قصة يعقوب عليه السلام
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام
كان إبراهيم عليه السلام قد بشر هو وزوجته سارة بولد اسمه إسحاق ومنه ولد اسمه يعقوب وولد لهما إسحاق وكبر وتزوج إسحاق من رفقاً بنت بتوابـيل وأبوها أبن عم إسحاق في حياة إبراهيم ، وكانت رفقا عاقراً، فدعا الله لها، فحملت فولدت غلامين توأمين أولهما: سمّوه عيصو ([1]) والثاني: سمّوه: يعقوب ([2]) وهو إسرائيل وكان إسحاق يحب العيصو أكثر من يعقوب لأنه بكره، وكانت أمهما رفقاً تحب يعقوب أكثر لأنه الأصغر.
وأقام إسحق بمكانه في فلسطين ولما كبر إسحاق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاماً وأمره أن يذهب فيصطاد له صيداً ويطبخه له ليبارك عليه ويدعو له. وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك فأمرت رفقاً ابنها يعقوب أن يذبح جديـين من خيار غنمه ويصنع منهما طعاماً كما اشتهاه أبوه ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعو له، فقامت فألبسته ثياب أخيه وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديـين، لأن العيصو كان أشعر الجسد، ويعقوب ليس كذلك، فلما جاء به وقرّبه إليه، قال: من أنت؟ قال: ولدك، فضمّه إليه وجسّه، وجعل يقول أما الصوت فصوت يعقوب، وأما الجسّ والثياب فالعيصو، فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدراً، وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده وأن يكثر رزقه وولده.
فلما خرج من عنده جاء أخوه العيصو بما أمره به والده فقربه إليه فقال له: ما هذا يا بني؟
قال: هذا الطعام الذي اشتهيته، فقال: أما جئتني به قبل الساعة وأكلت منه ودعوت لك؟ فقال: لا والله، وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك فوجد في نفسه عليه وجداً كثيراً. وتواعده بالقتل إذا مات أبوهما، وسأل أباه فدعا له بدعوة أخرى، وأن يجعل لذريته غليظ الأرض، وأن يكثر أرزاقهم وثمارهم، فلما سمعت أمهما ما يتواعد به العيصو أخاه يعقوب، أمرت ابنها يعقوب أن يذهب إلى أخيها لابان الذي بأرض حرّان، وأن يكون عنده إلى حين يسكن غضب أخيه عليه، وأن يتزوج من بناته. وقالت لزوجها إسحق أن يأمره بذلك ويوصيه ويدعو له ففعل، فخرج يعقوب عليه السلام من عندهم من آخر ذلك اليوم فأدركه المساء في موضع فنام فيه، أخذ حجراً فوضعه تحت رأسه ونام، فرأى في نومه ذلك معراجاً ([3]) منصوباً من السماء إلى الأرض وإذا الملائكة يصعدون فيه وينزلون والربّ تبارك وتعالى يخاطبه ويقول له إني سأبارك عليك وأكثر ذريتك، واجعل لك هذه الأرض، ولعقبك من بعدك. فلما هبّ من نومه فرح بما رأى ونذر لله لئن رجع إلى أهله سالماً ليبنين في هذا الموضع معبداً لله عزّ وجلّ، وأن جميع ما يرزقه من شيء يكون لله عشره، ثم عمد إلى ذلك الحجر فجعل عليه دهناً يتعرّفه به، وسمّي ذلك الموضع: بـيت إيل، أي بـيت الله ([4]) فلما قدم يعقوب على خاله أرض حرّان إذا له ابنتان اسم الكبرى «لياً» واسم الصغرى «راحيل» وكانت أحسنهما وأجملهما، فطلب يعقوب إن يتزوجها بناء على رغبة أمه فأجابه لابان إلى ذلك بشرط أن يرعى على غنمه سبع سنين
ولما مت إبراهيم الخليل عليه السلام تولى دفنه إبنيه إسماعيل وإسحاق في المغارة ([5]) التي اشتراها إبراهيم التي دفن فيها امرأته سارة
وأما العيصو فقد سكن جبال بني يسعين من بني جوي ، إحدى شعوب كنعان، وهي جبال الشراة بين تبوك وفلسطين وتعرف اليوم ببلاد كرك والشوبك
ولما مضت المدة على حال يعقوبو صنع خاله لابان طعاماً وجمع الناس عليه وزفّ إليه ليلاً ابنته الكبرى ليا وكانت ضعيفة العينين قبـيحة المنظر. فلما أصبح يعقوب إذا هي ليا، فقال لخاله: لِمَ غدرت بـي وأنت تعلم إنما خطبت إليك راحيل؟ فقال: إنه ليس من سنتنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى، فإن أحببت أختها فاعمل سبع سنين أخرى وأزوجكها، فعمل سبع سنين وادخلها عليه مع أختها وكان ذلك سائغاً في ملّتهم ([6])
ووهب لابان لكل واحدة من ابنتيه جارية فوهب لليا جارية اسمها: زلفى ووهب لراحيل جارية اسمها بلهى وجبر الله تعالى ضعف ليا بأن وهب لها أولاداً، فكان أول من ولدت ليعقوب «روبـيل» ثم «شمعون» ثم «لاوي» ثم «يهوذا»، فغارت عند ذلك راحيل وكانت لا تحبل، فوهبت ليعقوب جاريتها بلها فوطئها فحملت له غلاماً سمّته: «دان»، وحملت وولدت غلاماً آخر سمته: «نيفتالي»، فعمدت عند ذلك ليا فوهبت جاريتها زلفا من يعقوب عليه السلام فولدت له «جاد» و«أشير» غلامين ذكرين، ثم حملت ليا أيضاً فولدت غلاماً خامساً منه وسمته: ايساخر ثم حملت وولدت غلاماً سادساً سمته «زابلون»، ثم حملت وولدت بنتا سمتها «دينا»، فصار لها سبعة من يعقوب. ثم دعت الله تعالى راحيل وسألته أن يهب لها غلاماً من يعقوب، فسمع الله نداءها وأجاب دعاءها فحملت من نبـي الله يعقوب فولدت له غلاماً عظيماً شريفاً حسناً جميلاً سمته: «يوسف» كل هذا وهم مقيمون بأرض حرّان وهو يرعى على خاله غنمه بعد دخوله على البنتين ست سنين أخرى فصار مدة مقامه عشرين سنة، ثم أمر الله يعقوب بالرحيل إلى أرض كنعان التي وعدوا بملكها فطلب يعقوب من خاله لابان أن يسرّحه ليمرّ إلى أهله، فقال له خاله إني قد بورك لي بسببك، فسلني من مالي ما شئت، فقال تعطيني كل حَمَل يولد من غنمك هذه السنة أبقع، وكل حَمَل ملمع أبـيض بسواد، وكل أملح ببـياض، وكل أجلح أبـيض من المعز، فقال نعم. فعمد بنوه فأبرزوا من غنم أبـيهم ما كان على هذه الصفات من التيوس لئلا يولد شيء من الحملان على هذه الصّفات، وساروا بها مسيرة ثلاثة أيام عن غنم أبـيهم، قالوا فعمد يعقوب عليه السلام إلى قضبان رطبة بـيض من لوز وولب فكان يقشرها بلقاً وينصبها في مساقي الغنم من المياه لينظر الغنم إليها فتفزع وتتحرك أولادها في بطونها فتصير ألوان حملانها كذلك، وهذا يكون من باب خوارق العادات وينتظم في سلك المعجزات، فصار ليعقوب عليه السلام أغنام كثيرة ودواب وعبـيد وتغيّر له وجه خاله، وبنيه وكأنهم انحصروا منه.
وأوحى الله تعالى إلى يعقوب أن يرجع إلى بلاد أبـيه وقومه ووعده بأن يكون معه، فعرض ذلك على أهله فأجابوه مبادرين إلى طاعته، فتحمّل بأهله وماله وسرقت راحيل أصنام أبـيها، فلما جاوزوا وتحيزوا عن بلادهم لحقهم لابان وقومه، فلما اجتمع لابان بـيعقوب عاتبه في خروجه بغير علمه، وكان يريد أن يعلمه فيخرجهم في فرح ومزاهر وطبول، وحتى يودع بناته وأولادهن، ولِمَ أخذوا أصنامه معهم، ولم يكن عند يعقوب علم من أصنامه، فأنكر أن يكون أخذوا له أصناماً فدخل بـيوت بناته وإمائهن يفتش، فلم يجد شيئاً وكانت راحيل قد جعلتهن في بردعة الحمل وهي تحتها فلم تقم واعتذرت بأنها طامث، فلم يقدر عليهن، فعند ذلك تواثقوا على رابـية هناك يقال لها جلعاد على أنه لا يهبن بناته ولا يتزوج عليهن ولا يجاوز هذه الرابـية إلى بلاد الآخر لا لابان ولا يعقوب، وعملا طعاماً وأكل القوم معهم، وتودّع كل منهما من الآخر وتفارقوا راجعين إلى بلادهم، فلما اقترب يعقوب من أرض ساعير تلقته الملائكة يبشّرونه بالقدوم، وسار يعقوب لوجهه حتى إذا قرب من بلد عيصو ، وهو جبل يسعين بأرض الكرك والشوبك لهذا العهد بعث يعقوب البُرُد إلى أخيه العيصو يترفق له ويتواضع له، فرجعت البُرُد وأخبرت يعقوب بأن العيصو قد ركب إليك في أربعمائة راجل، فخشي يعقوب من ذلك ودعا الله عزّ وجلّ، وصلّى له وتضرّع إليه وتمسكن لديه، وناشده عهده ووعده الذي وعده به، وسأله أن يكفّ عنه شر أخيه العيص، وأعدّ لأخيه هدية عظيمة وهي مائتا شاة وعشرون تيساً، ومائتا نعجة وعشرون كبشاً، وثلاثون لقحة وأربعون بقرة، وعشرة من الثيران وعشرون أتاناً وعشرة من الحمر. وأمر عبـيده أن يسوقوا كلا من هذه الأصناف وحده وليكن بـين كل قطيع وقطيع مسافة إذا لقيهم العيصو فقال للأول: لمن أنت ولمن هذه معك فليقل لعبدك يعقوب أهداها لسيدي العيصو، وليقل الذي بعده كذلك، وكذا الذي بعده ويقول كل منهم وهو جائي بعدنا.
وتأخر يعقوب بزوجتيه وأمتيه وبنيه الأحد عشر بعد الكل بليلتين، وجعل يسير فيهما ليلاً ويكمن نهاراً. فلما كان وقت الفجر من الليلة الثانية تبدا له ملك من الملائكة في صورة رجل، فظنّه يعقوب رجلاً من الناس، فأتاه يعقوب ليصارعه ويغالبه فظهر عليه يعقوب فيما يرى، إلا أن الملك أصاب وركه فعرج يعقوب، فلما أضاء الفجر قال له الملك ما اسمك قال يعقوب، قال لا ينبغي أن تدعي بعد اليوم إلا إسرائيل فقال له يعقوب ومن أنت وما أسمك فذهب عنه فعلم أنه ملك من الملائكة، فأوحى الله إليه بأن يكون اسمه إسرائيل وأصبح يعقوب وهو يعرج من رجله، فلذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النساء، ورفع يعقوب عينيه فإذا أخوه عيصو قد أقبل في أربعمائة راجل، فتقدّم أمام أهله، فلما رأى أخاه العيصو سجد له سبع مرات، وكانت هذه تحيتهم في ذلك الزمان، وكان مشروعاً لهم ([7]) فلما رآه العيصو تقدّم إليه وأحتضنه وقبّله وبكى ورفع العيصو عينيه ونظر إلى النساء والصبـيان فقال من أين لك هؤلاء، فقال هؤلاء الذين وهب الله لعبدك، فدنت الأمتان وبنوهما فسجدوا له ودنت ليا وبنوها فسجدوا له، ودنت راحيل وابنها يوسف فخرّا سجداً له، وعرض عليه أن يقبل هديته وألحّ عليه فقبلها، ورجع العيصو، فتقدّم أمامه وأهدى إليه يعقوب من ماشيته هدية احتفال وتودد إليه بالخضوع والتضرع ، فذهب ما كان عند ولحقه يعقوب بأهله وما معه من الأنعام والمواشي والعبـيد قاصدين جبال ساعير، فلما مر بساحور ابتنى له بـيتاً ولدوابّه ظلالاً، ثم مرّ على أورشليم قرية شخيم، فنزل قبل القرية، واشترى مزرعة شخيم ابن جمور بمائة نعجة، فضرب هنالك فسطاطه، وابتنى ثم مذبحاً فسماه «ايل» إلٰه إسرائيل وأمره الله ببنائه ليستعلن له فيه. وهو بيت المقدس اليوم، ([8]) مكان الصخرة التي علمها بوضع الدهن عليها قبل ذلك، وكان من قصة «دينا» بنت يعقوب بنت «ليا» وما كان من أمرها مع شخيم بن جمور الذي قهرها على نفسها، وأدخلها منزله ثم خطبها من أبيها وإخوتها، فقال إخوتها إلا أن تختتنوا كلكم فنصاهركم وتصاهرونا، فإنا لا نصاهر قوماً غلفاً، فأجابوهم إلى ذلك واختتنوا كلهم. فلما كان اليوم الثالث واشتد وجعهم من ألم الختان، مال عليهم بنو يعقوب فقتلوهم عن آخرهم، وقتلوا شخيما وأباه جمور لقبيح ما صنعوا إليهم، مضافاً إلى كفرهم، وما كانوا يعبدونه من أصنامهم، فلهذا قتلهم بنو يعقوب وأخذوا أموالهم غنيمة.
ثم حملت راحيل فولدت غلاماً وهو بنيامين، إلاّ أنها جهدت في طلقها به جهداً شديداً وماتت عقيبه، فدفنها يعقوب في أفراث وهي بـيت لحم، وصنع يعقوب على قبرها حجراً وهي الحجارة المعروفة بقبر راحيل إلى اليوم، وجاء يعقوب إلى أبـيه إسحاق فأقام عنده بقرية حَبْرون التي في أرض كنعان من أرض كنعان فأقام عنده حيث كان يسكن إبراهيم، ثم مرض إسحاق ومات عن مائة وثمانين سنة ودفنه ابناه العيصو ويعقوب مع أبـيه إبراهيم الخليل في المغارة التي اشتراها
وشب يوسف عليه السلام على غير حال إخوته من كرامة الله به
والذي قصته هي أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والفوائد التي تصلح للدين والدنيا وليست قصة في القرآن تتضمن ما فيها ([9])
يوسف عليه السلام
{الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم}
يوسف اسم عبري, وفي معنى يوسف
الأسف في اللغة الحزن والأسيف العبد وقد اجتمعا في يوسف
أولاد يعقوب في حسدهم لإخيهم يوسف
{ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ(7) } يوسف
كان ليعقوب عليه السلام أثنى عشر رجلا , وأسماؤهم روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولاوي ويهوذا وزبلون وآشر وأمهم ليل بنت لابان وهي ابنة خال يعقوب عليه السلام وولد له من سريتين له اسم احداهما زلفة والأخرى يلهمه أربعة أولاد دان ونفتالي وجاد وأشير وراحيل أخت ليل ولدت له يوسف وبنيامين
رأى يوسف رؤيا فقصها على أبيه {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ(4)}يوسف
رأى يوسف أحد عشر كوكبا أي نجما من نجوم السماء أخواته وكانوا أحد عشر رجلا يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم
والشمس أبوه والقمر أمه إنما أخرهما عن الكواكب لإظهار مزيتهما وشرفهما
رأى يوسف هذه الرؤيا ليلة الجمعة ليلة القدر فلما قصها على أبيه علم يعقوب أن إخوته إذا سمعوها حسدوه لمعرفة يعقوب عليه السلام بتأويل الرؤيا فإنه علم من تأويلها أنه سيظهر عليهم بحيث يخرون له ساجدين إجلالا واحتراما وإكراما وكان أحس من بنيه حسدهم ليوسف وبغضهم له فقال يعقوب ليوسف { يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} يوسف نهاه عن قص الرؤيا عليهم خوف أن تغل بذلك صدورهم فيكيدوا له كيدا فيحتالوا في إهلاكه ويحصل منهم الحسد له فيفعلوا لأجله كيدا مثبتا راسخا لا يقدر على الخلوص منه وهذا من باب الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر{استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها فان كل ذي نعمة محسود}
وكأن يوسف عليه السلام قال كيف يقع منهم فنبهه بأن الشيطان يحملهم على ذلك فقال له يعقوب { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} يوسف لأنه عدو للإنسان مظهر للعداوة مجاهر بها ويزينها لهم ويحملهم على الكيد لعداوته القديمة
وأخبر يعقوب ابنه يوسف أن ربه سيحقق فيه تأويل تلك الرؤيا فيجعله نبيا ويصطفيه على سائر العباد ويسخرهم له كما تسخرت له تلك الأجرام التي رآها في منامه ساجدة له { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } أي تعبير الرؤيا وقد كان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} يعني بالنبوة فيجمع لك بين النبوة والملك كما تدل عليه هذه الرؤيا التي أراك الله وفي هذا جمع لك بين خيري الدنيا والآخرة{ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} أي على أولاده وهم إخوته وقرابته وأولاده ومن بعدهم ( [10])
{ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} فجعلهما نبيين والمراد من إتمام النعمة على إبراهيم وإنجائه من النار وإسحق بالنبوة وبإخراج الذرية الطيبة وهم يعقوب ويوسف وسائر الأسباط من صلبه فكل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف ويوسف { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(6) } يوسف أي هو أعلم حيث يجعل رسالته فربك عليم بكل شيء حكيم في كل أفعاله وكان هذا كلام من يعقوب مع ولده يوسف تعبيرا لرؤياه على طريق الإجمال أو علم ذلك من طريق الوحي أو عرفه بطريق الفراسة
فلما بلغت هذه الرؤيا أخوة يوسف حسدوه وقالوا ما رضي أن تسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه فبغوه وحسدوه ( [11]) وقالوا إن أبانا لفي ضلال مبين ( [12]) { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(8)} يوسف
قالوا ليوسف وأخوه بنيامين أحب إلى أبينا منا وكان يوسف وأخوه بنيامين من أم واحدة وكان يعقوب عليه السلام شديد الحب ليوسف عليه السلام وكان إخوته يرون منه الميل إليه ما لا يرونه مع أنفسهم فقالوا هذه المقالة بأنهم عصبة أي جماعة وكانوا عشرة , يقولون نحن أنفع في أمر الدنيا وإصلاح أمر معاشه ورعي مواشيه من يوسف فنحن أولى بالمحبة منه فهو مخطئ في صرف محبته إليه, فتحول الحسد فيهم إلى مكيدة التخلص منه , فبغوه بالعداوة وقالوا هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم أعدموه من وجه أبيكم ليخلو لكم وحدكم
{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} يوسف اقتلوه أو اطرحوه أرضا تبعد عن أبيه , وتأكله فيها السباع وتستريحوا منه و يخلص لكم ويصف وجه أبيكم عن شغله بيوسف وتكونوا من بعد قتل يوسف قوما صالحين تائبين أي تبوبوا بعدما فعلتم هذا يعف الله عنكم ويصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم فأضمروا التوبة قبل الذنب
فلما أجمعوا على التفريق بينه وبين والده بضروب من الحيل , جاءوا أباهم يعقوب عليه السلام { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ(11) } يوسف
قالوا ما بالك لا تأمنا على يوسف ونحن عاطفون عليه قائمون بمصلحته نحفظه حتى نرده إليك , وهم يريدون خلاف ذلك لما له في قلوبهم من الحسد لحب أبيه له
وقالوا { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} يوسف ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك
قال يعقوب لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء { إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ(13) } يوسف أي يشق علي مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع وذلك لفرط محبته له , لما يتوسم فيه من الخير العظيم وشمائل النبوة والكمال في الخلق والخلق صلوات الله وسلامه عليه , وقال يا بني يشق علي أن أفارقه ساعة من النهار، ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم برميكم ورعيكم وما أنتم فيه، فيأتي الذئب فيأكله، ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه وأنتم لا تشعرون , فأخذوا من فمه هذه الكلمة وجعلوها عذرهم فيما فعلوه وقالوا مجيبين له عنها في الساعة الراهنة { لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ(14) } يوسف إنا إذا لهالكون عاجزون
وتصيدوا التخوف لديه ليقولوا له فيما بعد لقد أكله الذئب ولم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم ولما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقا غليظا ليحفظنه وسلمه إلى روبيل وقال يا روبيل إنه صغير وتعلم يا بني شفقتي عليه فإن جاع فأطعمه وإن عطش فاسقه وإن أعيا فاحمله ثم عجل برده إلي, فأخذوا يحملونه على أكتافهم ولا يضعه واحد إلا رفعه آخر ويعقوب يشيعهم ميلا ثم رجع فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشد مما عند الآخر من الغيظ ، وجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال، والعسف فاستغاث بروبيل وقال أنت أكبر إخوتي والخليفة من بعد والدي علي وأقرب الأخوة إلي فاحمني وارحم ضعفي فلطمه لطمة شديدة وقال لا قرابة بيني وبينك فادع الأحد عشر كوكبا فالتنجك منا فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه فتعلق بأخيه يهوذا وقال يا أخي ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني وارحم قلب أبيك يعقوب فما أسرع ما تناسيتم وصيته ونقضتم عهده فرق قلب يهوذا فقال والله لا يصلون إليك أبدا مادمت حيا ثم قال يا إخوتاه إن قتل النفس التي حرم الله من أعظم الخطايا فردوا هذا الصبي إلى أبيه ونعاهده لا يحدث والده بشيء مما جرى أبدا فقال له إخوته والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند يعقوب والله لئن لم تدعه لنقتلنك معه قال فإن أبيتم إلا ذلك فهاهنا هذا الجب الموحش القفر الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقوه فيه فإن أصيب بشيء من ذلك فهو المراد وقد استرحتم من دمه وإن انفلت على أيدي سيارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد فأجمع رأيهم على ذلك{ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ (15)} يوسف
لقد اجتمعوا على أمر عظيم , أتشتمل على جرائم من قطيعة الرحم وعقوق الوالد وقلة الرأفة بالصغير الضرع الذي لا ذنب له وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل , والغدر بالأمانة وترك العهد وخطره عند الله , مع حق الوالد على ولده ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه ورقة عظمه مع مكانه من الله ممن أحبه طفلا صغيرا وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه فقد احتملوا أمرا عظيما
ولم يكن لهم سبيل إلى قتله لأن الله تعالى كان يريد منه أمرا لابد من إمضائه وإنمائه من الإيحاء إليه بالنبوة ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها , فصرفهم الله عنه بمقالة أقل إخوته حسداً فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب وهو أسفله وهي بئر ببيت المقدس
{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} يوسف
ونفذوا مكيدتهم , وألقوه في الجب , ولما جعلوا يدلونه في البئر تعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به في هذا الجب فإن مت كان كفني وإن عشت أواري به عورتي فقالوا ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا فلتؤنسك وتكسك , فدلوه في البئر حتى إذ بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يسقط فيموت فكان في البئر ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة فقام عليها , وشمعون هو الذي قطع الحبل إرادة أن يتفتت على الصخرة وكان جبريل تحت ساق العرش فأوحى الله إليه أن أدرك عبدي فهبط حتى عارضه بين الرمي والوقوع فأقعده على الصخرة سالما وكان ذلك الجب مأوى الهوام فقام على الصخرة وجعل يبكي فنادوه فظن أنها رحمة عليه أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بالصخرة فلما وقع عريانا ونزل جبريل إليه وكان إبراهيم حين ألقي في النار عريانا أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فكان ذلك عند إبراهيم ثم ورثه إسحاق ثم ورثه يعقوب فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذة وجعله في عنقه فكان لا يفارقه فلما ألقي في الجب عريانا أخرج جبريل ذلك القميص فألبسه إياه
جبريل جاءه بالوحي , أوحى الله إليه: أنه لا بد له من فرج ومخرج من هذه الشدة التي هو فيها، وأنه سيلقاهم وسيعرفهم ما صنعوا بأمرهأي وليخبرن إخوته بصنيعهم هذا في حال هو فيها عزيز، وهم محتاجون إليه خائفون منه، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }.أنه يوسف { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(15) } يوسف وأعطاه الله النبوة وهو في الجب
ولما قام على الصخرة قال يا إخوتاه إن لكل ميت وصية فاسمعوا وصيتي قالوا وما هي قال إذا اجتمعتم كلكم فآنس بعضكم بعضا فاذكروا وحشتي وإذا أكلتم فاذكروا جوعي وإذا شربتم فاذكروا عطشي وإذا رأيتم غريبا فاذكروا غربتي , فقال له جبريل يا يوسف كف عن هذا واشتغل بالدعاء فإن للدعاء عند الله مكان ثم علمه فقال له ألا أعلمك كلمات إذا أنت قلتهن عجل الله لك خروجك من هذا الجب فقال نعم فقال له قل يا صانع كل مصنوع ويا جابر كل كسير ويا شاهد كل نجوى ويا حاضر كل ملإ ويا مفرج كل كربة ويا صاحب كل غريب ويا مؤنس كل وحيد ايتني بالفرج والرجاء واقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحدا سواك فرددها يوسف في ليلته مرارا فأخرجه الله في صبيحة يومه ذلك من الجب
وهكذا نفذ الإخوة العشرة جريمتهم في أخيهم الغلام الصغير الذي لا حول له ولا حيلة
وبعد أن فعلوا فعلتهم هذه عادوا في نفس اليوم فجاءوا إلى أبيهم ويوسف في البئر قبل أن يخرج
وجاءوا مساءً إلى أبيهم بدموع كاذبة ودم كذب وأقوال كاذبة
{ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ(16) } يوسف
وجاءوا أباهم عشاء أي ليلا , وإنما جاءوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة لأن بالنهار قد يتلجلجوا في الاعتذار وليكون أمشي لغدرهم
فلما سمع يعقوب عليه السلام بكاءهم قال ما بكم أجرى في الغنم شيء قالوا لا قال فأين يوسف { قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ (17) } يوسف
فبكى وصاح وقال أين قميصه , وخر مغشيا عليه فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب
فوضع يهوذا يده على مخارج نفس يعقوب فلم يحس بنفس ولم يتحرك له عرق فقال لهم يهوذا ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق يعقوب إلا ببرد السحر فأفاق ورأسه في حجر روبيل فقال يا روبيل ألم آتمنك على ولدي ألم أعهد إليك عهدا فقال يا أبت كف عني بكاءك أخبرك فكف يعقوب بكاءه فقال يا أبت إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب
{ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ (18) } يوسف
كان دم سخلة أوجدي ذبحوه , أي جاءوا على قميصه بدم مكذوب فيه ليوهموه أنه أكله الذئب. ونسوا أن يخرقوه، وآفة الكذب النسيان ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرج صنيعهم على أبيهم؛ فإنه كان يفهم عداوتهم له، وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم، لما كان يتوسم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره، لما يريد الله أن يخصه به من نبوته، ولما راودوه عن أخذه فبمجرد ما أخذوه أعدموه، وغيبوه عن عينيه وجاءوا وهم يتباكون، وعلى ما تملأوا يتواطأون
لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها وهي سلامة القميص من التنقيب إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق ولما تأمل يعقوب عليه السلام القميص فلم يجد فيه خرقا ولا أثرا استدل بذلك على كذبهم وقال له متى كان هذا الذئب حكيما يأكل يوسف ولم يخرق القميص
لما نظر إليه قال كذبتم لو كان الذئب أكله لخرق القميص
وقال لهم يعقوب تزعمون أن الذئب أكله ولو أكله الذئب لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده وما أرى بالقميص من شق
فقالوا عند ذلك { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ(17) } يوسف
أي لو كنا موصوفين بالصدق لاتهمتنا
أن يعقوب لما قالوا له فأكله الذئب قال لهم ألم يترك الذئب له عضوا فتأتوني به استأنس به ألم يترك لي ثوبا أشم فيه رائحته قالوا بلى هذا قميصه ملطوخ بدمه
فبكى يعقوب عند ذلك وقال لبنيه أروني قميصه فأروه فشمه وبله ثم جعل يقبله فلا يرى فيه شقا ولا تمزيقا فقال والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت كاليوم ذئبا أحكم منه أكل ابني واختله من قميصه ولم يمزقه عليه وعلم أن الأمر ليس كما قالوا وأن الذئب لم يأكله فأعرض عنهم كالمغضب باكيا حزينا وقال يا معشر ولدي دلوني على ولدي فإن كان حيا رددته إلي وإن كان ميتا كفنته ودفنته , قالوا حينئذ ألم تروا إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا تعالوا نخرجه من الجب ونقطعه عضوا عضوا ونأت أبانا أعضائه فيصدقنا مقالتنا ويقطع يأسه فقال يهوذا والله لئن فعلتم لأكونن لكم عدوا ما بقيت ولأخبرن أباكم بسوء صنيعكم قالوا فإذا منعتنا من هذا فتعالوا نصطد ذئبا , فاصطادوا ذئبا ولطخوه بالدم وأوثقوه بالحبال ثم جاءوا به يعقوب وقالوا يا أبانا إن هذا الذئب الذي يحل بأغنامنا ويفترسها ولعله الذي أفجعنا بأخينا لا شك فيه وهذا دمه عليه فقال يعقوب أطلقوه فأطلقوه وتبصبص له الذئب فأقبل يدنو منه ويعقوب يقول له ادن , ادن حتى ألصق خده بخده فقال له يعقوب أيها الذئب لم فجعتني بولدي وأورثتني حزنا طويلا ثم قال اللهم أنطقه فأنطقه الله تعالى فقال والذي اصطفاك نبيا ما أكلت لحمه ولا مزقت جلده ولا نتفت شعرة من شعراته ووالله مالي بولدك عهد وإنما أنا ذئب غريب أقبلت من نواحي مصر في طلب أخ لي فقد فلا أدري أحي هو أم ميت فاصطادني أولادك وأوثقوني وإن لحوم الأنبياء حرمت علينا وعلى جميع الوحوش وتالله لا أقمت في بلاد يكذب فيها أولاد الأنبياء على الوحوش فأطلقه يعقوب وقال والله لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم هذا ذئب بهيم خرج يتبع ذمام أخيه وأنتم ضيعتم أخاكم وقد علمت أن الذئب بريء مما جئتم به { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ (18) } يوسف
أمرا غير ما تصفون وتذكرون ثم قال توطئة لنفسه { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(18)} يوسف
أي فشأني والذي أعتقده صبر جميل , أي فصبر جميل أولى بي
والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه
{ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ (19)} يوسف
أي رفقة مارة يسيرون من الشام إلى مصر فأخطئوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبا من الجب وكان الجب في قفزة بعيدة من العمران إنما هو للرعاة والمجتاز وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف فأرسلوا واردهم
والوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم وكان اسمه مالك بن دعر من العرب العاربة { فَأَدْلَى دَلْوَهُ } يوسف أي أرسله ليملأه وقد كان جلساً ينتظر فرج الله ولطفه به فتعلق يوسف بالحبل فلما خرج إذا غلام كالقمر ليلة البدر أحسن ما يكون من الغلمان إذا هو قد أعطي شطر الحسن
وكان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوى الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والعضدين إذا ابتسم رأيت النور من ضواحكه وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع الشمس من ثناياه لا يستطيع أحد وصفه وكان حسنه كضوء النهار عند الليل وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية وقيل إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة وكانت قد أعطيت الحسن فلما رآه مالك بن دعر{ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ (1)} يوسف انتبهوا لفرحتي وسروري{ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} يوسف
كان اخوة يوسف يتعرفون الخبر , فلما رأى يهوذا من بعيد أن يوسف أخرج من الجب أخبر إخوته فجاءوا وقالوا للواردة بئس ما صنعتم هذا عبد لنا أبق , وقالوا ليوسف بالعبرانية إما تقر لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء وإما أن نأخذك فنقتلك فقال أنا أقر لكم بالعبودية فأقر لهم فباعوه منهم وأسره اخوة يوسف بضاعة , وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته فقال مالك والله ما هذه سمة العبيد قالوا هو تربى في حجورنا وتخلق بأخلاقنا وتأدب بآدابنا فقال ما تقول يا غلام قال صدقوا تربيت في حجورهم وتخلقت بأخلاقهم فقال مالك إن بعتموه مني اشتريته منكم فباعوه منه
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ (20)} يوسف
فلما شروه فاضت العين عبرة وفي الصدر حزاز من اللوم
باعوه بثمن مبخوس أي منقوص ولم يقصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه
باعوه باثنين وعشرين درهما وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين
{ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ(20)} يوسف المراد الزاهدين إخوته والسيارة والواردة وكانوا فيه من الزاهدين لأنهم لم يعلموا منزلته عند الله تعالى وقيل كانوا فيه من الزاهدين أي في حسنه لأن الله تعالى وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراما له
وبهذه الجريمة النكراء داوى الإخوة داء الحسد الذي أكل قلوبهم , ولكنهم ما عرفوا أن طريق المجد الذي قضاه الله ليوسف عليه السلام كان من هذا الجب الذي رماه فيه إخوته وهم له حاسدون, وأنهم بعد حين سيذهبون إليه ساجدين , وهو متربع على سرير السلطان فليعلم الحاسد أن فضل الله كثيراً ما يأتي على أيدي الحاسدين وبوسيلة المكر التي هم لها يمكرون في ذلك فلم يعلموا أن من حكمة الله العظيمة والقدر السابق ما سيكون من الرحمة بأهل مصر يجريها الله على يدي هذا الغلام الذي يدخلها في صورة أسير رقيق، ثم بعد هذا يملكه أزمة الأمور وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم، بما لا يحد ولا يوصف.
المرحلة الثانية من حياة يوسف من استخراجه من البئر وبيعه في مصر لوزيرها لينشأ في القصر وحاله مع النسوة حتى دخوله السجن
لما اشترى مالك بن دعر يوسف من إخوته كتب بينهم وبينه كتابا هذا ما اشترى مالك بن دعر من بني يعقوب وهم فلان وفلان مملوكا لهم باثنين وعشرين درهما وقد شرطوا له أنه آبق وأنه لا ينقلب به إلا مقيدا مسلسلا وأعطاهم على ذلك عهد الله قال فودعهم يوسف عند ذلك وجعل يقول حفظكم الله وإن ضيعتموني نصركم الله وإن خذلتموني ورحمكم الله وإن لم ترحموني, فألقت الأغنام ما في بطونها دما لشدة هذا التوديع وحملوه على قتب بغير غطاء ولا وطاء مقيدا مكبلا مسلسلا فمر على مقبرة آل كنعان فرأى قبر أمه وقد كان وكل به رجل أسود يحرسه فغفل الأسود فألقى يوسف نفسه على قبر أمه فجعل يقول يا أماه ولدك مكبلا مقيدا مسلسلا مغلولا فرقوا بيني وبين والدي فاسأل الله أن يجمع بيننا في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين فتفقده الرجل الأسود على البعير فلم يره فقفا أثره فإذا هو ببياض على قبر فتأمله فإذا هو إياه فركضه برجله في التراب ومرغه وضربه ضربا وجيعا فقال له لا تفعل والله ما هربت ولا أبقت وإنما مررت بقبر أمي فأحببت أن أودعها ولن أرجع إلى ما تكرهون فقال الأسود والله إنك لعبد سوء تدعو أباك مرة وأمك أخرى فهلا كان هذا عند مواليك فرفع يديه إلى السماء وقال اللهم إن كانت لي عندك خطيئة أخلقت بها وجهي فأسألك يا الله يا من اصطفيت آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن تغفر لي وترحمني فضجت الملائكة في السماء ونزل جبريل فقال له يا يوسف غض صوتك فلقد أبكيت ملائكة السماء أفتريد أن أقلب الأرض فأجعل عاليها سافلها قال تثبيت يا جبريل فإن الله حليم لا يعجل فضرب الأرض بجناحه فأظلمت وارتفع الغبار وكسفت الشمس وبقيت القافلة لا يعرف بعضها بعضا فقال رئيس القافلة من أحدث منكم حدثا فإني أسافر منذ كيت وكيت ما أصابني قط مثل هذا فقال الأسود أنا لطمت ذلك الغلام العبراني فرفع يده إلى السماء وتكلم بكلام لا أعرفه ولا أشك أنه دعا علينا فقال له ما أردت إلا هلاكنا أتنا به فأتاه به فقال له يا غلام لقد لطمك فجاءنا ما رأيت فإن كنت تقتص فاقتص ممن شئت وإن كنت تعفو فهو الظن بك قال قد عفوت رجاء أن يعفو الله عني فانجلت الغبرة وظهرت الشمس وأضاء مشارق الأرض ومغاربها وجعل التاجر يزوره بالغداة والعشي ويكرمه حتى وصل إلى مصر فاغتسل في نيلها وأذهب الله عنه كآبة السفر ورد عليه جماله ودخل به البلد نهارا فسطع نوره على الجدران وأوقفوه للبيع فاشتراه أطفير وزير الملك في مصر ([13])
وهو عزيز مصر والوزير بها وكان على خزائن مصر واسمه أطفير بن رويحب اشتراه لامرأته وكان اسمها زليخاء
وكان ملك مصر في ذلك الزمان هو الريان بن الوليد ([14]) وهو رجل من العمالقة
وكان هذا العزيز قد دفع ثمن شراء يوسف لمالك بن ذعر أضعاف وزنه مسكا وعنبرا وحريرا وورقا وذهبا ولآلىء وجواهر لا يعلم قيمتها إلا الله
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً (21) } يوسف
من لطف الله بيوسف عليه السلام أنه قيض له هذا العزيز الذي اشتراه من مصر حتى اعتنى به وأكرمه وأوصى أهله به وتوسم فيه الخير والصلاح فقال لامرأته أكرمي مثواه أي منزله ومقامه بطيب المطعم واللباس الحسن وكان الله ألقى محبة يوسف على قلب العزيز فأوصى به أهله
{ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا (21) } يوسف أي يكفينا بعض المهمات إذا بلغ { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً (21) } يوسف
وكان التبني في الأمم معلوما عندهم وكان العزيز أطفير لا يأتي النساء ولا يولد له { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ } يوسف
وكما أنقذه الله من إخوته ومن الجب فكذلك مكن له ببلاد مصر وعطف عليه قلب العزيز الذي اشتراه { وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) } يوسف والله تعالى فعل ذلك تصديقا لقول يعقوب ويعلمك من تأويل الأحاديث
ومكنه الله ليوحي إليه بكلام من عنده ويعلمه تأويله وتفسيره وتأويل الرؤيا وتم الكلام والله غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره حتى لا يصل إليه كيد كائد ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي لا يطلعون على غيبه
الله هو الغالب على أمر نفسه فيما يريده , أن يقول له كن فيكون ([15])
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (2)} يوسف
ولما بلغ أشده الأشد بلوغ الحلم آتاه الله حكما وعلما أي العقل والفهم والنبوة, والحكم النبوة, والعلم علم الدين وزاده الله فهما وعلما وكذلك يجزي الله المحسنين المؤمنين الصابرين على النوائب كما صبر يوسف
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ (23)} يوسف
وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وهي في غاية الجمال والمال. والمنصب والشباب. وكيف غلقت الأبواب عليها وعليه، وتهيأت له وتصنعت، ولبست أحسن ثيابها وأفخر لباسها، وهي مع هذا كله امرأة الوزير وبنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر, وطلبت منه أن يواقعها وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين
وغلقت الأبواب كانت سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلى نفسها وقالت
هيت لك أي هلم وأقبل وتعال أي تهيأت لك وتزينت وتحسنت ([16]) تذكر ليوسف محاسنه لتشوقه بذلك إلى نفسها
{ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23)} يوسف أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه
إنه ربي يعني زوجها أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه ([17])
ويوسف عليه السلام شاب بديع الجمال والبهاء، قالت له يا يوسف ما أحسن صورة وجهك, قال في الرحم صورني ربي , قالت يا يوسف ما أحسن شعرك , قال هو أول شيء يبلى مني في قبري , قالت يا يوسف ما أحسن عينيك , قال بهما أنظر إلى ربي , قالت يا يوسف ارفع بصرك فانظر في وجهي , قال إني أخاف العمى في آخرتي قالت يا يوسف القطن فرشته لك فادخل معي , قال القطن لا يسترني من ربي , قالت يا يوسف فراش الحرير فرشته لك قم فاقض حاجتي , قال إذاً يذهب من الجنة نصيبي , إلى غير ذلك من كلامها وهو يراجعها إلى أن هم بها
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ (24)} يوسف
ولا خلاف أن همها كان المعصية وأما يوسف فهم بها إلى أن رأى برهان ربه , ولكن لما رأى البرهان ما هم , وهذا لوجوب العصمة للأنبياء , قال الله تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين
همت زليخاء بالمعصية وكانت مصرة وهم يوسف ولم يواقع ما هم به فبين الهمتين فرق
هم يوسف حديث نفس من غير عزم
فذلك الهم حركة طبع من غير تصميم للعقد على الفعل وما كان من هذا القبيل لا يؤاخذ به العبد ([18])
الهم الذي عم به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق إذ لا قدرة للمكلف على دفعه
وقد أخبر الله تعالى عن حال يوسف من حين بلوغه فقال ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما على ما تقدم بيانه وخبر الله تعالى صدق ووصفه صحيح وكلامه حق فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنى ومقدماته وخيانة السيد والجار والأجنبي في أهله فما تعرض لامرأة العزيز ولا أجاب إلى المراودة بل أدبر عنها ([19])
وأما البرهان الذي رآه فسواء رأى صورة أبيه يعقوب عاضا على إصبعه بفمه أ ضرب في صدر يوسف أو رأى خيال سيده قطفير حين دنا من الباب أو رفع رأسه إلى سقف البيت فوجد كتاب في حائط البيت لا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا أو رأى آية من كتاب الله في الجدار, أو صورة يعقوب أو صورة الملك فإنه رأى آية من آيات الله تزجره عما كان هم به ولا حجة قاطعة على تعيين شيء من ذلك إلا إنه نبي من سلالة الأنبياء، فعصمه ربه عن الفحشاء، وحماه عن مكر النساء
كما قال الله تعالى { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} يوسف أي كما أريناه برهان صرف هماً كان فيه كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره إنه من عبادنا المخلصين أي من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار صلوات الله وسلامه عليه
{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)} يوسف
خرجا يستبقان إلى الباب يوسف هارب والمرأة تطلبه ليرجع إلى البيت فلحقته في أثناء ذلك فأمسكت بقميصه من ورائه فقدته قدا فظيعا يقال إنه سقط عنه واستمر يوسف هاربا ذاهبا وهي في إثره { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا (25)} يوسف وهو زوجها عند الباب فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها واتهمته وهي المتهمة، وبرأت عرضها ونزهت ساحتها وقالت لزوجها متنصله وقاذفة يوسف بدائها { مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً (25)} يوسف أي فاحشة { إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ (25)} يوسف أي يحبس { أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)} يوسف أي يضرب ضربا شديدا موجعا فعند ذلك انتصر يوسف عليه السلام بالحق وتبرأ مما رمته به من الخيانة وقال بارا صادقا { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي (26) } يوسف
لما تعارضا في القول احتاج العزيز إلى شاهد ليعلم الصادق من الكاذب { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا (26) } يوسف
قيل أنه رجل حكيم ([20]) ذو عقل وكان من خاصة الملك وكان الوزير يستشيره في أموره وكان ابن عمها, فإن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد فكان من جملة أهل المرأة وكان مع زوجها عند الدخول
وكان قول الشاهد
{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) } يوسف
إن كان قميصه قد من قبل أي من قدامه فصدقت أي في قولها إنه راودها على نفسها لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه دفعته في صدره فقدت قميصه فيصح ما قالت وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين وذلك يكون كما وقع لما هرب منها وتطلبته أمسكت بقميصه من ورائه لترده إليها فقدت قميصه من ورائه
{فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) } يوسف
لما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به
قال إنه من كيدكن أي إن هذا البهت واللطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن إن كيدكن عظيم
ثم قال آمرا ليوسف عليه السلام بكتمان ما وقع
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا (29) } يوسف
أي اضرب عن هذا صفحا أي فلا تذكره لأحد ، لأن كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن
{ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ (29) } يوسف
وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الأصنام في لك الوقت إلا أنهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك. ولهذا قال لها بعلها، وعذرها من بعض الوجوه؛ لأنها رأت ما لا صبر لها على مثله، إلا أنه عفيف نزيه بريء العرض سليم الناحية فقال: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) } يوسف
أي الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب ثم قذفه بما هو بريء منه ([21]){وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)}يوسف
ذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة من نساء الأمراء وبنات الكبراء في الطعن على امرأة العزيز وعيبها ، والتشنيع عليها في مراودتها فتاها ، وحبّها الشديد له تعنين ، وهو لا يساوي هذا لأنه مولى من الموالي ، وليس مثله أهلاً لهذا ولهذا قلن {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِـينٍ} أي في وضعها الشيء في غير محله {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أي بتشنيعهن عليها والتنقّص لها ، والإِشارة إليها بالعيب والمذمة بحب مولاها وعشق فتاها ، فأظهرن ذماً وهي معذورة في نفس الأمر ، فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن وتبـين أن هذا الفتى ليس كما حسبن ولا من قبـيل ما لديهن, { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً } أرسلت إليهن تدعوهن إلى وليمة لتوقعهن فيما وقعت فيه , وقالت لزوجها إني أريد أن أتخذ طعاما فأدعو هؤلاء النسوة فقال لها افعلي فأرسلت إليهن أن يحضرن طعامها ولا تتخلف امرأة ممن سميت وكن أربعين امرأة فجئن على كره منهن , فقد أحبت أن تبسط عذرها عندهن وتبـين أن هذا الفتى ليس كما حسبن ولا من قبـيل ما لديهن , فجمعتهن في منزلها واعتدت لهن ضيافة مثلهن وأحضرت في جملة ذلك شيئاً مما يقطع بالسكاكين كالأترج ونحوه ، وأتت كل واحدة منهم سكيناً ، وكانت قد هَيَّأت يوسف عليه السلام ، وألبسته أحسن الثياب وهو في غاية طراوة الشباب ، { وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ }يوسف
بهذه الحالة فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي أعظمنه وأجللنه وهبنه ، وما ظنَنّ أن يكون مثل هذا في بني آدم ، وبهرهن حسنه حتى اشتغلن عن أنفسهن ، وجعلن يحززن في أيديهن بتلك السكاكين ولا يشعرن بالجراح {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} ([22]) مبالغة في تفضيله وتعظيما لشأنه
فأنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام ، لأن الله تعالى خلق آدم بـيده ، ونَفُخ فيه من روحه ، فكان في غاية نهايات الحسن البشري ، ولهذا يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم وحسنه ، ويوسف كان على النصف من حسن آدم ، ولم يكن بـينهما أحسن منهما ([23]) وكان وجه يوسف مثل البرق ، ولهذا لما قام عذر امرأة العزيز في محبتها لهذا المعنى المذكور وجرى لهن وعليهن ما جرى من تقطيع أيديهن بجراح السكاكين وما ركبهن من المهابة والدهشة عند رؤيته ومعاينته ولما رأت افتتانهن بيوسف أظهرت عذر نفسها بقولها {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} لمتنني بحبه , ثم مدحته بالعصمة التامة فقالت {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أي امتنع {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنَّ مِنَ الصَّاغِرِينَ} وعاودته المراودة بمحضر منهن وهتكت جلباب الحياء ووعدت بالسجن وليكونا من الصاغرين الأذلاء إن لم يفعل
وإنما فعلت هذا حين لم تخش لوما ولا مقالا خلاف أول أمرها إذ كان ذلك بينه وبينها
وكان بقية النساء حرّضته على السمع والطاعة لسيدته , وكان من كيد النسوة اللاتي رأينه إنهن أمرنه بمطاولة امرأة العزيز وطلبت كل واحدة أن تخلو به للنصيحة في امرأة العزيز والقصد أن تعذله في حقها وتأمره بمساعدتها فلعله يجيب فصارت كل واحدة تخلو به على حدة فتقول له يا يوسف اقض لي حاجتي فأنا خير لك من سيدتك تدعوه كل واحدة لنفسها وتراوده , فأبى أشد الإِباء ونأى لأنه من سلالة الأنبـياء ، فقال يا رب كانت واحدة فصرن جماعة ودعا فقال في دعائه لرب العالمين {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ} يعني إن وكلتني إلى نفسي فليس لي من نفسي إلاّ العجز والضعف ، ولا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ، فَأنَا ضعيف إلاّ ما قوّيتني وعصمتني وحفظتني وأحطتني بحولك وقوتك ([24]) ، { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}
وظهر للعزيز وأهل مشورته من بعد ما رأوا علامات براءة يوسف من قد القميص من دبر وشهادة الشاهد وتقطيع النساء أيديهن وقلة صبرهن عن لقاء يوسف أن يسجنوه كتمانا للقصة ألا تشيع في العامة ولانقطاع ما شاع في المدينة وللحيلولة بينه وبينها { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)} يوسف
فظهر لهم من الرأي بعد ما علموا براءة يوسف أن يسجنوه إلى وقت ليكون ذلك أقلّ لكلام الناس في تلك القضية ، وأخمد لأمرها ، وليظهروا أنه راودها عن نفسها ، فسجن بسببها ، فسجنوه ظلماً وعدواناً وكان هذا مما قدّر الله له , ومن جملة ما عصمه به فإنه أبعد له عن معاشرتهم ومخالطتهم
وحمل يوسف إلى السجن مقيدا على حمار وطيف به هذا جزاء من يعصى سيدته وهو يقول هذا أيسر من النيران وسرابيل القطران وشراب الحميم وأكل الزقوم فلما انتهى يوسف إلى السجن { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ } وجد في السجن قوما قد انقطع رجاؤهم واشتد بلاؤهم فجعل يقول لهم اصبروا وابشروا تؤجروا فقالوا له يا فتى ما أحسن حديثك لقد بورك لنا في جوارك من أنت يا فتى قال أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب بن إسحاق بن خليل الله إبراهيم
وكان في السجن يعزي فيه الحزين ويعود فيه المريض ويداوي فيه الجريح ويصلي الليل كله ويبكي حتى تبكي وطهر به السجن واستأنس به أهل السجن فكان إذا خرج الرجل من السجن رجع حتى يجلس في السجن مع يوسف وأحبه صاحب السجن فوسع عليه فيه ثم قال له يا يوسف لقد أحببتك حبا لم أحب شيئا حبك فقال أعوذ بالله من حبك قال ولم ذلك فقال أحبني أبي ففعل بي إخوتي ما فعلوه وأحبتني سيدتي فنزل بي ما ترى
وكان ملك البلاد قد غضب على خبازه وصاحب شرابه وذلك أن الملك عمر فيهم فملوه فدسوا إلى خبازه وصاحب شرابه أن يسماه جميعاً فأجاب الخباز وأبى صاحب الشراب فانطلق صاحب الشراب فأخبر الملك بذلك فأمر الملك بحبسهما وكان ساقي الملك اسمه بنو , والآخر خبّازه واسمه مجلث وهم اللذان دخلا السجن مع يوسف فاستأنسا بيوسف , فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته وهديه وطريقته وقوله وفعله وكثرة عبادته ربه وإحسانه إلى خلقه ، فرأى كلّ واحد منهما رؤيا تناسبه , رأيا في ليلة واحدة {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} وهو الساقي قص على يوسف رؤياه فقال كأني أخذت ثلاثة عناقيد من عنب أبيض فعصرتهن في ثلاث أوان ثم صفيته في كأس الملك فسقيت الملك كعادتي فيما مضى {وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ } الخبّاز قص على يوسف رؤياه فقال كأني اختبزت في ثلاثة تنانير وجعلته في ثلاث سلال فوضعته على رأسي فجاء الطير فأكل من السل الأعلى
وطلبا منه أن يعبّرهما لهما وقالا: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فأخبرهما أنه عليم بتعبـيرها خبـير بأمرها و {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامُ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيْكُمَا} معناه مهما رأيتما من حلم فأني أعبّره لكم قبل وقوعه ، فيكون كما أقول , وأخبركما بما يأتيكما من الطعام قبل مجيئه ([25]), فلا يجيئكما غدا طعام من منزلكما إلا نبأتكما بتأويله لتعلما أني أعلم تأويل رؤياكما فقالا افعل فقال لهما يجيئكما كذا وكذا فكان على ما قال وكان هذا من علم الغيب خص به يوسف وبين أن الله خصه بهذا العلم لأنه ترك ملة قوم لا يؤمنون بالله يعني دين الملك , فقال لهما { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) } وقال لهما إن هذا من تعليم الله إياي لأني مؤمن به موحّد له متّبع ملّة آبائي الكرام إبراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب لأنهم أنبياء على الحق وهدانا لهذا وأمرنا أن ندعوا الناس إليه ونرشدهم وندلّهم عليه وهو في فطرهم مركوز وفي جبلّتهم مغروز {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} قال لهما يوسف عندي العلم بتأويل رؤياكما والعلم بما يأتيكما من طعامكما والعلم بدين الله فاسمعوا أولا ما يتعلق بالدين لتهتدوا ولهذا لم يعبر لهما حتى دعاهما إلى الإسلام , ثم دعاهما إلى التوحيد وذمّ عبادة ما سوى اللّهِ عزّ وَجَلَّ ، وصغّر أمر الأوثان وحقّرها وضعّف أمرها ، فقال: {يَا صَاحِبَـيّ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُّونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَّهَارُ} الخطاب لهما ولأهل السجن وكان بين أيديهم أصنام يعبدونها من دون الله تعالى فقال ذلك إلزاما للحجة أي آلهة شتى لا تضر ولا تنفع خير أم الله الواحد القهار الذي قهر كل شيء { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءَ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ }
قال لمن معه في السجن ما تعبدون من دون الله إلا أسماء لا معاني لها سميتموها من تلقاء أنفسكم إنها جمادات أصناما ليس لها من الإلهية شيء إنه لو تعدد الإله لتفرقوا في الإرادة ولعلا بعضهم على بعض وبين أنها إذا تفرقت لم تكن آلهة فبين يوسف أن ما يعبدونه من دون الله أسماء بين عجز الأصنام وضعفها ثم قال { إِن الحُكْمَ إِلاَّ للَّهِ}
أي هو المتصرّف في خلقه الفعّال لما يريد الذي يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء {أمَرَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} أي وحده لا شريك له و {ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} أي المستقيم والصراط القويم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أي فهم لا يهتدون إليه مع وضوحه وظهوره وكانت دعوته لهما في هذه الحال في غاية الكمال ، لأن نفوسهما معظّمة له ، منبعثة على تلقّي ما يقول بالقبول ، فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه , ثم لمّا قام بما وجب عليه ، وأرشد إلى ما أرشد إليه قال: {يَا صَاحِبَـيْ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} قال للساقي إنك ترد على عملك الذي كنت عليه من سقي الملك بعد ثلاثة أيام وقال للآخر وهو الخبّاز وأما أنت فتدعى إلى ثلاثة أيام فتصلب فتأكل الطير من رأسك {وأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ}قال والله ما رأيت شيئا قال رأيت أولم تر {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي وقع هذا لا محالة ووجب كونه على حاله ([26]) ، فقال لهما { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا } وهو الساقي {أَذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} قال يوسف لساقي الملك حين علم أنه سينجو ويعود إلى حالته الأولى مع الملك اذكر أمري وما أنا فيه من السجن بغير جرم عند الملك , وهذا من السعي في الأسباب , ولا ينافي ذلك التوكّل على ربّ الأرباب
{فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} فأنسى الشيطان الناجي منهما , أن يذكر ما وصّاه به يوسف عليه السلام, {فَلَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} والبضع ما بـين الثلاث إلى التسع ([27])
{وَقَالَ المَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }يوسف
هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والإِكرام ، وذلك أن ملك مصر وهو الريان بن الوليد بن ثروان بن اراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح رأى هذه الرؤيا, رأى كأنه على حافة نهر وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان فجعلن يرتعن في روضة هناك فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر فرتعن معهن ثم ملن عليهن فأكلنهن فاستيقظ مذعوراً , ثم نام فرأى سبع سنبلات خضر في قصبة واحدة وإذا سبع أخر دقاق يابسات فأكلنهُنَّ فاستيقظ مذعوراً فلما قصّها على ملئه وقومه لم يكن فيهم من يحسن تعبـيرها بل {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} أي أخلاط أحلام من الليل لعلّها لا تعبـير لها ومع هذا فلا خبرة لنا بذلك ولهذا قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ} فعند ذلك تذكر الناجي منهما ساقي الملك الذي وصّاه يوسف بأن يذكره عند ربّه فنسيه إلى حينه هذا , وذلك عن تقدير الله عزّ وجلّ ، وله الحكمة في ذلك ، فلما سمع رؤيا الملك ورأى عجز الناس عن تعبـيرها تذكّر أمر يوسف وما كان أوصاه به من التذكّار{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَأَدَّكَرَ} أي تذكر {بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد مدة من الزمان وهو بضع سنين بعد نسيان ، فقال لقومه وللملك: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} أي فأرسلوني إلى يوسف فجاءه فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِيَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} فبذل يوسف عليه السلام ما عنده من العلم بلا تأخّر ولا شرط ، ولا طلب الخروج سريعاً ، بل أجابهم إلى ما سألوا وعبّر لهم ما كان من منام الملك الدال على وقوع سبع سنين من الخصب ويعقبها سبع جدب {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} يعني يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} يعني ما كانوا يعصرونه من الأقصاب والأعناب والزيتون والسمسم وغيرها فعبّر لهم , وعلى الخير دلّهم وأرشدهم إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم وجد بهم ، وما يفعلونه من ادخار حبوب سني الخصب في السبع الأول في سنبله إلا ما يرصد بسبب الأكل، ومن تقليل البذر في سني الجدب في السبع الثانية ، إذا الغالب على الظن أنه لا يُرَدّ البذر من الحقل , وهذا يدل على كمال العلم وكمال الرأي والفهم ([28])
{وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} لمَّا أحاط الملك علماً بكمال علم يوسف عليه الصلاة والسلام وتمام عقله ورأيه السديد وفهمه ، أمر بإحضاره إلى حضرته ليكون من جملة خاصّته ، { فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ} بذلك أحب أن لا يخرج حتى يتبـين لكل أحد أنه حُبِسَ ظلماً وعدواناً ، وأنه بريء الساحة مما نسبوه إليه بهتاناً {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} يعني الملك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّـي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} أي إن سيدي العزيز يعلم براءتي مما نُسِبَ إليّ ، أي اطلب الملك فليسألهن كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهن إياي وحثهن لي على الأمر الذي ليس برشيد ولا سديد , { قَالَ مَا خَطْبَكُنَّ إِذْ رَاوَدُّتْن يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ }فلما سئلن عن ذلك أعرفن بما وقع من الأمر وما كان منه من الأمر الحميد {وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} فعند ذلك {قَالَتْ امْرَأَةُ العَزِيزِ} وهي زليخا {الآنَ حَصْحَصَ الحَق} أي ظهر وتبـيّن ووضح والحق أحق أن يتبع {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} أي فيما يقوله من إنه بريء وأنه لم يراودني وأنه حُبِسَ ظلماً وعدواناً وزوراً وبهتاناً. {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ} قالت زليخا إنما اعترفت بهذا ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر ، وإنما كان مراودة لم يقع معها فعل فاحشة وقالت {وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّـي إِنَّ رَبِّـي غَفُورٌ رَحِيمٌ} ([29])
لما ظهر للملك براءة عرضه ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه مما نسبوه إليه { قَالَ المَلِكُ ائتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ِ} أي أجعله من خاصتي ومن أكابر دولتي ومن أعيان حاشيتي ، فلّما كلّمه وسمع مقاله وتبـين حاله {قَالَ إِنَّكَّ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} أي ذو مكانة وأمانة {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} طلب أن يوليه النظر فيما يتعلق بالأهراء لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضي سبع سني الخصب لينظر فيها بما يرضي الله في خلقه من الاحتياط لهم والرفق بهم ، وأخبر الملك إنه حفيظ أي قوي على حفظ ما لديه أمين عليه عليم بضبط الأشياء ومصالح الإِهراء ، فطلب الولاية لعلمه من نفسه الأمانة والكفاءة , وعظّم الملك يوسف عليه السلام جداً وسلّطه على جميع أرض مصر وألبسه خاتمه وألبسه الحرير وطوّقه الذهب وحمله على مركبه الثاني ونودي بـين يديه أنت ربّ ومسلّط ، وقال له لست أعظم منك إلا بالكرسي , قالوا وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة وزوّجه زليخا إمرأة قطفير لما مات فوجدها عذراء لأن زوجها كان لا يأتي النساء، فولدت ليوسف عليه السلام رجلين وهما أفرايم ومنشا واستوثق ليوسف ملك مصر وعمل فيهم بالعدل فأحبّه الرجال والنساء ([30])
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} أي بعد السجن والضيق والحصر صار مطلق الركاب بديار مصر {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} أي أين شاء حلّ منها مكرّماً محسوداً معظّماً {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} أي هذا كلّه من جزاء الله وثوابه للمؤمن مع ما يدخر له في آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل , ولهذا قال: {وَلأَجْرُ الآخِرَة خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} فكان وزير صدق
وكان ملك مصر الوليد بن الريَّان قد أسلم على يدي يوسف عليه السلام ([31])
قدوم أولاد يعقوب على يوسف بالديار المصرية
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ }
قدم إخوة يوسف عليه السلام إلى الديار المصرية يمتارون طعاماً وذلك بعد إتيان سني الجدب، وعمومها على سائر البلاد والعباد. وكان يوسف عليه السلام إذ ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية ديناً ودنيا. فلما دخلوا عليه عرفهم ولم يعرفوه لأنهم لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف عليه السلام من المكانة والعظمة فلهذا عرفهم وهم له منكرون.
لمّا قدموا عليه سجدوا له فعرفهم وأراد أن لا يعرفوه، فأغلظ لهم في القول وقال أنتم جواسيس، جئتم لتأخذوا خبر بلادي. فقالوا معاذ الله إنما جئنا نمتار لقومنا من الجهد والجوع الذي أصابنا ونحن بنو أبٍ واحد من كنعان، ونحن إثنا عشر رجلاً ذهب منّا واحد وصغيرنا عند أبـينا، فقال لا بدّ أ
فقال لا بدّ أن أستعلم أمركم {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي أعطاهم من الميرة ما جرت به عادته في إعطاء كل إنسان حمل بعير لا يزيده عليه {قَال ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِـيْكُمْ}
فقال: إذا قدمتم من العام المقبل فأتوني به معكم {أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أَوفِي الكَيْلَ وَأَنا خَيْرُ المُنْزِلِينَ} أي قد أحسنت نزلكم وقراكم فرغّبهم ليأتوه به، ثم رهبّهم إن لم يأتوه به قال: {فإِنْ لَمْ تَأْتُونِ بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ} أي فلست أعطيكم ميرة ولا أقربكم بالكلية عكس ما أسدى إليهم أولاً، فاجتهد في إحضاره معهم ليبلّ شوقه منه بالترغيب والترهيب {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} أي سنجتهد في مجيئه معنا وإتيانه إليك بكل ممكن {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} أي وإنا لقادرون على تحصيله. ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم وهي ما جاؤوا به يتعوضون به عن الميرة في أمتعتهم من حيث لا يشعرون بها {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أراد أن يردوها إذا وجدوها في بلادهم, خشي أن لا يكون عندهم ما يرجعون به مرّة ثانية. فقد تذمّم أن يأخذ منهم عوضاً عن الميرة.
وقد كانت بضاعتهم صرراً من ورق أي دراهم فضة. ([32]) {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِـيِهمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ }أي بعد عامنا هذا إن لم ترسل معنا أخانا فإن أرسلته معنا لم يمنع منا { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَل وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظَاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي } أَيْ أيَّ شيء نريد وقد ردّت إلينا بضاعتنا {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي نمتار لهم، ونأتيهم بما يصلحهم في سنتهم ومَحْلهم {وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ} بسببه {كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي في مقابلة ذهاب ولده الآخر، وكان يعقوب عليه السلام أضنّ شيء بولده بنيامين لأنه كان يشم فيه رائحة أخيه ويتسلّى به عنه، ويتعوّض بسببه منه، فلهذا قال: {لَنْ أُرْسِلُهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} أي إلاّ أن تغلبوا كلكم عن الإِتيان به {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا تَقُولُ وَكِيلٌ} أكد المواثيق وقرّر العهود واحتاط لنفسه في ولده ولن يغني حذر من قدره. ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة لما بعث الولد العزيز ولكن الأقدار لها أحكام والربّ تعالى يقدّر ما يشاء ويختار ما يريد ويحكم ما يشاء وهو الحكيم العليم. ثم أمرهم أن لا يدخلوا المدينة من باب واحد { وَقَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِن أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } أراد أن لا يصيبهم أحد بالعين، وذلك لأنهم كانوا أشكالاً حسنة وصوراً بديعة، وأراد أن يتفرّقوا لعلهم يجدون خبراً ليوسف أو يحدثون عنه بأثر وقال: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ إِن الحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف 63 - 68)
وبعث معهم هدية إلى العزيز من الفستق واللوز والصنوبر والبطم والعسل وأخذوا الدراهم الأولى وعوضاً آخر ([33]) {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسَفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ المَلِكِ}
كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف وأيوائه إليه وإخباره له سراً عنهم بأنه أخوه وأمره بكتم ذلك عنهم وسلاه عما كان منهم من الإِساءة إليه. ثم احتال على أخذه منهم وتركه إياه عنده دونهم فأمر فتيانه بوضع سقايته. وهي التي كان يشرب بها ويكيل بها للناس الطعام عن غرته في متاع بنيامين. ثم أعلمهم بأنهم قد سرقوا صِوَاع الملك { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } وعدهم جعالة على رده حمل بعير وضمنه المنادي لهم فأقبلوا على من إتهمهم بذلك فأنّبوه وهجّنوه فيما قاله لهم و {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} يقولون أنتم تعلمون منا خلاف ما رميتمونا به من السرقة {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِـينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}. وهذه كانت شريعتهم أن السارق يدفع إلى المسروق منه ولهذا قالوا: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
قال الله تعالى {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيه} ليكون ذلك أبعد للتهمة وأبلغ في الحيلة, قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ} أي لولا اعترافهم بأن جزاءه من وجد في رَحْله فهو جزاؤه لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر ([34]) {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} أي في العلم {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وذلك لأن يوسف كان أعلم منهم وأتمّ رأياً وأقوى عزماً وحزماً، وإنما فعل ما فعل عن أمر الله له في ذلك لأنه يترتّب على هذا الأمر مصلحة عظيمة بعد ذلك من قدوم أبـيه وقومه عليه ووفودهم إليه، فلما عاينوا استخراج الصواع من حمل بنيامين {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يعنون يوسف. كان أول ما دخل على يوسف من البلاء أن عمته ابنه إسحاق ، وكانت أكبر ولد إسحاق ، وكانت إليها صارت منطقة إسحاق ، وكانوا يتوارثونها بالكبر ، وكان من حكمهم أن من يسرق شئ كان يسلم لمن سرق منه يصنع فيه ما شاء ولا ينازعه فيه أحد، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد كان حضنته عمته ، فكان معها وإليها ، فلم يحب أحد شيئاً من الأشياء حبها إياه ، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات ، ووقعت نفس يعقوب عليه، أتاها فقال: يا أخية سلمي إلى يوسف ، فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة ، قالت : والله ما أنا بتاركته ، قال : فو الله ما أنا بتاركه . قالت : فدعه عندي أياماً أنظر إليه وأسكن عنه ، لعل ذلك يسليني عنهو فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه ، ثم قالت : لقد فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها ومن أصابها ، فالتمست ثم قالت : كشفوا أهل البيت ، فكشفوهم فوجدوها مع يوسف ، فقالت : والله إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت . قال : وأتاها يعقوب فأخبرته الخبر ، فقال لها : أنت وذاك ، إن كان فعل ذلك فهو سلم لك ، ما أستطيع غير ذلك فأمسكته ، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت فلهذا ([35]){قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} وهي كلمته بعدها وقوله: {أَنْتُمْ شَرٌ مَكَانَاً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} أجابهم سراً لا جهراً حلماً وكرماً وصفحاً وعفواً فدخلوا معه في الترفّق والتعطّف فقالوا: {يَا أَيُّهَا العَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخَاً كَبِـيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسنين، قَالَ مَعَاذَ اللَّهَ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ} أي إن أطلقنا المتهم وأخذنا البريء. هذا ما لا نفعله ولا نسمح به وإنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده. ([36]) {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً } لما استيأسوا من أخذه منه خلصوا يتناجون فيما بـينهم قال كبـيرهم وهو روبـيل {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} لقد أخلفتم عهده وفرطتم فيه كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله، فلم يبق لي وجه أقابله به {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ} أي لا أزال مقيماً ههنا {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِـي} في القدوم عليه {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} بأن يقدرني على رد أخي إلى أبـي {وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ارْجِعُوا إِلَى أَبِـيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} أي اخبروه بما رأيتم من الأمر في ظاهر المشاهدة {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْأَلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي فإن هذا الذي أخبرناك به من أخذهم أخانا لأنه سرق أمر اشتهر بمصر وعلمه العير التي كنا نحن وهم هناك {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }لما قالوا ذلك ليعقوب { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي ليس الأمر كما ذكرتم لم يسرق فإنه ليس سجية له ولا خلقه وإنما سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل.
لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتباً على صنيعهم في يوسف، قال لهم ما قال وكأن هذا من جزاء السيئة السيئة بعدها ثم قال: {عَسى اللَّهُ أَنْ يَأْتِينِي بِهِمْ جَمِيعاً} يعني يوسف وبنيامين وروبـيل {إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ} أي بحالي وما أنا فيه من فراق الأحبة {الحَكِيمُ} فيما يقدره ويفعله وله الحكمة البالغة والحجّة القاطعة {وَتَوَلّى عَنْهُمْ} أي أعرض عن بنيه {وَقَالَ يَا أَسَفِي عَلَى يُوسُفَ} ذكره حزنه الجديد بالحزن القديم وحرك ما كان كامناً {وَابْـيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ} أي من كثرة البكاء {فَهُوَ كَظيمٌ} أي مكظم من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف، فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق {قَالُوا} له على وجه الرحمة له والرأفة به والحرص عليه {تَاللّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ} يقولون لا تزال تتذكره حتى تنحل جسدك وتضعف قوتك فلو رفقت بنفسك كان أولى بك {قَالَ إِنَّما أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يقول لبنيه لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس ما أنا فيه إنما أشكو إلى الله عزّ وجلّ وأعلم أن الله سيجعل لي مما أنا فيه فَرَجاً ومَخْرَجاً وأعلم أن رؤيا يوسف لا بدّ أن تقع، ولا بدّ أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى، ولهذا قال: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ثم قال لهم محرضاً على تطلب يوسف وأخيه وأن يبحثوا عن أمرهما. {يَا بَنيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ولاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَـيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} أي لا تيأسوا من الفرج بعد الشدّة فإنه لا يـيأس من روح الله وفرجه وما يقدره من المخرج في المضايق إلا القوم الكافرون. ([37])
ورجوع إخوة يوسف إليه وقدوموا عليه ورغبتاً فيما لديه من الميرة والصدقة عليهم ورد أخيهم بنيامين إليهم {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيّهَا العَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُرُّ} أي من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أي ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلاّ أن يتجاوز عنا. كانت دراهم رديئة وقليلة ([38]) {فَأَوْفِ لَنَا الكَيْلَ وَتَصَدَّقَ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ} بقبولها وبردّ أخينا إلينا, فلم رأى ما هم فيه من الحال وما جاؤوا به مما لم يبق عندهم سواه من ضعيف المال تعرّف إليهم وعطف عليهم قائلاً لهم عن أمر ربّه وربّهم. وقد حسر لهم عن جبـينه الشريف وما يحويه من الحال فيه الذي يعرفون {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِـيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا} وتعجّبوا كل العجب وقد ترددوا إليه مراراً عديدة وهم لا يعرفون أنه هو {أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} يعني أنا يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم وسلف من أمركم فيه ما فرّطتم وقوله: {وَهَذَا أَخِي} تأكيد لما قال وتنبـيه على ما كانوا أضمروا لهما من الحسد وعملوا في أمرهما من الاحتيال ولهذا قال: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي بإحسانه إلينا وصدقته علينا وإيوائه لنا وشده معاقد عزنا وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا وصبرنا على ما كان منكم إلينا وطاعتنا وبرّنا لأبـينا ومحبّته الشديدة لنا وشفقته علينا {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ } {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي فضّلك وأعطاك ما لم يعطنا {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}. أي فيما أسدينا إليك وها نحن بـين يديك {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ} أي لست أعاقبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا ثم زدهم على ذلك فقال:{اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه وهو الذي يلي جسده فيضعوه على عيني أبـيه فإنه يرجع إليه بصره بعدما كان ذهب بإذن الله، وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات. ثم أمرهم أن يتحمّلوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر إلى الخير وجمع الشمل بعد الفرقة على أكمل الوجوه وأعلى الأمور {وَلَمَّا فَصَلَتِ العِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَولاَ أَن تُفَنِّدونِ} لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف {فَقَالَ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ} وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام . أي ثمانين فرسخاً، {لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ} أي تقولون إنما قلت هذا من الفند أي الخرف وكبر السن فتسفّهون. {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القَدِيمِ} قالوا له كلمة غليظة {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرَاً} أي بمجرد ما جاء ألقى القميص على وجه يعقوب فرجع من فوره بصيراً بعد ما كان ضريراً. وقال لبنيه عند ذلك {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمْ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي أعلم أن الله سيجمع شملي بـيوسف وستقرّ عيني به وسيريني فيه ومنه ما يسّرني فعند ذلك {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}.
طلبوا منه أن يستغفر لهم الله عزّ وجلّ عما كانوا فعلوا ونالوا منه ومن ابنه وما كانوا عزموا عليه. ولما كان من نيتهم التوبة قبل الفعل وفّقهم الله للإِستغفار عند وقوع ذلك منهم فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا وما عليه عولوا قائلاً {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّـي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
أرجأهم إلى وقت السحر ([39])
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ }([40]) حال اجتماع المتحابـين بعد الفرقة الطويلة التي هي خمس وثلاثون سنة من ظاهر سياق القصّة الذي يرشد إلى تحديد المدة تقريباً، فإن المرأة راودته وهو شاب ابن سبع عشرة سنة فيما قاله غير واحد فامتنع فكان في السجن بضع سنين وهي سبع عند عكرمة وغيره. ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع، ثم لما أمحل الناس في السبع البواقي جاء إخوته يمتارون في السنة الأولى وحدهم. وفي الثانية ومعهم أخوه بنيامين. وفي الثالثة تعّرف إليهم وأمرهم بإحضار أهلهم أجمعين فجاؤوا كلهم في سنة تالية { آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} اجتمع بهما خصوصاً وحدهما دون إخوته {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} تلقّاهما وآواهما في منزل الخيام. ثم لما اقتربوا من باب مصر {قَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ } اسكنوا مصر أو أقيموا بها {إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}
لما وصل إلى أرض جاشر وهي أرض بلبـيس خرج يوسف لتلقيه، وكان يعقوب قد بعث ابنه يهوذا بـين يديه مبشّراً بقدومه، وكان الملك أطلق لهم أرض جاشر يكونون فيها ويقيمون بها بنعمهم ومواشيهم. وقد لما أَزِفَ قدوم نبـي الله يعقوب وهو إسرائيل، أراد يوسف أن يخرج لتلقيه فركب معه الملك وجنوده خدمة ليوسف وتعظيماً لنبـي الله إسرائيل، وأنه دعا للملك وأن الله رفع عن أهل مصر بقية سني الجدب ببركة قدومه إليهم
وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم سبعون إنساناً ([41]) واستقروا جميعا بمصر ([42]) {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ} كانت خالته ليا، والخالة بمنزلة الأم. ورفعهما على العرش أي أجلسهما معه على سريره {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} أي سجدوا له, الأبوان والإِخوة الأحد عشر تعظيماً وتكريماً، ([43]) {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} أي هذا تعبـير ما كنت قصصته عليك من رؤيتي الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر حين رأيتهم لي ساجدين وأمرتني بكتمانها ووعدتني ما وعدتني عند ذلك {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّـي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِـي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} أي بعد الهمّ والضيق جعلني حاكماً نافذ الكلمة في الديار المصرية حيث شئت { وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ } أي البادية وكانوا يسكنون أرض العربات من بلاد الخليل {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَـيْنِي وَبَـيْنَ إِخْوَتِي} أي فيما كان منهم إليّ من الأمر ثم قال: {إِنَّ رَبِّـي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} أي إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه ويسّرها وسهّلها من وجوه لا يهتدي إليها العباد بل يقدّرها ويـيسّرها بلطيف صنعه وعظيم قدرته {إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ} أي بجميع الأمور {الحَكِيمُ} في خلقه وشرعه وقدره.([44])
ثم لما رأْى يوسف عليه السلام نعمته قد تمّت وشمله قد اجتمع عرف أن هذه الدار لا يقرّبها قرار، وأن كل شيء فيها ومن عليها فان. وما بعد التمام إلاّ النقصان، فعند ذلك أثنى على ربّه بما هو أهله، واعترف له بعظيم إحسانه وفضله. وسأله منه وهو خير المسؤلين أن يتوفّاه أي حين يتوفاه على الإِسلام. وأن يلحقه بعباده الصالحين ([45])
وقد أقام يعقوب بديار مصر عند يوسف سبع عشرة سنة ثم توفي عليه السلام لمائة وأربعين من عمره وكان قد أوصى إلى يوسف عليه السلام أن يدفن عند أبويه إبراهيم وإسحاق. وكان عمر يعقوب مائة وأربعين سنة. وقد أوصى بنيه بالإِخلاص وهو دين الإِسلام الذي بعث الله به الأنبـياء عليهم السلام .{ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبَدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِدَاً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: الآية 133)
وقد أوصى بنيه واحداً واحداً وأخبرهم بما يكون من أمرهم وبشّر يهوذا بخروج نبـي عظيم من نسله تطيعه الشعوب، وهو عيسى بن مريم
ولمّا مات يعقوب بكى عليه أهل مصر سبعين يوماً، وأمر يوسف الأطباء فطيّبوه بطيب ومكث فيه أربعين يوماً فصبر ، ثم استأذن يوسف ملك مصر في الخروج مع أبـيه ليدفنه عند أهله، فأذن له وخرج معه أكابر مصر وشيوخها، بإذن من الملك وسيره إلى فلسطين. واعترضهم بعض الكنعانيين في طريقهم ، فأوقعوا بهم ، وانتهوا إلى مدفن إبراهيم وإسحق عليهما السلام فدفنوه في المغارة التي كان اشتراها إبراهيم الخليل من عفرون بن صخر الحيثي، وعملوا له عزاء ، ثم رجعوا إلى بلادهم وعزى إخوة يوسف ليوسف في أبـيهم، وترققوا له فأكرمهم وأحسن منقلبهم فأقاموا ببلاد مصر. ثم حضرت يوسف عليه السلام الوفاة فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر فيدفن عند آبائه فحنّطوه ووضعوه في تابوت وختم عليه ، ودفن في بعض مجاري النيل ولم تزل وصيته محفوظة عندهم إلى أن حمله موسى صلوات الله عليه عند خروجه ببني اسرائيل من مصر فأخرجه معه موسى عليه السلام فدفنه عند آبائه ومات وهو ابن مائة سنة وعشرين سنة . وأوصى إلى أخيه يهوذا صلوات الله عليه وسلامه.
ولما قبض يوسف صلوات الله عليه ، وبقي من بقي من الأسباط إخوته وبنيه تحت سلطان الفراعنة بمصر ، تشعب نسلهم ، وتعددوا إلى أن كاثروا أهل الدولة وارتابوا بهم فاستعبدوهم وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى صلوات الله عليه فتداولهم ملوك القبط والعمالقة بمصر ، وكان ليوسف صلوات الله عليه من الولد كثير ، إلا أن المعروف منهم اثنان أفراثيم ومنشى وهما معدودان في الأسباط ، لأن يعقوب صلوات الله عليه أدركهما وبارك عليهما وجعلهما من جملة ولده
[1] وهو والد الروم.
[2]الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل
[3] الدرج
[4] وهو موضع بـيت المقدس اليوم الذي بناه يعقوب بعد ذلك ويكون بعد بناء الكعبة بأربعين سنة
[5] فيها قبره وقبر ولده إسحاق وقبر ولدولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد «حبرون»، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم.
[6] ثم نسخ في شريعة التوراة.
[7] كما سجدت الملائكة لآدم تحيّة له، وكما سجد إخوة يوسف وأبواه له كما سيأتي
[8] الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السلام
[9] وقيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والجن والإنس والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن وفيها ذكر التوحيد والفقه والسير
وقيل لمجاوزة يوسف عن إخوته وصبره على أذاهم وعفوه عنهم بعد الالتقاء بهم عن ذكر ما تعاطوه وكرمه في العفو عنهم حتى قال لا تثريب عليكم اليوم
وقيل إنأغلب من ذكر فيها كان مآله السعادة انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته وامرأة العزيز والملك أيضا أسلم بيوسف وحسن إسلامه ومستعبر الرؤيا الساقي فما كان أمر الجميع إلا إلى خير
وغير ذلك من الفوائد
قيل إن سورة يوسف وسورة مريم عليهم السلام ينفكه بهما أهل الجنة في الجنة
وقيل لا يسمع سورة يوسف عليه السلام محزون إلا استراح إليها
[10] ذلك إشارة من الله سبحانه إلى ما حصل لهم بعد دخولهم مصر من النعم التي من جملتها كون الملك فيهم وجاء من نسلهم أنبياء
[11] { لقد كان في يوسف واخوته} أي في خبره وخبر اخوته وكان بنو يعقوب عليه السلام اثنى عشر رجلا آيات أي عبر ومواعظ للسائلين عن ذلك المستخبرين عنه فهي عبرة للمعتبرين لقد كان في قصة يوسف وخبره مع إخوته آيات أي عبر ومواعظ للسائلين عن ذلك المستخبرين عنه قيل أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف عليه السلام وقيل سألوه عن سبب انتقال ولد يعقوب من كنعان إلى مصر أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فقالوا أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أُخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمي ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ولا من يعرف خبر الأنبياء وإنما وجه اليهود إليهم من المدينة يسألونه عن هذا فأنزل الله عز وجل سورة يوسف جملة واحدة فيها كل ما في التوراة فوجدوها موافقة لما في التوراة من خبر وزيادة فكان ذلك آية
فتعجبوا منها فهذا معنى قوله آيات للسائلين أي دلالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولإنها تشتمل على حسد اخوة يوسف وما آل إليه أمرهم في الحسد وتشتمل على رؤياه وما حقق الله منها وتشتمل على صبر يوسف عليه السلام عن قضاء الشهوة وعلى الرق وعلى اللبث في السجن وما آل إليه أمره من الملك وتشتمل على حزن يعقوب وصبره على فراق يوسف وما آل إليه أمره من الوصول إلى المراد وغير ذلك من الآيات فهي عبرة للمعتبرين
[12] ليس المراد من الضلال الضلال عن الدين ولو أرادوه لكفروا به بل المراد منه الخطأ في تدبير أمر الدنيا
[13] وزير مصر في ذلك الوقت في مكانته في التصرف بإمور البلاد وملك البلاد له الوجاهة مثل بلاد الأنجليز فالملكة لها وجاهتها لكن رئيس الوزراء هو الذي يدير البلاد
[14] ولم يمت هذا الملك حتى آمن واتبع يوسف على دينه ومات هذا الملك ويوسف يومئذ على خزائن الأرض وملك بعده قابوس وكان كافرا فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى
[15] قالت الحكماء في هذه الآية والله غالب على أمره حيث أمره يعقوب ألا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حتى قص ثم أراد إخوته قتله فغلب أمر الله حتى صار ملكا وسجدوا بين يديه ثم أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب أبيهم وافتكره بعد سبعين سنة أو ثمانين سنة فقال يا أسفا على يوسف ثم تدبروا أن يكونوا من بعده قوما صالحين أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب وأصروا عليه حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد سبعين سنة وقالوا لأبيهم إنا كنا خاطئين ثم أرادوا أن يخدعوا أباهم بالبكاء والقميص فغلب أمر الله فلم ينخدع وقال بل سولت لكم أنفسكم أمرا ثم احتالوا في أن تزول محبته من قلب أبيهم فغلب أمر الله فازدادت المحبة والشوق في قلبه
ثم دبرت امرأة العزيز أنها إن ابتدرته بالكلام غلبته فغلب أمر الله حتى قال العزيز استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ثم دبر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي فغلب أمر الله فنسي الساقي ولبث يوسف في السجن بضع سنين
[16] بالسريانية تدعوه إلى نفسها وبالقبطية هلم لك وفي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناه تعال
والحقيقة أنها كلمة عربية تدعوه بها إلى نفسها وهي كلمة حث وإقبال على الأشياء
[17] وقيل إن الله ربي تولاني بلطفه فلا أركب ما حرمه إنه لا يفلح الظالمون
[18] وقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد وتناول الطعام اللذيذ فإذا لم يأكل ولم يشرب ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس في نفس
[19] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
{ قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي } أي من أجلي مسلم 2/331
وقال عليه السلام مخبرا عن ربه
{ إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة } البخاري 6491 مسلم 2/ 332
فإن كان ما يهم به العبد من السيئة يكتب له بتركها حسنة فلا ذنب
[20] وقيل إنه كان صبيا في الدار وكان صبيا في المهد لحديث { تكلم أربعة وهم صغار فذكر فيهم شاهد يوسف } المسند 1/3010 وصحح إسناده أحمد شاكر 2822
[21] {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ(31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) }يوسف
[22] وقد جاء في حديث الإِسراء {فَمَرَرْتُ بِـيُوسُفَ وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ}
[23] كما أنه لم تكن أنثى بعد حوّاء أشبه بها من سارة إمرأة الخليل عليه السلام, وقيل كان إذا أتته امرأة لحاجة غطّى وجهه وقال غيره كان في الغالب مبرقعاً لئلا يراه الناس
[24] { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (36) قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَـيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)} يوسف
[25] كما قال عيسى{وَأُنَبِّئَكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُـيُوتِكُمْ (49)} آل عمران
[26] ولهذا جاء في الحديث {الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعْبَّرْ فإذا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ}
وقد روي عن ابن مسعود ومجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم {أَنّهما قالا لم نرَ شيئاً}
[27] {وَقَالَ المَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِئُكُمْ بِتَأوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخُرَ يَابِسَاتٍ لعلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأْبَاً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) } يوسف
[28] {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّـي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبَكُنَّ إِذْ رَاوَدُّتْن يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ اْلآنِ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّه عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّه لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ وَمَا أُبَرّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّـي إِنَّ رَبِّـي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) } يوسف
[29] {وَقَالَ المَلِكُ ائتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اْلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ وَلأَجْرَ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) } يوسف
[30] وحكي أن يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثلاثين سنة وأن الملك خاطبه بسبعين لغة وكل ذلك يجاوبه بكل لغة منها فأعجبه ذلك مع حداثة سنّه فالله أعلم.
[31] {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِـيْكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ المُنْزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُوا سَنُرَاودُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)} يوسف
[32] {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِـيِهمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَل وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظَاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنِّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ وَقَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِن أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ إِن الحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف 63 - 68) .
[33] {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسَفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ المَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي اْلأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِـينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانَاً وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ قَالُوا يَا أَيُّهَا العَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبَاً شَيْخاً كَبِـيراً فَخُذْ أَحَدَ
الآيات 69 ــــ 79) .
[34] كان جزاء السارق عندهم أن يرد ضعف ما سرق
[35] وقيل كان قد سرق صنم جدّه أبـي أمه فكسره. وقيل وقيل كان يأخذ الطعام من البـيت فيطعمه الفقراء. وقيل غير ذلك
[36] {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِـيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ وَمِنِ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِـي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ارْجِعُوا إِلَى أَبِـيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْأَلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِينِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنْهُمُ وَقَالَ يَا أَسَفِي عَلَى يُوسُفَ وابْـيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُوا تاللّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يَا بُنَيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ رُوْحِ اللّهِ إنه لاَ يَـيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: الآيات 80 ــــ 87) .
[37] {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيّهَا العَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِـيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهَ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنْ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِـي يَأْتِ بَصِيرَاً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} (يوسف الآيات 88 - 93)
[38] وقيل: حب الصنوبر، وحب البطم ونحو ذلك. وعن ابن عباس كانت خلق الغرائر والحبال ونحو ذلك.
[39] كان عمر يأتي المسجد فسمع إنساناً يقول: «اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت وهذا السحر فاغفر لي» قال فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود فسأل عبد الله عن ذلك فقال إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّـي» وقد قال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِاْلأَسْحَارِ}.
وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبُ عَلَيْهِ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيهِ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرُ لَهُ» وقد ورد في حديث (أَنَّ يَعْقُوبَ أَرْجَأَ بَنِيهِ إِلَى لَيْلَةِ الجْمْعَةِ)
[40] {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَال ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّـي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِـي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ وَمِنْ بَعْدِ أَنْ نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَـيْنِي وَبَـيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّـي لَطِيفٌ لمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكَيمُ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَاْلأَرْضِ أَنْتَ وَلِيّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمَاً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف الآيات 99 ـ 101)
[41] قيل كان معه أيوب النبي من بني عيصو ، وهو أيوب بن برحما بن زبرج بن رعويل بن عيصو
[42] وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل
[43] كان هذا مشروعاً لهم ولم يزل ذلك معمولاً به في سائر الشرائع حتى حرّم في ملّتنا.
[44] وكان لا يشبع في تلك السنين حتى لا ينسى الجيعان، وأنه إنّما كان يأكل أكلة واحدة نصف النهار. فمن ثم اقتدى به الملوك في ذلك. قلت: وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يشبع بطنه عام الرمادة حتى ذهب الجدب وأتى الخصب.
قال الشافعي: قال رجل من الأعراب لعمر بعد ما ذهب عام الرمادة: (لقد انجلت عنك وإنك لابن حرّة).
[45] وهكذا كما يقال في الدعاء {اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي حين تتوفانا ويحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره عليه السلام كما سأل النبـي صلى الله عليه وسلم عند احتضاره أن يرفع روحه إلى الملأ الأعلى والرفقاء الصالحين من النبـيـين والمرسلين كما قال: «اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى ثَلاَثاً ثُمَّ قَضَى».
ويحتمل أن يوسف عليه السلام سأل الوفاة على الإِسلام منجزاً في صحّة بدنه وسلامته وأن ذلك كان سائغاً في ملّتهم وشرعتهم، كما رُوِيَ عن ابن عبّاس أنه قال ما تمنى نبـيُّ قط الموت قبل يوسف. فأما في شريعتنا فقد نهى عن الدعاء بالموت إلاّ عند الفتن، كما في حديث معاذ في الدعاء الذي رواه أحمد «وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنَا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ» وفي الحديث الآخر «ابْنَ آدَمَ المَوْتُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الفِتْنَةِ» وقالت مريم عليها السلام {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} (مريم: الآية 23) وتمنى الموت عليّ بن أبـي طالب لما تفاقمت الأمور وعظمت الفتن واشتد القتال وكثر القيل والقال، وتمنى ذلك البخاري أبو عبد الله صاحب الصحيح لما اشتدّ عليه الحال، ولقي من مخالفيه الأهوال.
فأما في حال الرفاهية فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَتَمَنَّى أَحَدَكُمُ الْمَوْتَ لِضُرَ نَزَّلِ بِهِ إِمَّا مُحْسِناً فَيَزْدَادَ وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ يُسْتَعْتَبُ وَلَكِنْ لِيَقُلْ اللَّهُمَّ أُحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لِيَ وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الوَفَاةُ خَيْراً لي» والمراد بالضرّ ههنا ما يخص العبد في بدنه من مرض ونحوه لا في دينه.
والظاهر أن نبـي الله يوسف عليه السلام سأل ذلك إما عند احتضاره أو إذا كان ذلك أن يكون كذلك