قصة إسحاق بن إبراهيم عليه السلام
إسحاق وابنه يعقوب وحفيده
إبراهيم عليه السلام هاجر من بلاد بابل لما وجده من كفر وإيذاء إلى الشام, فنزل حوران حيث وجد أهلها على الكفر أيضاً وكانت امرأة إبراهيم عاقراً لا يولد لها، ولم يكن لإبراهيم من الولد أحد، بل معه ابن أخيه لوط فهاجر بهم إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل، ودعوة الخلق إليه فقدم بهم فلسطين وكانت بلاد قحط فتركها ونزل بهم مصر وحدث ما كان من أمر ملك مصر مع إبراهيم وسارة الذي أهدى هاجر إلى سارة لتخدمها ثم عاد بهم إبراهيم الخليل عليه السلام من بلاد مصر ومعه من هذه البلاد أنعام وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجر القبطية المصرية. فنزل السبع من أرض فلسطين وهي برية الشام إلى فلسطين
ولكثرة مال إبراهيم ومواشيه احتاج إلى السعة في المسكن والمرعى ، وكان مسكنه مابين قرية مدين والحجاز إلى الأرض الشأم ، وكان ابن أخيه لوط نازلا معه ، فقاسم ماله لوطاً ، فأعطى لوطاً شطره وخيره إبراهيم مسكناً يسكنه ومنزلا ينزله غير المنزل الذي هو به نازل ، فاختار لوط ناحية الأردن فصار إليها, وهي المؤتفكة من ناحية فلسطين وهي من السبع مسيرة يوم وليلة, ونزح لوطاً عليه السلام بما له من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك إلى الأردن المؤتفكة وهي أرض الغور، المعروف بغور زغر وكانت خمس قرى منها سدوم ؛ فنزل بمدينة سدوم وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان. وكان أهلها أشرار كفاراً فجارا, فلما أقام بها بعثه الله وأرسله إلى أهل سدوم فأمر قومه من سدوم .
وكان لوط قد وجد قرى سدوم على ارتكاب الفواحش ، فدعاهم إلى الدين ، ونهاهم عن المخالفة ، فكذبوه وعتوا ، وأقام فيها داعيا إلى الله.وبالغ أهل المؤتفكة في العصيان والفاحشة ، ودعاهم لوط فكذبوه وأقام على ذلك
وسأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يرزقه ذرية طيبة. ولما كان لإبراهيم ببلاد المقدس عشرون سنة قالت سارة لإبراهيم عليه السلام: إن الرب قد حرمني الولد، فادخل على أمتي هذه لعل الله يرزقك منها ولداً.
وكانت هاجر جارية ذات هيئة فلما وهبتها سارة لإبراهيم وكانت سارة قد منعت الولد حتى أسنت ، ودخل إبراهيم عليه السلام بهاجر، فحين دخل بها حملت منه فلما حملت رأت سارة أن هاجر ارتفعت نفسها وتعاظمت عليها، فغارت منها سارة فشكت ذلك إلى إبراهيم، فقال لها: إفعلي بها ما شئت، وضعت هاجر إسماعيل عليه السلام
ولدته ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة([1]) فكان بكره وأول ولده
ولما ولد إسماعيل أوحى الله إلى إبراهيم يبشره فقال له: قد استجبت لك في إسماعيل وباركت عليه وكثرته ويمنته جداً كثيراً ([2]) ويولد له اثنا عشر ولدا ، ويكون رئيساً لشعب عظيم . وأدركت سارة الغيرة من هاجر وطلبت منه إخراجها واشتدت غيرة سارة على هاجر بعد ولدتها إسماعيل حتى غضبت سارة على هاجر وطلبت سارة من الخليل أن يغيب وجهها عنها، وقالت لا تساكنني في بلد, فأراد الله أن يفصل بينهما فأوحى الله إلى إبراهيم إن يخرج بإسماعيل وأمه إلى مكة فحملوا على البراق[3]وليس بمكة يومئذ نبت ، جاء إبراهيم بإسماعيل وأمه هاجر ترضعه حتى وضعهما عند البيت بمكة
وبعد ثلاثة عشر سنة من مولد إسماعيل
حدث أن أرسل الله رسولا من الملائكة لإهلاك قوم لوط ، ومروا بإبراهيم فأضافهم وخدمهم ، وكان من بشارة الملائكة لسارة باسحق وابنه يعقوب {فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَآء إِسْحَـٰقَ يَعْقُوبَ } (هود: 71) وبشرت الملائكة إبراهيم بذلك {فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ } أي في صرخة {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } (الذاريات: 29) أي كما يفعل النساء عند التعجب وقالت: {يٰوَيْلَتَا ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِى شَيْخًا} (هود: 72) أي كيف يلد مثلي وأنا كبيرة وعقيم أيضاً، وهذا بعلي، أي زوجي، شيخاً؟ تعجبت من وجود ولد والحالة هذه. ولهذا قالت: {إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْء عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَـٰتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) } (هود: 72 ـــ 73). وبشر إبراهيم {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَـٰمٍ عَلَيمٍ (28)} (الذاريات)، ([4]) وتعجب عليه السلام استبشاراً بهذه البشارة وتثبيتاً لها وفرحاً بها {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَىٰ أَن مَّسَّنِىَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَـٰكَ بِٱلْحَقّ فَلاَ تَكُن مّنَ ٱلْقَـٰنِطِينَ (55) } (الحجر: 54، 55) أكدوا الخبر بهذه البشارة وقرروه معه، فبشروهما {بِغُلَـٰمٍ عَلِيمٍ } (الحجر: 53)؛ وهو إسحاق أخو إسماعيل. ولما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى بإسحاق ويعقوب ولد من صلب إسحاق وأمن ما كان يخاف فقال : " الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء "
فقال الله تعالى لإبراهيم: إن امرأتك سارة أبارك عليها فتلد لك غلاماً وتدعو اسمه إسحاق إلى مثل هذا الحين من قابل، وأوثقه ميثاقي إلى الدهر ولخلفه من بعده وأباركه ويكون الشعوب وملوك الشعوب منه. فخر إبراهيم على وجهه يعني ساجداً وضحك قائلاً في نفسه: أبعد مائة سنة يولد لي غلام؟ أو سارة تلد وقد أتت عليها تسعون سنة؟([5])
وكان مولد إسحاق ([6]) بعد أخيه إسماعيل بأربع عشر سنة.
كبر إسحاق وكان إبراهيم عليه السلام قد عهد لابنه إسحق أن لا يتزوج في الكنعانيين، وأكد العهد والوصية بذلك لمولاه القائم على أموره ، ثم بعث إبراهيم عليه السلام مولاه إلى حران مهاجرهم الأول ليخطب إبراهيم من ابن أخيه بتويل بن ناحور بن آزر بنته رفقا لإسحاق بن إبراهيم فزوجها أبوها بتويل واحتملها أبوها ومن معها من الجواري على الإبل وجاء بها إلى إسحق فتزوجها
لما تزوج رفقاً بنت بتوابـيل في حياة أبـيه، وكانت رفقا عاقراً، فدعا الله لها، فحملت فولدت غلامين توأمين أولهما: سمّوه عيصو ([7]) والثاني: خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسمّوه: يعقوب ([8]) وهو إسرائيل وكان إسحاق يحب العيصو أكثر من يعقوب لأنه بكره، وكانت أمهما رفقاً تحب يعقوب أكثر لأنه الأصغر.
وأقام إسحق بمكانه في فلسطين وتوفيت سارة لمائة وسبع وعشرين من عمرها ، فحزن عليها إبراهيم عليه السلام، ورثاها رحمها الله، وذلك بقرية الجبابرة والتي هي قرية جيرون ([9]) من بلاد بني حبيب الكنعانيين ، فطلب إبراهيم منهم مقبرة لها ، فوهبه عفرون بن صخر مغارة كانت في مزرعته ، فامتنع من قبولها إلا بالثمن ، فأجاب إلى ذلك ، وأعطاه إبراهيم أربعمائة مثقال فضة ودفن فيها سارة.
ولما كبر إسحاق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاماً وأمره أن يذهب فيصطاد له صيداً ويطبخه له ليبارك عليه ويدعو له. وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك فأمرت رفقاً ابنها يعقوب أن يذبح جديـين من خيار غنمه ويصنع منهما طعاماً كما اشتهاه أبوه ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعو له، فقامت فألبسته ثياب أخيه وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديـين، لأن العيصو كان أشعر الجسد، ويعقوب ليس كذلك، فلما جاء به وقرّبه إليه، قال: من أنت؟ قال: ولدك، فضمّه إليه وجسّه، وجعل يقول أما الصوت فصوت يعقوب، وأما الجسّ والثياب فالعيصو، فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدراً، وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده وأن يكثر رزقه وولده.
فلما خرج من عنده جاء أخوه العيصو بما أمره به والده فقربه إليه فقال له: ما هذا يا بني؟
قال: هذا الطعم الذي اشتهيته، فقال: أما جئتني به قبل الساعة وأكلت منه ودعوت لك؟ فقال: لا والله، وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك فوجد في نفسه عليه وجداً كثيراً. وتواعده بالقتل إذا مات أبوهما، وسأل أباه فدعا له بدعوة أخرى، وأن يجعل لذريته غليظ الأرض، وأن يكثر أرزاقهم وثمارهم، فلما سمعت أمهما ما يتواعد به العيصو أخاه يعقوب، أمرت ابنها يعقوب أن يذهب إلى أخيها لابان الذي بأرض حرّان، وأن يكون عنده إلى حين يسكن غضب أخيه عليه، وأن يتزوج من بناته. وقالت لزوجها إسحق أن يأمره بذلك ويوصيه ويدعو له ففعل، فخرج يعقوب عليه السلام من عندهم من آخر ذلك اليوم فأدركه المساء في موضع فنام فيه، أخذ حجراً فوضعه تحت رأسه ونام، فرأى في نومه ذلك معراجاً ([10]) منصوباً من السماء إلى الأرض وإذا الملائكة يصعدون فيه وينزلون والربّ تبارك وتعالى يخاطبه ويقول له إني سأبارك عليك وأكثر ذريتك، واجعل لك هذه الأرض، ولعقبك من بعدك. فلما هبّ من نومه فرح بما رأى ونذر لله لئن رجع إلى أهله سالماً ليبنين في هذا الموضع معبداً لله عزّ وجلّ، وأن جميع ما يرزقه من شيء يكون لله عشره، ثم عمد إلى ذلك الحجر فجعل عليه دهناً يتعرّفه به، وسمّي ذلك الموضع: بـيت إيل، أي بـيت الله ([11]) فلما قدم يعقوب على خاله أرض حرّان إذا له ابنتان اسم الكبرى «لياً» واسم الصغرى «راحيل» وكانت أحسنهما وأجملهما، فطلب يعقوب إن يتزوجها بناء على رغبة أمه فأجابه لابان إلى ذلك بشرط أن يرعى على غنمه سبع سنين
ولما مت إبراهيم الخليل عليه السلام تولى دفنه إبنيه إسماعيل وإسحاق في المغارة ([12]) التي اشتراها إبراهيم التي دفن فيها امرأته سارة
وأما العيصو فقد سكن جبال بني يسعين من بني جوي ، إحدى شعوب كنعان، وهي جبال الشراة بين تبوك وفلسطين وتعرف اليوم ببلاد كرك والشوبك ، وكان من شعوبهم هناك بنو لوطان وبنو شوبال وبنو صمقون وبنو عنا وبنو ديشوق وبنو يصد وبنو ديسان سبعة شعوب . ومن بني ديشون الأشبان سكن عيصو بينهم بتلك البلاد، وتزوج منهم من بنات عنا بن يسعين من جوى ، وهي أهليقاما ، وتزوج أيضا من بنات حي من الكنعانيين عاذا بنت أيلول
وكان إسماعيل عليه السلام قبل أن يموت قد أوصى إلى أخيه إسحاق، وزوج إسماعيل ابنته نسمة ([13]) من العيصو ابن إسحاق. وكان لعيصوا من الولد أكبرهم أليفاز ([14]) من بنت أيلول ، ثم رعويل ([15]) من باسمت بنت إسمعيل، ثم يعوش ويعلام وقورح من أهليقاما بنت عنا.
وأما عن يعقوب فبعد أن مضت المدة على حاله , صنع خاله لابان طعاماً وجمع الناس عليه وزفّ إليه ليلاً ابنته الكبرى ليا وكانت ضعيفة العينين قبـيحة المنظر. فلما أصبح يعقوب إذا هي ليا، فقال لخاله: لِمَ غدرت بـي وأنت تعلم إنما خطبت إليك راحيل؟ فقال: إنه ليس من سنتنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى، فإن أحببت أختها فاعمل سبع سنين أخرى وأزوجكها، فعمل سبع سنين وادخلها عليه مع أختها وكان ذلك سائغاً في ملّتهم ([16])
ووهب لابان لكل واحدة من ابنتيه جارية فوهب لليا جارية اسمها: زلفى ووهب لراحيل جارية اسمها بلهى وجبر الله تعالى ضعف ليا بأن وهب لها أولاداً، فكان أول من ولدت ليعقوب «روبـيل» ثم «شمعون» ثم «لاوي» ثم «يهوذا»، فغارت عند ذلك راحيل وكانت لا تحبل، فوهبت ليعقوب جاريتها بلها فوطئها فحملت له غلاماً سمّته: «دان»، وحملت وولدت غلاماً آخر سمته: «نيفتالي»، فعمدت عند ذلك ليا فوهبت جاريتها زلفا من يعقوب عليه السلام فولدت له «جاد» و«أشير» غلامين ذكرين، ثم حملت ليا أيضاً فولدت غلاماً خامساً منه وسمته: ايساخر ثم حملت وولدت غلاماً سادساً سمته «زابلون»، ثم حملت وولدت بنتا سمتها «دينا»، فصار لها سبعة من يعقوب. ثم دعت الله تعالى راحيل وسألته أن يهب لها غلاماً من يعقوب، فسمع الله نداءها وأجاب دعاءها فحملت من نبـي الله يعقوب فولدت له غلاماً عظيماً شريفاً حسناً جميلاً سمته: «يوسف» ([17]) كل هذا وهم مقيمون بأرض حرّان وهو يرعى على خاله غنمه بعد دخوله على البنتين ست سنين أخرى فصار مدة مقامه عشرين سنة، ثم أمر الله يعقوب بالرحيل إلى أرض كنعان التي وعدوا بملكها فطلب يعقوب من خاله لابان أن يسرّحه ليمرّ إلى أهله، فقال له خاله إني قد بورك لي بسببك، فسلني من مالي ما شئت، فقال تعطيني كل حَمَل يولد من غنمك هذه السنة أبقع، وكل حَمَل ملمع أبـيض بسواد، وكل أملح ببـياض، وكل أجلح أبـيض من المعز، فقال نعم. فعمد بنوه فأبرزوا من غنم أبـيهم ما كان على هذه الصفات من التيوس لئلا يولد شيء من الحملان على هذه الصّفات، وساروا بها مسيرة ثلاثة أيام عن غنم أبـيهم، قالوا فعمد يعقوب عليه السلام إلى قضبان رطبة بـيض من لوز وولب فكان يقشرها بلقاً وينصبها في مساقي الغنم من المياه لينظر الغنم إليها فتفزع وتتحرك أولادها في بطونها فتصير ألوان حملانها كذلك، وهذا يكون من باب خوارق العادات وينتظم في سلك المعجزات، فصار ليعقوب عليه السلام أغنام كثيرة ودواب وعبـيد وتغيّر له وجه خاله، وبنيه وكأنهم انحصروا منه.
وأوحى الله تعالى إلى يعقوب أن يرجع إلى بلاد أبـيه وقومه ووعده بأن يكون معه، فعرض ذلك على أهله فأجابوه مبادرين إلى طاعته، فتحمّل بأهله وماله وسرقت راحيل أصنام أبـيها، فلما جاوزوا وتحيزوا عن بلادهم لحقهم لابان وقومه، فلما اجتمع لابان بـيعقوب عاتبه في خروجه بغير علمه، وكان يريد أن يعلمه فيخرجهم في فرح ومزاهر وطبول، وحتى يودع بناته وأولادهن، ولِمَ أخذوا أصنامه معهم، ولم يكن عند يعقوب علم من أصنامه، فأنكر أن يكون أخذوا له أصناماً فدخل بـيوت بناته وإمائهن يفتش، فلم يجد شيئاً وكانت راحيل قد جعلتهن في بردعة الحمل وهي تحتها فلم تقم واعتذرت بأنها طامث، فلم يقدر عليهن، فعند ذلك تواثقوا على رابـية هناك يقال لها جلعاد على أنه لا يهبن بناته ولا يتزوج عليهن ولا يجاوز هذه الرابـية إلى بلاد الآخر لا لابان ولا يعقوب، وعملا طعاماً وأكل القوم معهم، وتودّع كل منهما من الآخر وتفارقوا راجعين إلى بلادهم، فلما اقترب يعقوب من أرض ساعير تلقته الملائكة يبشّرونه بالقدوم، وسار يعقوب لوجهه حتى إذا قرب من بلد عيصو ، وهو جبل يسعين بأرض الكرك والشوبك لهذا العهد بعث يعقوب البُرُد إلى أخيه العيصو يترفق له ويتواضع له، فرجعت البُرُد وأخبرت يعقوب بأن العيص قد ركب إليك في أربعمائة راجل، فخشي يعقوب من ذلك ودعا الله عزّ وجلّ، وصلّى له وتضرّع إليه وتمسكن لديه، وناشده عهده ووعده الذي وعده به، وسأله أن يكفّ عنه شر أخيه العيصو، وأعدّ لأخيه هدية عظيمة وهي مائتا شاة وعشرون تيساً، ومائتا نعجة وعشرون كبشاً، وثلاثون لقحة وأربعون بقرة، وعشرة من الثيران وعشرون أتاناً وعشرة من الحمر. وأمر عبـيده أن يسوقوا كلا من هذه الأصناف وحده وليكن بـين كل قطيع وقطيع مسافة إذا لقيهم العيص فقال للأول: لمن أنت ولمن هذه معك فليقل لعبدك يعقوب أهداها لسيدي العيصو، وليقل الذي بعده كذلك، وكذا الذي بعده ويقول كل منهم وهو جائي بعدنا.
وتأخر يعقوب بزوجتيه وأمتيه وبنيه الأحد عشر بعد الكل بليلتين، وجعل يسير فيهما ليلاً ويكمن نهاراً. فلما كان وقت الفجر من الليلة الثانية تبدا له ملك من الملائكة في صورة رجل، فظنّه يعقوب رجلاً من الناس، فأتاه يعقوب ليصارعه ويغالبه فظهر عليه يعقوب فيما يرى، إلا أن الملك أصاب وركه فعرج يعقوب، فلما أضاء الفجر قال له الملك ما اسمك قال يعقوب، قال لا ينبغي أن تدعي بعد اليوم إلا إسرائيل فقال له يعقوب ومن أنت وما أسمك فذهب عنه فعلم أنه ملك من الملائكة، فأوحى الله إليه بأن يكون اسمه إسرائيل وأصبح يعقوب وهو يعرج من رجله، فلذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النساء، ورفع يعقوب عينيه فإذا أخوه عيصو قد أقبل في أربعمائة راجل، فتقدّم أمام أهله، فلما رأى أخاه العيصو سجد له سبع مرات، وكانت هذه تحيتهم في ذلك الزمان، وكان مشروعاً لهم ([18]) فلما رآه العيصو تقدّم إليه وأحتضنه وقبّله وبكى ورفع العيصو عينيه ونظر إلى النساء والصبـيان فقال من أين لك هؤلاء، فقال هؤلاء الذين وهب الله لعبدك، فدنت الأمتان وبنوهما فسجدوا له ودنت ليا وبنوها فسجدوا له، ودنت راحيل وابنها يوسف فخرّا سجداً له، وعرض عليه أن يقبل هديته وألحّ عليه فقبلها، ورجع العيصو، فتقدّم أمامه وأهدى إليه يعقوب من ماشيته هدية احتفال وتودد إليه بالخضوع والتضرع ، فذهب ما كان عند ولحقه يعقوب بأهله وما معه من الأنعام والمواشي والعبـيد قاصدين جبال ساعير، فلما مر بساحور ابتنى له بـيتاً ولدوابّه ظلالاً، ثم مرّ على أورشليم قرية شخيم، فنزل قبل القرية، واشترى مزرعة شخيم ابن جمور بمائة نعجة، فضرب هنالك فسطاطه، وابتنى ثم مذبحاً فسماه «ايل» إلٰه إسرائيل وأمره الله ببنائه ليستعلن له فيه. وهو بيت المقدس اليوم، ([19]) مكان الصخرة التي علمها بوضع الدهن عليها قبل ذلك، وكان من قصة «دينا» بنت يعقوب بنت «ليا» وما كان من أمرها مع شخيم بن جمور الذي قهرها على نفسها، وأدخلها منزله ثم خطبها من أبيها وإخوتها، فقال إخوتها إلا أن تختتنوا كلكم فنصاهركم وتصاهرونا، فإنا لا نصاهر قوماً غلفاً، فأجابوهم إلى ذلك واختتنوا كلهم. فلما كان اليوم الثالث واشتد وجعهم من ألم الختان، مال عليهم بنو يعقوب فقتلوهم عن آخرهم، وقتلوا شخيما وأباه جمور لقبيح ما صنعوا إليهم، مضافاً إلى كفرهم، وما كانوا يعبدونه من أصنامهم، فلهذا قتلهم بنو يعقوب وأخذوا أموالهم غنيمة.
ثم حملت راحيل فولدت غلاماً وهو بنيامين، إلاّ أنها جهدت في طلقها به جهداً شديداً وماتت عقيبه، فدفنها يعقوب في أفراث وهي بـيت لحم، وصنع يعقوب على قبرها حجراً وهي الحجارة المعروفة بقبر راحيل إلى اليوم،وكان أولاد يعقوب الذكور اثنى عشر رجلاً فمن ليا روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وايساخر وزابلون ومن راحيل يوسف وبنيامين ومن أمة راحيل دان ونفتالي ومن أمة ليا حاد وأشير
وجاء يعقوب إلى أبـيه إسحاق فأقام عنده بقرية حَبْرون التي في أرض كنعان حيث كان يسكن إبراهيم
ثم مرض إسحاق ومات عن مائة وثمانين سنة ودفنه ابناه العيصو ويعقوب مع أبـيه إبراهيم الخليل في المغارة التي اشتراه
[1] قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة.
[2] وفي البشرة ، ويولد له اثنا عشر عظيماً، وأجعله رئيساً لشعب عظيم.
[3] البراق دابة الأنبياء تشبه البرق في سرعتها . لسان العرب مادة برق
[4] قال الله تعالى: {وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ نَبِيّاً مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ (112) وَبَـٰرَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَـٰقَ وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) } (الصافات: 112، 113).
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَآءتْ رُسُلُنَآ إِبْرٰهِيمَ بِٱلْبُـشْرَىٰ قَالُواْ سَلَـٰماً قَالَ سَلَـٰمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ (70) وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَآء إِسْحَـٰقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يٰوَيْلَتَا ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْء عَجِيبٌ (72) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَـٰتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) } (هود: 69 ـــ 73).
وقال تعالى: {وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَـٰمٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَىٰ أَن مَّسَّنِىَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَـٰكَ بِٱلْحَقّ فَلاَ تَكُن مّنَ ٱلْقَـٰنِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ (56) } (الحجر
وقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرٰهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَـٰماً قَالَ سَلَـٰمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَآء بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَـٰمٍ عَلَيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ (30) } (الذاريات)
[5] قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَآء إِسْحَـٰقَ يَعْقُوبَ } (هود: 71) دليل على أنها تستمتع بوجود ولدها إسحاق، ثم من بعده يولد ولده يعقوب. أي يولد في حياتهما لتقر أعينهما به كما قرت بولده. ولو لم يرد هذا لم يكن لذكر يعقوب وتخصيص التنصيص عليه من دون سائر نسل إسحاق فائدة. ولما عين بالذكر دل على أنهما يتمتعان به ويسران بولده كما سرا بمولد أبيه من قبله.يؤيده ما ثبت في «الصحيحين» من حديث أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: «المسجد الحرام». قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى» قلت كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة }البخاري 3366.
ويعقوب عليه السلام هو الذي أسس المسجد الأقصى، وهو مسجد إيليا بيت المقدس شرفه الله. وهذا متجه. ويشهد له ما ذكرناه من الحديث، فعلى هذا يكون بناء يعقوب عليه السلام وهو إسرائيل بعد بناء الخليل وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء.
[6] وقد ذكره الله تعالى بالثناء عليه في غير ما آية من كتابه العزيز. وبين صلى الله عليه وسلم «أَنَّ الكَرِيمَ بْنَ الكَرِيمِ بْنِ الكَرِيمِ بْنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنَ إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ».
[7] وهو والد الروم.
[8]الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل
[9] جيرون وهو مدفنه المسمى بالخليل ، وكانت معظمة تعظمها الصائبة ، وتسكب عليها الزيت للقربان وتزعم أنها هيكل المشتري والزهرة ، فسماها العبرانيون إيليا ومعناه بيت الله .
[10] الدرج
[11] وهو موضع بـيت المقدس اليوم الذي بناه يعقوب بعد ذلك ويكون بعد بناء الكعبة بأربعين سنة
[12] فيها قبره وقبر ولده إسحاق وقبر ولدولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد «حبرون»، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم.
[13] وجاء اسمها باسمت ولم أجد ما يدل على أنه اسم أخر لها أو أن هذا اسم لاخت لها عند إسماعيل أيضاً
[14] وولد أليفاز ستة من الولد ثمال وأومار وصفو وكعتام وقتال وعمالق السادس ، لسرية اسمها تمتاع وهي شقيقة لوطان بن يسعين
[15] وولد رعويل بن عيصو أربعة من الولد ، ناحة وزيدم وشتما ومرا . والروم وفارس من ولد رعويل ابن باسمت فالقياصرة ملوك الروم من ولد عيصو ويقال لهم للروم بنو الأصفر؛ لصفرة كانت في العيص. وولدت له اليونان
ثم كثر نسل بني عيصو بأرض يسعين وغلبوا الجويين على تلك البلاد وغلبوا بني مدين أيضاً على بلادهم إلى أيلة . و تداول فيهم ملوك وعظماء كان منهم فالغ بن ساعور ، وبعده يودب بن زيدح ، ثم كان منهم هداد بن مداد الذي أخرج بني مدين عن مواطنهم ، ثم كان فيهم بعده ملوك إلى أن زحف يوشع ابن النون إلى الشام وفتح أريحاء وما بعدما وانتزع الملك من جميع الأمم الذين كانوا هنالك ، ثم استلحمهم بختنصر عندما ملك أرض القدس ، ولحق بعضهم بأرض يونان ، وبعضهم بأفريقية
[16] ثم نسخ في شريعة التوراة.
[17] وشب يوسف عليه السلام على غير حال إخوته من كرامة الله به ، وقص عليهم رؤياه التي بشر الله فيها بأمره فغصوا به وخرجوا معه إلى الصيد ، فألقوه في الجب واستخرجه السيارة الذين مروا به بعد ذلك وباعوه للعرب بعشرين مثقالا ، ويقال إن الذي تولى بيعه هو مالك بن دعر بن واين بن عيفا بن مدين . واشتراه من العرب عزيز مصر وهو وزيرها أو صاحب شرطتها واسمه أطفير بن رجيب وقيل قوطفير . وكان ملكها يومئذ من العماليق ، الريان بن الوليد بن دومغ ، وربي يوسف عليه السلام في بيت العزيز فكان من شأنه مع امرأته زليخا مكثه في السجن وتعبيره الرؤيا للمحبوسين من أصحاب الملك ثم استعمله ملك مصر عندما خشي السنة والغلاء على خزائن الزرع في سائر مملكته يقدر جمعها وتصريف الأرزاق منها وأطلق يده بذلك في جميع أعماله ، وألبسه خاتمه وحمله على مركبه ، ويوسف لذلك العهد ابن ثلاثين سنة . فقيل عزل أطفير العزيز وولاه ، وقيل بل مات أطفير فتزوج زليخا وتولى عمله وكان ذلك سبباً لانتظام شمله بأبيه وإخوته لما أصابتهم السنة بأرض كنعان وجاء بعضهم للميرة ، وكان لهم يوسف عليه السلام ، ورد عليهم بضاعتهم وطالبهم بحضور أخيهم فكان ذلك كله سببا لاجتماعه بأبيه يعقوب بعد أن كبر وعمي .
وكان ذلك لعشرين سنة من مغيبه ، و لما وصل يعقوب إلى بلبيس قريبا من مصر ، خرج يوسف ليلقاه ، و يقال خرج الملك معه ، وأطلق لهم أرض بلبيس يسكنون بها وينتفعون . وكان وصول يعقوب صلوات الله عليه في سبعين راكباً من بنيه ، ومعه أيوب النبي من بني عيصو ، وهو أيوب بن برحما بن زبرج بن رعويل بن عيصو ، واستقروا جميعا بمصر ثم قبض يعقوب صلوات الله عليه لسبع عشرة سنة من مقدمه ولمائة وأربعين من عمره ، وحمله يوسف صلوات الله عليه إلى أرض فلسطين ، وخرج معه أكابر مصر وشيوخها بإذن من فرعون . و اعترضهم بعض الكنعانيين في طريقهم ، فأوقعوا بهم ، و انتهوا إلى مدفن إبراهيم و إسحق عليهما السلام فدفنوه في المغارة عندهما ، وانتقلوا إلى مصر ، وأقام يوسف صلوات الله عليه بعد موت أبيه ومعه إخوته إلى أن أدركته الوفاة فقبض لمائة وعشرين سنة من عمره ، وأدرج في تابوت وختم عليه ، ودفن في بعض مجاري النيل . وكان يوسف أوصى أن يحمل عند خروج بني إسرائيل إلى أرض البقاع ، فيدفن هنالك ولم تزل وصيته محفوظة عندهم إلى أن حمله موسى صلوات الله عليه عند خروجه ببني اسرائيل من مصر .
ولما قبض يوسف صلوات الله عليه ، وبقي من بقي من الأسباط إخوته وبنيه تحت سلطان الفراعنة بمصر ، تشعب نسلهم ، وتعددوا إلى أن كاثروا أهل الدولة وارتابوا بهم فاستعبدوهم وقددخل يعقوب إلى مصر مع ولده الأسباط وأولادهم حين أتوا إلى يوسف في سبعين راكبا ، وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى صلوات الله عليه نحوا من مائتين وعشر سنين ، فتداولهم ملوك القبط والعمالقة بمصر ، ثم أحصاهم موسى في التيه ، وعد من يطيق حمل السلاح من ابن عشرين فما فوقها ، فكانوا ستمائة ألف ويزيدون .وكان ليوسف صلوات الله عليه من الولد كثير ، إلا أن المعروف منهم اثنان أفراثيم ومنشى وهما معدودان في الأسباط ، لأن يعقوب صلوات الله عليه أدركهما وبارك عليهما وجعلهما من جملة ولده
[18] كما سجدت الملائكة لآدم تحيّة له، وكما سجد إخوة يوسف وأبواه له كما سيأتي
[19] الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السلام