص له
أمرهم بعبادة الله ورغّبهم في طاعته واستغفاره ووعدهم على ذلك خير الدنيا والآخرة وتوعّدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا والآخرة: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} (الأعراف: الآية 66) أي هذا الأمر الذي تدعونا إليه سفه بالنسبة إلى ما نحن عليه من عبادة هذه الأصنام التي يرتجى منها النصر والرزق ومع هذا نظن أنك تكذب في دعواك أن الله أرسلك.
{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِـي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ} (الأعراف: الآية 67) أي ليس الأمر كما تظنون ولا ما تعتقدون {أَبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّـي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (الأعراف: الآية 68) والبلاغ يستلزم عدم الكذب في أصل المبلّغ وعدم الزيادة فيه والنقص منه، ويستلزم إبلاغه بعبارة فصيحة وجيزة جامعة مانعة لا لُبْسَ فيها ولا اختلاف ولا اضطراب.
وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه والشفقة عليهم والحرص على هدايتهم لا يبتغى منهم أجراً ولا يطلب منهم جعلاً بل هو مخلص لله عزّ وجلّ في الدعوة إليه والنصح لخلقه لا يطلب أجره إلاّ من الذي أرسله، فإن خير الدنيا والآخرة كله في يديه وأمره إليه. ولهذا قال: {يَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِنَّ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (هود: الآية 51) أي مالكم عقل تميزون به وتفهمون أني أدعوكم إلى الحق المبـين الذي تشهد به فطركم التي خلقتم عليها وهو دين الحق الذي بعث الله به نوحاً وأهلك من خالفه من الخلق وها أنا أدعوكم إليه
وقال قوم هود له { يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَـيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} (هود: الآيتان 53 ـ 54) يقولون ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق ما جئت به وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرّد قولك بلا دليل أقمته ولا برهان نصبته، وما نظن إلاّ أنك مجنون فيما تزعمه وعندنا إنما أصابك هذا لأن بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك فاعتراك جنون بسبب ذلك. وهو قولهم: { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} (هود: الآيتان 54 ـ 55) .
وهذا تحدّ منه لهم وتبرّ من آلهتهم وتنقص منه لها وبـيان أنها لا تنفع شيئاً ولا تضرّ وأنها جماد حكمها حكمه وفعلها فعله. فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر وتنفع وتضر فها أنا بريء منها لاعنٌ لها فَكِيدُونِي ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ أنتم جميعاً بجميع ما يمكنكم أن تصلوا إليه وتقدروا عليه ولا تؤخروني ساعة واحدة ولا طرفة عين فإني لا أبالي بكم ولا أفكر فيكم ولا أنظر إليكم {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّـي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } (هود: الآية 56) أي أنا متوكل على الله ومتأيد به وواثق بجنابه الذي لا يضيع من لاذ به واستند إليه فلست أبالي مخلوقاً سواه، ولست أتوكل إلاّ عليه ولا أعبد إلاّ إياه.
وهذا وحده برهان قاطع على أن هوداً عبد الله ورسوله، وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله لأنهم لم يصلوا إليه بسوء ولا نالوا منه مكروهاً، فدل على صدقه فيما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه وفساد ما ذهبوا إليه.
{وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرَاً مِثْلُكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} (المؤمنون: الآيات 33 ـ 35) استبعدوا أن يبعث الله رسولاً بشرياً , قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجْبَاً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} (يونس: الآية 2) .
وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كَانَ فِي اْلأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّيْنَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكَاً رَسُولاً} (الإِسراء:الآيتان 94 ـ95) .
وقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَامَاً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوْعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ نَحْيَا وَمَا نَحْنَ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبَاً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } (المؤمنون: الآيات 35 ــــ 39) . استبعدوا المعاد وانكروا قيام الأجساد بعد صيرورتها تراباً وعظاماً، وقالوا: هيهات هيهات أي بعيد بعيد هذا الوعد, وهذا كلّه كذب وكفر وجهل وضلال وأقوال باطلة وخيال فاسد بلا بُرْهَانٍ وَلاَ دليل
وقال لهم فيما وعظهم به: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (الشعراء: الآيتان 128 ــــ 129) يقول لهم: أتبنون بكل مكان مرتفع بناءً عظيماً هائلاً كالقصور ونحوها تعبثون ببنائها لأنه لا حاجة لكم فيه، وما ذاك إلاّ لأنهم كانوا يسكنون الخيام كما قال تعالى: { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ} (الفجر: الآيات 6 ــــ 8) فكانوا يسكنون الأعمدة التي تحمل الخيام. رجاء أن يعمّروا في هذه الدار أعماراً طويلة وقال لهم هود {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدُّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء: الآيات 130 ــــ 135) .
وقالوا له مما قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الأعراف: الآية 70) أي أجئتنا لنعبد الله وحده ونخالف آباءنا وأسلافنا وما كانوا عليه. فإن كنت صادقاً فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال، فإنّا لا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نصدّقك.
وقالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوْلِّينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِـينَ} (الشعراء: الآيات 136 ـ 138) أي أن هذا الدين الذي نحن عليه دين الآباء والأجداد من أسلافنا ولن نتحول عنه ولا نتغير ولا نزال متمسكين به.{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِـينَ}.
{قال: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} (الأعراف: الآية 71) أي قد استحقيتم بهذه المقالة الرجس والغضب من الله أتعارضون عبادة الله وحده لا شريك له بعبادة أصنام أنتم نحتموها وسمّيتموها آلهة من تلقاء أنفسكم، إصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم ما نزّل الله بها من سلطان
أي لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليلاً ولا برهاناً وإذا أبـيتم قبول الحق وتماديتم في الباطل، وسواء عليكم أنهيتكم عمّا أنتم فيه أم لا , فانتظروا الآن عذاب الله الواقع بكم وبأسه الذي لا يُرَدُّ ونكاله الذي لا يُصَدّ.
وقال { رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} (المؤمنون: الآية 26) قَالَ تعالى { عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } (المؤمنون: الآيتان 40 ــــ 41) .
وقد ذكر الله تعالى خبر إهلاكهم مجملاً ومفصلاً فمجملاً قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} (الأعراف: الآية 72) وقوله تعالى : {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودَاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُوْدٍ} (هود: الآيات 58 ــــ 60) وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } الشعراء:الآيتان 139 ـ 140)
وأما تفصيل إهلاكهم
لما أبوا إلاّ الكفر بالله عزّ وجلّ أمسك الله تعالى عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان فطلبوا من الله الفرج منه إنما يطلبونه بحرمه ومكان بـيته، وكان معروفاً عند أهل ذلك الزمان وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيّدهم إذ ذاك رجلاً يقال له معاوية بن بكر، وكانت أمه من قوم عاد واسمها جلهدة ابنة الخيبري
فبعث عاد وفداً قريباً من سبعين رجلاً ليستقوا لهم عند الحرم فمروا بِمُعاوِيَةَ بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان لمُعَاوِيَةَ وكانوا قد وصلوا إليه في شهر. فلما طال مقامهم عنده شق عليه ذلك وأخذته شفقة على قومهم وقال هلك أخوالي ، واستحيا أن يأمر الوفد بالخروج إلى ما بعثوا له استحيا أن يأمرهم بالانصراف فعمل شعراً يُعَرِّضُ لهم بالانصراف وأمر القينتين أن تغنيهم به فقالا
ألا يَا قيلُ وَيْحَكَ قُمْ فهيّنم لَعَلّ اللَّهَ يَمْنَحُنَا غماما
فيسقى أرضَ عادٍ إنَّ عَاداً قَدْ أَمْسَوْا لاَ يُبِـينُونَ الكَلاَمَا
مِنَ العَطَشِ الشَّدِيدِ فَلَيْسَ نَرْجُو بِهِ الشَيْخَ الكَبِـيرُ وَلاَ الغُلاَمَا
وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمُ بِخَيْرٍ فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمُ أَيَامَى
وَإِنَّ الوَحْشَ يَأْتِيَهُمْ جِهَاراً وَلاَ يَخْشَى لِعَادِيَ سِهَامَا
وَأَنْتُمْ هَهُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ نَهَارُكُم وَلَيْلُكُمُ تَمَامَا
فَقُبْحَ وَفْدُكُم مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ وَلاَ لُقُّوا التَّحِيَّةَ وَالسَّلاَمَا
فعند ذلك تنبّه القوم لِما جاؤوا له فنهضوا إلى الحرم
ودعوا لقومهم، فدعا داعيهم وهو قيل ابن عنز فأنشأ الله سحابات ثلاثاً بـيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه منادٍ من السماء اختر لنفسك لقومك من هذا السحاب فقال: اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء، فناداه منادٍ اخترت رماداً رمدداً لا تبقي من عاد أحداً. لا والداً يُتْرك ولا ولداً. إلا جعلته همداً إلا بني اللوذية الهمدا. وهم بطن من عاد كانوا مقيمين بمكة، فلم يصبهم ما أصاب قومهم، ومن بقي من أنسابهم وأعقابهم هم عاد الآخرة.
وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد حتى تخرج عليهم من وادٍ يقال له: المغيث، {فَلَمَّا رَأَوهُ عَارِضَاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } لما رأوا هذا العارض وهو الناشيء في الجو كالسحاب استبشروا به وظنّوه سحاب مطر، فإذا هو سحاب عذاب اعتقدوه رحمة فإذا هو نقمة رجوا فيه الخير، فنالوا منه غاية الشر. ظنّوه سقياً رحمة، فإذا هو سقيا عذاب ولهذا قال تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} أي من وقوع العذاب وهو قولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (الأحقاف الآيتان 24-25) أي تهلك كل شيء أمرت به.
فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح امرأة من عاد يقال لها فهد فلما تبـيّنت ما فيها صاحت ثم صعقت. فلما أفاقت قالوا ما رأيت يا فهد قالت رأيت ريحاً فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومَا} (الحاقة: الآية 7) والحسوم الدائمة الكوامل المتتابعات فلم تدع من عاد أحداً إلاّ هلك. واعتزل هود عليه السلام في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين ما يصيبهم إلا ما يلين عليهم الجلود وتلتذ الأنفس، وإنها لتمرّ على عاد بالطعن فيما بـين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة.
فأهلكوا بريح صرصر وهي الباردة والعاتية الشديدة الهبوب كان أولها الجمعة {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (الحاقة: الآية 7) شبههم بأعجاز النخل التي لا رؤوس لها وذلك لأن الريح كانت تجيء إلى أحدهم على ضخامة قوامه فتحمله فترفعه في الهواء، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى جثة بلا رأس , تدخل الريح تحت الواحد منهم فتحمله فتدق عنقه كما قال تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيْحَاً صَرْصَرَاً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرَ} (القمر: الآية 19) أي في يوم نحس عليهم مستمر عذابه عليهم {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (القمر: الآية 20)
وقال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيْحُ العَقِيمَ} (الذاريات: الآية 41) أي التي لا تنتج خيراً فإن الريح المفردة لا تنثر سحاباً ولا تلقح شجراً بل هي عقيم لا نتيجة خير لها، ولهذا قال: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلْتَهُ كَالرَّمِيم} (الذاريات: الآية 42) أي كالشيء البالي الفاني الذي لا يُنْتَفَعُ به بالكلية. َأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ
وهذا العذاب الذي أصابهم من الريح الصرصر العاتية الباردة الشديدة الهبوب، التي استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية، فلم تُبْقِ منهم أحداً بل تتبعتهم حتى كانت تدخل عليهم كهوف الجبال والغيران فتلفّهم وتُخْرِجَهم وتُهلكهم وتُدَمِّر عليهم البـيوت المحكمة والقصور المشيدة، فكما منوا بقوتهم وشِدّتهم وقالوا من أَشدُّ منا قوّة؟ سلّط الله عليهم ما هو أشدّ منهم قوة وأقدر عليهم وهو الريح العقيم. وكانت الريح تقلع الشجرة العظيمة بعروقها ومَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا إِلاَّ مَثَلُ مَوْضِعِ الخَاتِمِ فَمَرَّتْ بِأَهْلِ البَادِيَةِ فَحَمَلَتْهُمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَـيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَأَلْقَتْ أَهْلَ البَادِيَةِ وَمَوَاشِيهِمْ عَلَى أَهْلِ الحَاضِرَةِ
هذه الريح التي أثارت في آخر الأمر سحابة ظن من بقي منهم أنها سحابة فيها رحمة بهم وغياث لمن بقي منهم فأرسلها الله عليهم شرراً وناراً وجمع لهم بـين الريح الباردة وعذاب النار، وهو أشدّ ما يكون من العذاب بالأشياء المختلفة المتضادة، حتى هلكوا
فلما هلكوا أرسل الله طيراً سوداً فنقلتهم إلى البحر ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم
[1] وأما عاد الثانية فمتأخرة كما سيأتي بـيان ذلك في موضعه.
[2] قيل هو هود بن شالخ بن إرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام
[3] وزعم وَهْبُ ابن مُنَبِّه أن أباه أول من تكلّم بها.وقال غيره: أول من تكلم بها نوح. وقيل: غير ذلك والله أعلم. وفي صحيح ابن حِبان عن أبـي ذرّ في حديثه الطويل في ذكر الأنبـياء والمرسلين قال فيه: «مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ مِنَ العَربِ هُودُ وَصَالِحُ وَشُعَيْبُ وَنَبِّـيُكَ يَا أَبَا ذَرَ». ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السلام: العرب العاربة. وهم قبائل كثيرة: منهم: عاد، وثمود، وجرهم، وطسم، وجديس، وأميم، ومدين، وعملاق، وعبـيل، وجاسم، وقحطان، وبنو يقطن، وغيرهم.
وأما العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل. وكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من تكلّم بالعربـية الفصيحة البليغة. وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم ، ولكن أنطقه الله بها في غاية الفصاحة والبـيان وكذلك كان يتلّفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[4] قيل أسماء أصنامهم صدا، وصمودا، هرا