قصة لوط عليه السلام
لوط عليه السلام ابن أخي إبراهيم عليه السلام, هو ابن هاران ([1]) بن تارخ، وقد مات أبوه هاران في حياة إبيه تارخ ببابل فإبراهيم وهاران وناحور إخوة
وكان من أمر لوط أنه شخص من أرض بابل مع عمه إبراهيم خليل الرحمن، مؤمناً به ،{ فَـئَامَنَ لَهُ لُوطٌ (26) } (العنكبوت). فلوط أول من صدق إبراهيم، وكان متبعاً له على دينه ، فخرجوا ([2]) من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين مهاجرين إلى الشام ، إبراهيم ولوط ومعهما سارة زوجة إبراهيم وكان أبو إبراهيم ممن خرج مع إبراهيم ولوط من بابل وكان مخالفاً لإبراهيم في دينه مقيماً على كفره حتى صاروا إلى حران ، ولما ناظر إبراهيم أهل حران عباد الكواكب ووجدهم لا يحيدون عن كفرهم وشركهم, ترك لوط حران مع عمه إبراهيم وسارة وناحور ([3]) وهجروا حران وأهلها وفيهم آزر مقيماً على كفره حتى مات على كفره وعمره مائتا سنة وخمس سنين وكانت امرأة إبراهيم عاقراً لا يولد لها، ولم يكن لإبراهيم من الولد أحد، بل معه ابن أخيه لوط وكان إبراهيم هو الذي هاجر بهم إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل، ودعوة الخلق إليه.فقدم بهم فلسطين فهو أول من هاجر من أرض كفر وأوحى الله إليه: «إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك» فابتنى إبراهيم مذبحاً لله شكراً على هذه النعمة، وضرب قبته شرقي بيت المقدس ثم انطلق مرتحلاً بهم إلى التيمن يعني أرض بيت المقدس وما والاها وكانت أرض قحط وشدة وغلاء عندما أصاب بلاد الكنعانيين مجاعة ([4])، ثم أتى بهم الأردن فأقام بها زماناً ، ثم ارتحل بهم إبراهيم إلى مصر وحدث ما كان من أمر ملك مصر مع إبراهيم وسارة الذي أهدى هاجر إلى سارة لتخدمها ثم عاد بهم إبراهيم الخليل عليه السلام من بلاد مصر إلى أرض التيمن، ومعه من هذه البلاد أنعام وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجر القبطية المصرية. فنزل السبع من أرض فلسطين وهي برية الشام
ولكثرة مال إبراهيم ومواشيه احتاج إلى السعة في المسكن والمرعى ، وكان مسكنه مابين قرية مدين والحجاز إلى الأرض الشأم ، وكان ابن أخيه لوط نازلا معه ، فقاسم ماله لوطاً ، فأعطى لوطاً شطره، ولكثرة المواشي وتوابعها لإبراهيم ولوط ولضيق المرعي خيره إبراهيم مسكناً يسكنه ومنزلا ينزله غير المنزل الذي هو به نازل ، فاختار لوط ناحية الأردن فصار إليها, وهي المؤتفكة من ناحية فلسطين وهي من السبع مسيرة يوم وليلة, ونزح لوطاً عليه السلام بما له من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك إلى الأردن المؤتفكة وهي أرض الغور، المعروف بغور زغر وكانت خمس قرى منها سدوم ؛ فنزل بمدينة سدوم وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان. وكان أهلها أشرار كفاراً فجارا, فلما أقام بها بعثه الله وأرسله إلى أهل سدوم فأمر قومه من سدوم .
وخرج لوط مع عساكر كنعان وفلسطين للقاء ملوك الشرق حين زحفوا إلى أرض الشام ، وكانوا أربعة ملوك ملك الأهواز من بني غليم بن سام واسمه كرزلا عامر ، وملك بابل واسمه شنعا، وملك الأستار واسمه أريوح ، وملك كوتم واسمه تزعال . وكان ملوك كنعان الذين خرجوا إليهم خمسة على عدد القرى الخمسة ، وذلك أن ملك الأهواز كان استعبدهم اثنتي عشرة سنة ، ثم عصوا فزحف إليهم واستجاش بالملوك المذكورين معه ، فأصابوا من أهل جبال يسعين ([5]) إلى فاران ([6]) التي في البرية وكان بها يومئذ الجويون من شعوب كنعان أيضاً . وخرج ملك سدوم وأصحابه لمدافعتهم فانهزم هو والملوك الذين معه من أهل سدوم ، وسباهم ملك الأهواز ومن معه من الملوك ، وأسروا لوطا وسبوا أهله وغنموا ماشيته. وبلغ الخبر إبراهيم عليه السلام فاتبعهم في ولده ومواليه نحوا من ثلثمائة وثمانية عشر ، ولحقهم بظاهر دمشق فدهمهم ، فانفضوا وخلص لوطا في تلك الوقعة ، وجاء بأهله ومواشيه وتلقاهم ملك سدوم واستعظم فعلتهم .
ومدينة سدوم من أرض غور زغر كانت أم تلك المحلة ولها أرض ومعتملات وقرى مضافة إليها. ولها أهل من أفجر الناس وأكفرهم وأسوأهم طوية، وأردأهم سريرة وسيرة، ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، وهي إتيان الذكران من العالمين، وترك ما خلق الله من النسوان لعباده الصالحين. وكانوا يعترضون الراكب فيأخذونه فيركبونه وكانوا يجلسون بطريق المسافر إذا مر بهم قطعوا به وعملوا به ذلك العمل الخبيث وهو اللواطة ([7]), ويأتون في ناديهم وهو مجتمعهم ومحل حديثهم وسمرهم المنكر من الأقوال والأفعال على اختلاف أصنافه. حتى قيل إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم، ولا يستحون من مجالسيهم، وربما وقع منهم الفعلة العظيمة في المحافل ولا يستنكفون، فكانوا يجامعون الرجال في مجالسهم فيجامع بعضهم بعضاً في المجالس ولا يرعوون لوعظ واعظ، ولا نصيحة من عاقل. وكانوا في ذلك وغيره كالأنعام بل أضل سبيلاً، ولم يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر، ولا ندموا على ما سلف من الماضي، ولا راموا في المستقبل تحويلاً، ولا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.
فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات والفواحش المنكرات، والأفاعيل المستقبحات فتمادوا على ضلالهم وطغيانهم، واستمروا على فجورهم وكفرانهم
فكان لوط عليه السلام ينهاهم بأمر الله إياه عن الأمور التي كرهها الله تعالى لهم من قطع السبيل وركوب الفواحش وإتيان الذكور في الأدبار، ويتوعدهم على إصرارهم على ما كانوا عليه مقيمين من ذلك وتركهم التوبة منه بالعذاب الأليم فلا يزجرهم عن ذلك وعيده ولا يزيدهم وعظه إلا تمادياً وعتواً ولم يستجيبوا له ولم يؤمنوا به حتى ولا رجل واحد منهم، ولم يتركوا ما عنه نهوا. بل استمروا على حالهم، ولم يرتدعوا عن غيهم وضلالهم، وهموا باخراج رسولهم من بين ظهرانيهم. واستضعفوه وسخروا منه وما كان حاصل جوابهم عن خطابهم إذ كانوا لا يعقلون إلا أن قالوا: {أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } (النمل: 56) فجعلوا غاية المدح ذماً يقتضي الإخراج وما حملهم على مقالتهم هذه إلا العناد واللجاج.
وما كان هذا جوابهم إلا لما نهاهم عن الطامة العظمى، والفاحشة الكبرى، التي لم يسبقهم إليها أحد من أهل الدنيا
وقالوا له فيما قالوا: {ٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } (العنكبوت: 29) فطلبوا منه وقوع ما حذرهم عنه من العذاب الأليم، وحلول البأس العظيم.
فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم، فسأل من رب العالمين وإله المرسلين أن ينصره على القوم المفسدين.
فغار الله لغيرته، وغضب لغضبته؛ واستجاب لدعوته، وأجابه إلى طلبته، وبعث رسله الكرام، وملائكته العظام، فمروا على الخليل إبراهيم فلما نزلوا على إبراهيم ورآهم سر بهم وقال : لا يخدم هؤلاء القوم أحد إلا أنا بيدي
{ فَمَا لَبِثَ أَن جَآء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ (70) وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَآء إِسْحَـٰقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يٰوَيْلَتَا ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْء عَجِيبٌ (72) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَـٰتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) } (هود: 69 ـــ 73).
وأخبرت الملائكة إبراهيم بما جاءوا له من الأمر الجسيم والخطب العميم لما قال لهم { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ (31) قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ (33) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) } (الذاريات: 31 ـــ 34) وقال: {وَلَمَّا جَآءتْ رُسُلُنَآ إِبْرٰهِيمَ بِٱلْبُشْرَىٰ قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَـٰلِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ (32) } (العنكبوت).
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرٰهِيمَ ٱلرَّوْعُ وَجَآءتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ يُجَـٰدِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ (74) } (هود: 74). وذلك أنه كان يرجو أن يجيبوا أو ينيبوا ويسلموا ويقلعوا ويرجعوا، لهذا قال تعالى: {إِنَّ إِبْرٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يإِبْرٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآء أَمْرُ رَبّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) } (هود: 75 ـــ 76) أي أعرض عن هذا وتكلم في غيره؛ فإنه قد حتم أمرهم، ووجب عذابهم وتدميرهم وهلاكهم، {إِنَّهُ قَدْ جَآء أَمْرُ رَبّكَ } أي قد أمر به من لا يرد أمره. ولا يرد بأسه، ولا معقب لحكمه. {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ }.
أن إبراهيم عليه السلام جعل يقول: أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن قالوا: لا، قال: فمائتا مؤمن؟ قالوا: لا. قال: فأربعون مؤمناً؟ قالوا: لا. قال: فأربعة عشر مؤمناً؟ قالوا: لا. إلى أن قال: أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد؟ قالوا: لا. {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا } (العنكبوت: 32) الآية.([8])
لما فصلت الملائكة من عند إبراهيم وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل خرجوا نحو قرية لوط حتى أتوا أرض سدوم، في صور شبان حسان، اختباراً من الله تعالى لقوم لوط للحجة عليهم, وكان ذلك في نصف النهار، ولقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها، وكان للوط ابنتان: اسم الكبرى «ريثا» والصغرى «زغرتا». فقالوا لها: يا جارية، هل من منزل؟ فقالت لهم: نعم مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم فرقت عليهم من قومها فأتت أباها فقالت: يا أبتاه، أرادك فتيان على باب المدينة، ما رأيت وجوه قوم قط هي أحسن منهم، ليأخذهم قومك فيفضحوهم. وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلاً فقال: خل عنا فلنضف الرجال.
وذلك عند غروب الشمس، فخشي إن لم يضفهم أن يضيفهم غيره من قومه، {وَلَمَّا جَآءتْ رُسُلُنَا لُوطاً} (هود: 77). ، جاءوا مشاةً في صورة رجال شباب فحسبهم بشراً فقد رأى ما لا يمكن المحيد عنه. أنهم وردوا عليه وهو في أرض له يعمل فيها، و {سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } شديد بلاؤه, فتضيفوا فاستحيا منهم، وانطلق أمامهم، وجعل يعرض لهم في الكلام لعلهم ينصرفون عن هذه القرية، وينزلون في غيرها، فقال لهم والله يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء. ثم مشى قليلاً، ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات، قال: وكانوا قد أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك.
فجاء بهم فلم يعلم أحد إلا أهل البيت، فخرجت امرأته فأخبرت قومها؛ فقالت: قد نزل بنا قوم ما رأيت أحسن وجوهاً منهم ولا أطيب رائحة, إن في بيت لوط رجالاً ما رأيت مثلهم قط. {وَجَآء أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) } فجاءه قومه يهرعون إليه
{وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَاتِ } (هود: 78) أي هذا مع ما سلف لهم من الذنوب العظيمة الكبيرة الكثيرة، . {قَالَ إِنَّ هَـؤُلآء ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ (68) } (الحجر: 67 ـــ 71).
وقَالَ { يٰقَوْمِ هَـؤُلآء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } (هود: 78) يرشدهم إلى غشيان نسائهم وهن بناته شرعاً؛ لأن النبي للأمة بمنزلة الوالد، وقال {أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْوٰجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) } (الشعراء: 165 ـــ 166). {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } (هود: 78) نهى لهم عن تعاطي ما لا يليق من الفاحشة، وشهادة عليهم بأنه ليس فيهم رجل له مسكة ولا فيه خير، بل الجميع سفهاء، فجرة أقوياء، كفرة أغبياء.
وكان هذا من جملة ما أراد الملائكة أن يسمعوه منه من قبل أن يسألوه عنه. فقال قومه، عليهم لعنة الله الحميد المجيد، مجيبين لنبيهم فيما أمرهم به من الأمر السديد: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} (هود: 79). يقولون عليهم لعائن الله لقد علمت يا لوط أنه لا أرب لنا في نسائنا، وإنك لتعلم مرادنا وغرضنا (من غير النساء).
واجهوا بهذا الكلام القبيح لرسولهم الكريم، ولم يخافوا سطوة العظيم، ذي العذاب الأليم، ولهذا قال عليه السلام: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } (هود: 80). ود أن لو كان له بهم قوة، أو له منعة وعشيرة ينصرونه عليهم، ليحل بهم ما يستحقونه من العذاب على هذا الخطاب.
{ قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ (70)}فقد نهوه أن يضيف أحد لأنهم يقصدون الغرباء يريدون منهم فعل الفاحشة (الحجر: 67). { قَالَ هَـٰؤُلآء بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فَـٰعِلِينَ (71) } (الحجر: 67 ـ 71). فأمرهم بقربان نسائهم، وحذرهم الاستمرار على طريقتهم وسيآتهم. وهم في ذلك لا ينتهون ولا يرعوون، بل كلما نهاهم يبالغون في تحصيل هؤلاء الضيفان ويحرصون، ولم يعلموا ما حم به القدر مما هم إليه صائرون ليلتهم وصبيحة ليلتهم إليه منقلبون.{وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } (القمر: 36 ـــ 38).
أن نبي الله لوطاً عليه السلام جعل يمانع قومه الدخول ويدافعهم والباب مغلق، وهم يرومون فتحه وولوجه، وهو يعظهم وينهاهم من وراء الباب، وكل ما لهم في إلحاح وانحاح، فلما ضاق الأمر وعسر الحال قال ما قال {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } (هود: 80) لأحللت بكم النكال , فقالت الملائكة: {يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } (هود: 81). واستأذن جبرائيل ربه في عقوبتهم فأذن له فخرج عليهم جبريل عليه السلام ، فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه فطمست أعينهم، حتى قيل إنها غارت بالكلية ولم يبق له محل ولا عين ولا أثر، فرجعوا يدوس بعضهم بعضاً عمياناً يقولون : النجاء النجاء ! فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض, ورجعوا يتحسسون مع الحيطان، ويتوعدون رسول الرحمٰن، ويقولون إذا كان الغد كان لنا وله شأن {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ (37) } (القمر: 37 ـــ 38).
وتقدمت الملائكة إلى لوط عليه السلام، آمرين له بأن يسري هو وأهله من آخر الليل. وقالوا له {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } (هود: أي فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم. وامرأة لوط اسمها «والهة»
وبشروه بهلاك هؤلاء البغاة العتاة، الملعونين النظراء والأشباه الذين جعلهم الله سلفا لكل خائب مريب قال لوط : أهلكوهم الساعة ، فقالوا لم نؤمر إلا بالصبح {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } (هود: 81). فلما خرج لوط عليه السلام بأهله، وهم ابنتاه، لم يتبعه منهم رجل واحد، وامرأته خرجت معه. فلما خلصوا من بلادهم وكانت الملائكة قد أمروه أن يصعد إلى رأس الجبل الذي هناك فاستبعده، وسأل منهم أن يذهب إلى قرية قريبة منهم، فقالوا: اذهب فإنا ننتظرك حتى تصير إليها وتستقر فيها، ثم نحل بهم العذاب. فذهب إلى قرية غور زغر، فلما أشرقت الشمس نزل بهم العذاب. { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ (38) } (القمر: 37
جاءهم من أمر الله ما لا يرد، ومن البأس الشديد ما لا يمكن أن يصد.{فَلَمَّا جَآء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا } (هود83).
اقتلعهن جبريل بطرف جناحه من قرارهن وكن سبع مدن بمن فيهن من الأمم، كانوا أربعة آلاف نسمة، وما معهم من الحيوانات، وما يتبع تلك المدن من الأراضي والأماكن والمعتملات. فرفع الجميع حتى بلغ بهن عنان السماء، حتى سمعت الملائكة أصوات ديكتهم ونباح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ }[9]){مَّنْضُودٍ }[10]). {مُّسَوَّمَةً([11]) عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) } (الذاريات: 34) {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآء مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ (58) } (النمل: 58) (الشعراء: 173) {وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ (53) فَغَشَّـٰهَا مَا غَشَّىٰ (54) فَبِأَىّ آلآء رَبّكَ تَتَمَارَىٰ (55) } (النجم: 53 ـــ 55) يعني قلبها فأهوى بها منكسة عاليها سافلها، وغشاها بمطر من حجارة من سجيل، متتابعة، مسومة مرقومة على كل حجر اسم صاحبه الذي سقط عليه، من الحاضرين منهم في بلدهم، والغائبين عنها من المسافرين والنازحين والشاذين منها.
وامرأة لوط ([12]) خرجت مع زوجها وبنتيها، ولكنها لما سمعت الصيحة وسقوط البلدة، التفتت إلى قومها وخالفت أمر ربها قديماً وحديثاً، وقالت: واقوماه فسقط عليها حجر فدمغها وألحقها بقومها؛ إذ كانت على دينهم، وكانت عيناً لهم على من يكون عند لوط من الضيفان.
{فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ (74) إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لِلْمُتَوَسّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ (76) إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) } (الحجر: 73 ـــ 77) أي من نظر بعين الفراسة والتوسم فيهم، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها، وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة هالكة غامرة ([13])
{فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ (36) }
فطهر الله لوط وأهله إلا امرأته وأخرجهم من القرية أحسن اخراج، وترك قومه في محلتهم فأخذهم الله أخذاً وبيلاً.
وجعل الله مكان تلك البلاد بحيرة منتنة لا ينتفع بمائها، ولا بما حولها من الأراضي المتاخمة لفنائها، لرداءتها ودناءتها, فصيرها عليهم بحيرة منتنة ذات أمواج، لكنها عليهم في الحقيقة نار تأجج، وحر يتوهج، وماؤها ملح أجاج. فأحل الله بهم من البأس الذي لا يرد ما لم يكن في خلدهم وحسبانهم، وجعلهم مثلة في العالمين، وعبرة يتعظ بها الألباء من العالمين فصارت عبرة ومثلة وعظة وآية على قدرة الله تعالى وعظمته، وعزته في انتقامه ممن خالف أمره، وكذب رسله، واتبع هواه وعصى مولاه، ودليلاً على رحمته بعباده المؤمنين في انجائه إياهم من المهلكات، وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور{وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءايَةً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلاْلِيمَ (37) } (الذاريات: 35 ـــ 37) ([14]) تركناها عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة، وخشي الرحمٰن بالغيب وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فانزجر عن محارم الله وترك معاصيه، وخاف أن يشابه قوم لوط.
فأهلك الله المؤتكفة ونجى لوطاً ولحق بأرض فلسطين، وزوج لوط ابنته من مدين بن إبراهيم عليهما السلام ، وجعل الله في نسلها البركة ، فكان منه أهل مدين الأمة المعروفة ([15]) وأقام لوط بفلسطين مع عمه إبراهيم صلوات الله عليهما إلى أن قبضه الله وابنة لوط الثانية أبنها النبي أيوب عليه السلام بن مرص بن رازح بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم , وكان للوط عليه السلام من الولد عمون وموآيي وجعل الله في نسلهما البركة ، حتى كانوا من أكثر قبائل الشام ، وكانت مساكنهم بأرض البلقاء ومدائنها في بلد موآيي ومعان وما والاهما ([16])
[1] لإبراهيم عليه السلام من أقربائه اثنان كل منهما اسمه هاران, أحدهما هاران أخوه أبو لوط وقد مات في حياة آزار في بابل التي ولد بها , والثاني هو هاران أبو كلاً من سارة زوجة إبراهيم وأختها ملكاً زوجة ناحور أخو إبراهيم وهاران هذا هو عم إبراهيم أخو أبيه آزر الذي بنى مدينة حران التي تنسب إليه وكان ملك على حران
[2] عن ابن عباس ، قال : لما هرب إبراهيم من كوثى ، وخرج من النار ولسانه يومئذ سرياني ، فلما عبر الفرات من حران غير الله لسانه فقيل : عبراني ، أي حيث عبر الفرات ، وبعث نمرود في أثره ، وقال : لا تدعوا أحداً يتكلم بالسريانية إلا جئتموني به ، فلقوا إبراهيم عليه السلام فتكلم بالعبرانية ، فتركوه ولم يعرفوا لغته
[3] ناحور أخو إبراهيم عليه السلام الذي هاجر مع إبراهيم عليه السلام من بابل إلى حران ، ثم إلى الأرض المقدسة ، فكان معه هنالك ، وكانت زوجته ملكا بنت هاران أخت سارة زوج إبراهيم عليه السلام وكان لناحور من ملكا ثمانية من الولد عوص وبوص وقمويل وهو أبو الأرمن ، وكاس عاش في الكلدانيون الذين كان منهم بختنصر وملوك بابل ، وحذر وبلداس وبلداف ويثويل . وكان له من سرية اسمها أدوما أربعة من الولد وهم طالج وكاحم وتاخش وماعخا . هؤلاء ولد ناحور أخي إبراهيم وهم اثنا عشر ولدا ، وهؤلاء كلهم بادوا وانقرضوا ، ولم يبق منهم إلا الأرمن من قمويل بن ناحورا أخي إبراهيم عليه السلام ابن آزر ومواطنهم في أرمينية شرقي القسطنطينية و هو أبو بتويل ، و بتويل أبو لابان و أبو ربقا امرأة إسحاق بن إبراهيم أم يعقوب ، ولابان أبو ليا و راحيل زوجتي يعقوب .
[4]قيل احتاج إبراهيم عليه السلام وقد كان له صديق يأتيه ويعطيه فقالت له سارة : لو أتيت خلتك فأصبت لنا منه طعاماً ! فركب حماراً له ثم أتاه ، فلما أتاه تغيب منه ، واستحيا إبراهيم أن يرجع إلى أهله خائباً ، فمر على بطحاء ، فملأ منها خرجه ، ثم أرسل الحمار إلى أهله ، فأقبل الحمار وعليه حنطة جيدة ، ونام إبراهيم عليه السلام فاستيقظ ، وجاء إلى أهله ، فوجد سارة قد جعلت له طعاماً ، فقالت : ألا تأكل ؟ فقال : وهل من شيء ؟ فقالت : نعم من الحنطة التي جئت بها من عند خليلك ، فقال : صدقت من عند خليلي جئت بها ، فزرعها فنبتت له ، وزكا زرعه وهلكت زروع الناس ، فكان أصل ماله منها ، فكان الناس يأتونه فيسألونه فيقول : من قال : لا إله إلا الله فليدخل فليأخذ ، فمنهم من قال فأخذ ، ومنهم من أبي فرجع ، وذلك قوله تعالى : " فمنهم من آمن به و منهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيراً "
[5] ، وهي جبال الشراة بين تبوك وفلسطين وتعرف اليوم ببلاد كرك والشوبك ، وكان من شعوبهم هناك بنو لوطان وبنو شوبال وبنو صمقون وبنو عنا وبنو ديشوق وبنو يصد وبنو ديسان سبعة شعوب . ومن بني ديشون الأشبان سكن عيصو بن يعقوب عليه السلام بينهم بتلك البلاد، وتزوج منهم من بنات عنا بن يسعين من جوى
[6] هي أرض الحجاز
[7] وكانوا يؤذون أهل الطريق فكانوا يجلسون بالطريق فيحذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق، ويخونون الرفيق
[8] قال إبراهيم: يا رب أتهلكهم وفيهم خمسون رجلاً صالحاً؟ فقال الله: «لا أهلكهم وفيهم خمسون صالحاً». ثم تنازل عشرة فقال الله: «لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون».
[9]السجيل هو الشديد الصلب القوي.
[10] أي يتبع بعضها بعضاً في نزولها عليهم من السماء
[11] أي معلمة مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذي يهبط عليه فيدمغه
[12] قال تعالى: {ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَـٰلِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدخِلِينَ } (التحريم: 10) أي خانتاهما في الدين فلم يتبعاهما فيه. وليس المراد أنهما كانتا على فاحشة حاشا وكلا ولما فإن الله لا يقدر على نبي قط أن تبغي امرأته، كما قال ابن عباس وغيره من أئمة السلف والخلف: ما بغت امرأة نبي قط. ومن قال خلاف هذا فقد أخطأ خطأ كبيراً.
[13] كما روى الترمذي وغيره مرفوعاً: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لِلْمُتَوَسّمِينَ (75) }.
[14] تركها عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة، وخشي الرحمٰن بالغيب وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فانزجر عن محارم الله وترك معاصيه، وخاف أن يشابه قوم لوط. ومن تشبه بقوم فهو منهم، وإن لم يكن من كل وجه فمن بعض الوجوه؛ فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم فما قوم لوط منكم ببعيد فالعاقل اللبيب الفاهم الخائف من ربه، يمتثل ما أمره الله به عز وجل، ويقبل ما أرشده إليه رسول الله من إتيان ما خلق له من الزوجات الحلال، وإياه أن يتبع كل شيطان مريد، فيحق عليه الوعيد، ويدخل في قوله تعالى: {وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ } (هود: 83) , {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ (76) } أي لبطريق مهيع مسلوك إلى الآن.{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ (137) وَبِٱلَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (138) } (الصافات: 137- 138)
[15] وكان لها من الولد خمسة عيفا وعيفين وخنوخ وأنيداغ وألزاعا فكان منهم مدين أمة كبيرة ذات بطون وشعوب ، وكانوا من أكبر قبائل الشام وأكثرهم عددا ، وكانت مواطنهم تجاور معان من أطراف الشام مما يلي الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط وكان لهم تغلب بتلك الأرض ، فعتوا وبغوا وعبدوا الآلهة ، وكانوا يقطعون السبل ويبخسون في المكيال. وبعث الله فيهم شعيبا نبيا منهم
[16] وكانت لهم مع بني إسرائيل حروب وكان منهم بلعام بن باعورا بن رسيوم بن برسيم بن موآيي ، وقصته مع ملك كنعان حين طلبه في الدعاء على بني إسرائيل أيام موسى صلوات الله عليه وأن دعاءه صرف إلى الكنعانيين