قصة إبراهيم الخليل عليه السلام
هو إبراهيم بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن راغو ابن فالغ بن عابر بن شالح ابن أرفخشذ ابن سام بن نوح عليه السلام وتارخ أبو إبراهيم كان يسمى بآزرر لقب به لصنم كان يعبده اسمه آزر وكان النمروذ قد استخلص آزر وقدمه على بيت الأصنام
واسم أم إبراهيم أميلة ([1])
لما أراد الله عز و جل ، أن يبعث إبراهيم عليه السلام حجة على قومه ورسولاً إلى عباده ، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام من نبي قبله إلا هود وصالح ، فلما تقارب زمان إبراهيم عليه السلام طلع كوكب على نمرود ملك بابل ، فذهب بضوء الشمس والقمر ، ففزع من ذلك فزعاً شديداً ، فدعا السحرة والكهنة ، فسألهم عنه ، فجاء أصحاب النجوم ، فقالوا له : تعلم أنا نجد في علمنا أن غلاماً يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم ، يفارق دينكم ، ويكسر أوثانكم ، في شهر كذا وكذا من سنة كذا , قالوا له : يخرج من ملكك رجل يكون على وجهه هلاكك وهلاك ملكك وكان مسكن النمرود ببابل الكوفة فخرج من قريته إلى قرية أخرى ، فأخرج الرجال وترك النساء ، وأمر ألا يولد مولود ذكر إلا ذبحه ، ثم إنه بدت له حاجة في المدينة لم يأمن عليها إلا آزر أبا إبراهيم ، فدعاه فأرسله . فقال له : انظر لا تواقع أهلك ، فقال له آزر : أنا أضن بديني من ذلك ، فلما دخل القرية نظر إلى أهله فلم يملك نفسه أن وقع عليها ، فقربها إلى قرية بين الكوفة البصرة ، فجعلها في سرب ، فكان يتعاهدها بالطعام والشراب وما يصلحها ،ولما دخلت السنة التي وصفها أصحاب النجوم لنمرود ، بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته ، فحبسها عنده ، إلا ما كان من أم إبراهيم امرأة آزر فإنه لم يعلم بحبلها ، فجعل لا تلد امرأة غلاماً في ذلك الشهر من تلك السنة إلا أمر به فذبح، فذبح كل غلام ولد في ذلك الوقت إن الملك لما طال عليه الأمر قال : قول سحرة كذابين ، ارجعوا إلى بلدكم ، فرجعوا . فلما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريباً منها ، فولدت فيها إبراهيم عليه السلام ، وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ، ثم سدت عليه المغارة ، ثم سعت إلى بيتها راجعة ، ثم كانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل ، فتجده حيا يمص إبهامه جعل الله رزق إبراهيم فيما يجيئه من مص إبهامه، وحماه الله عز وجل وصانه من كيد الفجار، شب شباباً باهراً وأنبته الله نباتاً حسناً، حتى كان من أمره أنه يشب في اليوم ما يشب غيره في الشهر ، من سرعة شبابه ، وكبر إبراهيم ولا يرى أن أحداً من الخلق غيره وغير أبيه وأمه([2]) حتى قال لأمه : أخرجيني أنظر ، فأخرجته عشاء ، فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض ، وقال : إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي ، مالي إله غيره
ونسى الملك ذلك الذي قاله أصحاب النجوم، فقال آزر أبو إبراهيم لأصحابه : إن لي ابنا قد خبأته ، أفتخافون عليه الملك إن أنا جئت به ؟ قالوا : لا ، فأت به . فانطلق فأخرجه من السرب فلما خرج الغلام من السرب نظر إلى الدواب والبهائم والخلق ، ولم يكن رأى قبل ذلك غير أبيه وأمه فجعل يسأل أباه عما يراه : ما هذا ؟ فيخبره عن البعير أنه بعير ، وعن البقرة أنها بقرة ، وعن الفرس أنه فرس ، وعن الشاة أنها شاة ، فقال : ما لهؤلاء الخلق بد من أن يكون لها رب
ولما ولد إبراهيم عليه السلام كان عمر ابيه تارخ خمساً وسبعين سنة
وكان إبراهيم هو الأوسط في ترتيب إخوانه ، ناحور وهاران ([3])، وولد لإخيه هاران لوط . ومات أخيه هاران في حياة أبيه في أرضه التي ولد فيها ، وهي أرض الكلدانيين ، وهي أرض بابل وما والاها .
وذات مرة وإبراهيـم يسير علـى الطريق فيرى دابة , جيفة حمار قد تـمزّعت لـحمها وبقـي عظامها , وقد تقسمتها السبـاع والطير فلـما ذهبت السبـاع، وطار الطير علـى الـجبـال والآكام، فوقـف وتعجب وقال: ربّ قد علـمت لتـجمعنها من بطون هذه السبـاع والطير، ثم سأل ربه أن يريه كيفـية إحيائه إياها مع تفرّق لـحومها فـي بطون طير الهواء وسبـاع الأرض لـيرى ذلك عيانا، فلـيس الـخبر كالـمعاينة , لـيزداد يقـينا برؤيته ذلك عيانا فيطمئنّ قلبه، أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك، إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة، فأراه الله ذلك
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }([4])
فقَالَ الله له { فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ } فعمد إلى أربعة من الطير فأخذ وزاً وفرخ النعام، وديكاً وطاووساً. وقال الله له {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } أي: قطعهن، ، فلما ذبحهن، ثم قطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن في بعض، ثم جزأهن أجزاء، وقال الله له{ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } وجعل على أربعة أجبل على كل جبل منهن جزءاً، وأخذ رؤوسهن بيده ثم أمره الله عز وجل أن يدعوهن { ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً } فدعاهن كما أمره الله عز وجل، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر، يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعياً ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جثته بحول الله وقوته، ولهذا قال {وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع من شيء، وما شاء كان بلا ممانع، لأنه القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
وآمنت بإبراهيم سارة وسارة هي ابنة عم إبراهيم واسمه هران ملك حران والذي تنسب إليه حران وقد طعنت على قومها في دينهم ، فتزوجها على ألا يغيرها ([5])
والله سبحانه وتعالى آتاه رشده في صغره ، وابتعثه رسولاً
ولما أتى الله إبراهيم رشده أنكر على قومه عبادة الأوثان وحقرها عندهم وصغرها وتنقصها ([6])، فقال : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيل الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ }؟ [الأنبياء ] أي معتكفون عندها وخاضعون لها ، قالوا : { وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } [الأنبياء ] أي ما كان حجتهم إلا صنيع الآباء والأجداد ، وما كانوا عليه من عبادة الأنداد . فقال لهم {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَال مُبِين}[الأنبياء ] " وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين " [الأنعام 74 ]
{ إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَءفْكاً ءالِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ (87) } [الصافات] فما ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره ؟ وقال لهم { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءابَآءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) }[الشعراء] سلموا له أنها لا تسمع داعياً ولا تنفع ولا تضر شيئاً ، وإنما الحامل لهم على عبادتها الإقتداء بأسلافهم ومن هو مثلهم في الضلال من الآباء الجهال . ولهذا قال لهم :{ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَءابَآؤُكُمُ ٱلاْقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ (77) } [الشعراء] وهذا برهان قاطع على بطلان أُلهية ما ادعوه من الأصنام ، لأنه تبرأ منها وتنقص بها فلو كانت تضر لضرته ، أو تؤثر لأثرت فيه . {قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ ٱللَّـٰعِبِينَ (55) } (الأنبياء: 55)؟ ويقولون : هذا الكلام الذي تقوله لنا وتتنقص به آلهتنا ، وتطعن بسببه في آبائنا أتقوله محقاً جاداً فيه أم لاعباً {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ ٱلَّذِى فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ مّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ (56) } (الأنبياء: 56) يعني بل أقول لكم ذلك جاداً محقاً ، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ، ربكم ورب كل شيء ، فاطر السموات والأرض ، الخالق لهما على غير مثال سبق ، فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، وأنا على ذلكم من الشاهدين .
قال خفية في نفسه {وَتَٱللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَـٰمَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ (57) } (الأنبياء: 57) أقسم ليكيدن هذه الأصنام التي يعبدونها بعد أن يولوا مدبرين إلى عيدهم
وكان لهم عيد يذهبون إليه في كل عام مرة إلى ظاهر البلد ، فدعاه أبوه ليحضره {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى ٱلنُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ (89) } (الصافات: 88، 89) عرض لهم في الكلام حتى يتوصل إلى مقصوده من إهانة أصنامهم ونصرة دين الله الحق ، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي تستحق أن تكسر وأن تهان غاية الإهانة .
فلما خرجوا إلى عيدهم ، واستقر هو في بلدهم أي ذهب إليها مسرعاً مستخفياً ، فوجدها في بهو عظيم ، وقد وضعوا بين أيديها أنواعاً من الأطعمة قرباناً إليها فقال لها على سبيل التهكم والإزدراء : {أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ (93) } (الصافات: 91 ـ 93) لأنها أقوى وأبطش وأسرع وأقهر ، فكسرها بقدوم في يده كما قال تعالى {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } (الأنبـياء: 58) {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } (الأنبياء: 58). أي حطاماً ، كسرها كلها ووضع القدوم على كبيرهم ليرجعوا إليه ويسألوه فيتبين لهم أنها لا تنطق ولا تعقل ولا تستطيع أن تدفع عن نفسها الضر فيكون في ذلك سبب لرجوعهم إلى رشدهم
فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم : {مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِـئَالِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ (59) } (الأنبياء: 59).وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون ، وهو ما حل بآلهتهم التي كانوا يعبدونها ، فلو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء لكنهم قالوا من جهلهم وقلة عقلهم وكثرة ضلالهم وخيالهم
{قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرٰهِيمُ (60) } (الأنبياء: 60) أي يذكرها بالعيب والتنقص لها والإزدراء بها ، فهو المقيم عليها والكاسر لها
قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) } (الأنبياء: 61) أي في الملأ الأكبر على رءوس الأشهاد ، لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه ، ويعاينون ما يحل به من الإقتصاص منه .
وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه السلام أن يجتمع الناس كلهم ، فيقيم على جميع عباد الأصنام الحجة على بطلان ما هم عليه ، فلما اجتمعوا وجاءوا به: {قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هَـٰذَا بِـئَالِهَتِنَا يإِبْرٰهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْـئَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } (الأنبياء: 62، 63).وإنما أراد بقوله هذا أن يبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطق ، فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات .
فَرَجَعُواْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ (64) } (الأنبياء: 64) أي فعادوا على أنفسهم بالملامة ، فقالوا : إنكم أنتم الظالمون في تركها ولا حارس عندها .
{ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءوسِهِمْ } (الأنبياء: 65). وأدركت القوم حيرة سوء ، ثم قالوا : {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـؤُلآء يَنطِقُونَ } (الأنبياء: 65) أي لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق ، فكيف تأمرنا بسؤالها ؟ !
فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام : قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ (66) أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ (67) } (الأنبياء: 66، 67). {فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) } يسرعون قال {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } أي كيف تعبدون أصناماً أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة ، وتصورونها وتشكلونها كما تريدون أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } أنكم مخلوقون ، وهذه الأصنام مخلوقة ، فكيف يتعبد مخلوق لمخلوق مثله ؟ إذ ليست العبادة تصلح ولا تجب إلا للخالق وحده لا شريك له .
{قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَـٰناً فَأَلْقُوهُ فِى ٱلْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً (98) } (الصافات: 97، 98).
إبراهيم يُلقى في النار فتكون له برداً وسلاماً
لما انقطعوا وغلبوا ولم تبق لهم الحجة عدلوا عن الجدال والمناظرة إلى استعمال قوتهم وسلطانهم ، لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم
{قَالُواْ حَرّقُوهُ وَٱنصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَـٰعِلِينَ (68} (الأنبياء:).وحبسوه في بيت ([7]) وشرعوا يجمعوا له خطباً من جميع ما يمكنهم من الأماكن ، فمكثوا مدة يجمعون له ، وأكثروا من الحطب حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطباً لحريق إبراهيم ، ثم عمدوا إلى حوية ([8]) عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب وأطلقوا فيه النار ، فاضطرمت واشتعلت النار وتأججت والتهبت وعلا لها شرر لم ير مثله قط . حتى كان الطير يمر بجنبتيها فيحترق من شدة وهجها , فكانت ناراً عظيمة ثم ولما تحيروا كيف يلقوا إبراهيم في النار ولا أحد يستطيع من أن يقترب منها فعاونهم الشيطان بفكرة المنجنيق ([9]) ألقاها في روع رجل من الأكراد اسمه هزان. فكان أول من صنع المجانيق ، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
ثم أخذوا يقيدون إبراهيم ويكتفونه وهو يقول : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين ، لك الحمد ولك الملك ، لا شريك لك . ثم قيدوا إبراهيم عليه السلام ليضعوه في كفة المنجنيق مقيداً مكتوفاً , فلما أجمعوا لقذفه فيها صاحت السماء و الأرض و ما فيها من الخلق إلا الثقلين إلى الله صيحة واحدة : أي ربنا ! إبراهيم ليس في أرضك من يعبدك غيره يحرق بالنار فيك فأذن لنا في نصره ! قال الله تعالى : إن استغاث بشيء منكم فلينصره وإن لم يدع غيري فأنا له . فلما رفعوه على رأس البنيان التي عليها المنجنيق رفع رأسه إلى السماء ([10]).فقال : اللهم أنت الواحد في السماء وأنت الواحد في الأرض حسبنا الله ونعم الوكيل وقال : اللهم إنك في السماء واحد ، وأنا في الأرض أعبدك "
وجعل ملك الريح يقول يا إبراهيم أطير لك النار فأُفتتها
وجعل ملك المطر يقول : متى أومر فأرسل المطر فأطفئها ؟ ثم رما ه قومه من المنجنيق فستقبله جبريل في الهواء يعرض عليه المساعدة: يا إبراهيم ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا! فكان أمر الله أسرع {قُلْنَا يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ (69} (الأنبياء: 68).أي لا تضري به
لولا أن الله قال : " وسلاما على إبراهيم " لآذى إبراهيم بردها .
وكان جبريل عليه السلام معه يمسح عن وجهه, وكان معه أيضاً ملك الظل قعد إلى جنبه يؤنسه ، وصار إبراهيم عليه السلام في ميل الحوية حوله نار وهو في روضة خضراء وهو قائم يصلي، والناس ينظرون إليه لا يقدرون على الوصول ، ولا هو يخرج إليهم .
وأحسن كلمة قالها أبو إبراهيم لما رأى ولده على تلك الحال : نعم الرب يا إبراهيم !
وأم إبراهيم نظرت إلى ابنها عليه السلام فنادته : يا بني . . إني أريد أن أجيء إليك فادع الله أن ينجيني من حر النار حولك ، فقال نعم . فأقبلت إليه لا يمسها شيء من حر النار ، فلما وصلت إليه اعتنقته وقبلته ثم عادت . ومكث إبراهيم هناك أربعين يوماً ، وخرج إبراهيم بعد ذلك من النار يمشي فعرف قومه أنهم غير مسلطين عليه وقال : ما كنت أياماً وليالي أطيب عيشاً إذ كنت فيها ، وودت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها . صلوات الله وسلامه عليه
فأرادوا أن ينتصروا فخذلوا ، وأرادوا أن يرتفعوا فاتضعوا ، وأرادوا أن يغلبوا فغلبوا . قال الله تعالى : {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـٰهُمُ ٱلاْخْسَرِينَ (70) } (الأنبياء: 68 ـــ 70). وفي آية أخرى : " الأسفلين " ففازوا بالخسارة والسفال هذا في الدنيا ، وأما في الآخرة فإن نارهم لا تكون عليهم برداً ولا سلاماً ، ولا يلقون فيها تحية ولا سلاماً ، بل هي كما قال تعالى : {إِنَّهَا سَآءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66) } (الفرقان: 66)..([11])
ولما خرج أبراهيم من النار، وكان الناس يفدون إلى النمرود للميرة فقد كان عنده طعام ، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة ، ولم يكن إبراهيم قد اجتمع بالنمرود يوم إلا يومئذ فدارت بينهما هذه المناظرة حيث وجد إبراهيم الخليل أن النمرود يريد أن ينازع الجليل في إزار العظمة ورداء الكبرياء فادعى الربوبية وهو أحد العبيد الضعفاء
وقد أخبر الله تعالى عن مناظرة خليله إبراهيم مع هذا الملك الجبار المتمرد فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِى حَآجَّ إِبْرٰهِيمَ فِي رِبّهِ أَنْ آتَـٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ} (البقرة: 258).
فقد ادعى هذا الملك لنفسه الربوبية فأبطل الخليل عليه دليله ، وبين كثرة جهله وقلة عقله ، وألجمه الحجة ، وأوضح له طريق المحجة .
هذا الملك هو ملك بابل ، واسمه النمرود ابن كنعان بن كوش بن سام بن نوح . أول مَلِك مَلَك في الأرض شرقها وغربها وكان أحد ملوك الدنيا ، وكان أول جبار في الأرض وكان ملك نمرود وقومه ببابل والمشرق قِبَل مُلك فارس وقد أحاط بمشارق الأرض ومغاربها
وقيل ملك الدنيا أربعة : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : ذو القرنين ، وسليمان . والكافران : النمرود ، وبختنصر . ([12])
ونمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة .
وكان طغى وبغي ، وتجبر وعتا ، وآثر الحياة الدنيا .
لما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، حمله الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع ، فحاج إبراهيم الخليل في ذلك ، وادعى لنفسه الربوبية ، فلما قال الخليل : { رَبّيَ ٱلَّذِى يُحْي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْي وَأُمِيتُ (258) } (البقرة: 258).
يعنى أنه إذا أوتى بالرجلين قد تحتم قتلهما ، فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد أحيا واحد وأمات الآخر .
فالخليل إبراهيم استدل على وجود الصانع بحدوث المشاهدات من إحياء الحيوانات وموتها ولهذا قال: { رَبّيَ ٱلَّذِى يُحْي وَيُمِيتُ (258) }. وقول هذا الملك الجاهل : { قَالَ أَنَا أُحْي وَأُمِيتُ (258) } عنى أنه الفاعل لهذه المشاهدات وكابر وعاند
فذكر إبراهيم دليلاً آخر بين وجود الصانع ، وبطلان ما ادعاه النمرود {قَالَ إِبْرٰهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ} أي هذه الشمس مسخرة كل يوم ، تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها ، وهو الذي لا إله إلا هو خالق كل شئ ، فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب ، فإن الذي يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب ، بل قد قهر كل شئ ودان له كل شئ ، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا ، فإن لم تفعله فلست كما زعمت ، وأنت تعلم وكل أحد أنك لا تقدر على شئ من هذا ، بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة أو تنتصر منها .
فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه ، وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهله قومه ، ولم يبق له كلام يجيب الخليل به ، بل انقطع وسكت ولهذا قال : }{ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ}.
ولم يعطي النمرود لإبراهيم من الطعام كما أعطي الناس ، بل خرج إبراهيم وليس معه شئ من الطعام .
فلما قرب إبراهيم من أهله عمد إلى كثيب من التراب ، فملأ منه عدليه وقال : أشغل أهلي إذا قدمت عليهم ، فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام ، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاماً طيباً ، فعملت منه طعاماً ، فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه ، فقال : أني لكم هذا ؟ قالت : من الذي جئت به ، فعرف أنه رزق رزقهموه الله عز وجل .
وخرج إبراهيم من أرض بابل مهاجراً إلى الشام
وبعث الله ملكاً إلى النمرود الجبار ([13]) أن آمن بي وأتركك على ملكك يأمره بالإيمان بالله فأبي عليه وقال : أرب غيري ، ثم دعاه الثانية فأبى عليه ثم دعاه الثالثة فأبي عليه فقال له الملك : اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام وأجمع جموعي ، فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس ، فأرسل الله عليه ذباباً من البعوض فطلعت الشمس فلم يروا عين الشمس من كثرتها ، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم ، وتركتهم عظاماً بادية فلم يبق منهم إلا العظام والنمرود كما هو لم يصبه شيء ، فأرسل الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكثت فيه فمكث يضرب رأسه بالمطارق فأرحم الناس به من يجمع يديه ويضرب بهما رأسه ،! عذبه الله تعالى بها . فكان يضرب رأسه بالمرازب ، حتى أهلكه الله عز وجل بها
خروج أبراهيم من الكوفة إلى دمشق مع أبيه
انطلق تارخ بابنه إبراهيم وامرأته سارة وأبنه ناحور وأمرأته ملكا وابن أبنه لوط بن هاران وكان لوط مؤمناً بعمه إبراهيم خليل الرحمن، متبعاً له على دينه ، مهاجراً إلى الشام { فَـئَامَنَ لَهُ لُوطٌ (26) } (العنكبوت). فلوط أول من صدق إبراهيم، فخرجوا ([14]) من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين ([15]) ، وتارخ أبو إبراهيم مخالفاً لإبراهيم في دينه مقيماً على كفره حتى صاروا إلى حران ([16]) , ارتحلوا قاصدين أرض الكنعانعيين ، وهي بلاد بيت المقدس ، فأقاموا بحران ([17]) وكان حكمها للكلدانيين([18]) في ذلك الزمان ، وكذلك أرض الجزيرة والشام أيضاً ، وكانوا على الكواكب السبعة ، يستقبلون القطب الشمالي ويعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الفعال والمقال . ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل لكوكب منها ، ويعملون لها أعياداً وقرابين
أبراهيم يدعوا أبيه للتوحيد وترك عبادة الأصنام
وكان تارخ أبو إبراهيم ممن يعبد الأصنام، فدعاه إبراهيم للإيمان فهو أحق الناس بإخلاص النصيحة له: { إِذْ قَالَ لاِبِيهِ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً (42) } (مريم).
ذكر تعالى ما كان بين إبراهيم وبين أبيه من المحاورة والمجادلة ، وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة وأحسن إشارة ، بين له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها ، ولا تبصر مكانه ، فكيف تغني عنه شيئاً أو تفعل به خيراً من رزق أو نصر ؟ ثم قال له منبهاً على ما أتاه الله من الهدى والعلم النافع ، وإن كان أصغر سناً من أبيه : { يٰأَبَتِ إِنّى قَدْ جَآءنِى مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (43) }أي مستقيماً واضحاً سهلاً حنيفاً يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك ثم بين له أن عبادة هذه الأوثان هي عبادة للشيطان الذي عصى ربه ومن يمت على عبادتها يتبرأ منه الله ويعذبه فقال له {يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً (44) يٰأَبَتِ إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـٰنِ وَلِيّاً (45)}
فلما عرض هذا الرشد عليه ، وأهدى هذه النصيحة إليه لم يقبلها منه ولا أخذها عنه ، بل تهدده وتوعده : { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يٰإِبْرٰهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ (46) وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً } أي واقطعني وأطل هجراني . فعندها قال له إبراهيم : {سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ } أي لا يصلك منى مكروه ولا ينالك منى أذى ، بل أنت سالم من ناحيتي ، وزاده خيراً فقال :{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (47)} كان بي لطيفاً حيث هداني لعبادته والإخلاص له . ثم قال لأبيه : {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآء رَبّى شَقِيّا (48) } (مريم).
وقد استغفر له إبراهيم عليه السلام كما وعده في أدعيته ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما قال تعالى : {وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرٰهِيمَ لأبيه إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرٰهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) } (التوبة: 114). ([19]) فإن الله سبحانه وتعالى آتاه رشده في صغره ، وابتعثه رسولاً واتخذه خليلاً في كبره ، قال الله { وَلَقَدْ ءاتَيْنَآ إِبْرٰهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَـٰلِمِينَ (51) } [الأنبياء] أي كان أهلاً لذلك.
إبراهيم أراد أن يناظر قومه أهل حران في الكواكب ليبين لهم أن هذه الأجرام المشاهدة من الكواكب النيرة ، لا تصلح للألوهية ، ولا أن تعبد مع الله عز وجل ، لأنها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبرة مسخرة ، تطلع تارة وتأفل أخرى ، فتغيب عن هذا العالم ، والرب تعالى لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية ، بل هو الدائم الباقي بلا زوال ، لا إله إلا هو ولا رب سواه , فجالس إبراهيم قومه {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ} لما دخل الليل بظلمته على إبراهيم ومن معه من قومه {رَأَى كَوْكَباً} مما يعبدونه{ قَالَ هَـٰذَا رَبّي }أراد قيام الحجة على قومه كالحاكي لما هو عندهم وما يعتقدونه لأجل إلزامهم {فَلَمَّآ أَفَلَ }غاب واختفى نوره {قَالَ لآ أُحِبُّ ٱلاْفِلِينَ (76)} أتخذ معهم حوار حكيم ومنهج في الكلام قويم لتقرير الحجة على قومه فأظهر موافقتهم فلما أفل النجم قرر الحجة {فلما رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً} أسطع نوراً { قَالَ هَـٰذَا رَبّي} استمر يحاكيهم ولا يعلن مخالفتهم ليكون أدعى لإنصاتهم له { فَلَمَّآ أَفَلَ} لما اختفى نوره أيضاً{ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبّي لاَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّآلّينَ (77)} [الأنعام] فنقلهم لاعتقاده هو في الله عند الشك والحيرة فبين لهم بلجوئه لله أنه الهادي وبدون هديته يكون الضلال {فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً } أي طالعة رجع يحاكيهم مظهراً عدم مخالفتهم فقال { هَـٰذَا رَبّى هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ } لما غابت كغيرها رماهم بالشرك {قَالَ يٰقَوْمِ إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ} فبعد أن بين لهم أولاً عدم صلاحية الكوكب للعبادة ، بدء بالزهرة ، ثم ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ منها وأبهى من حسنها ، ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياء وسناء وبهاء ، وبين أنها مسخرة مسيرة مقدرة مربوبة ، كما قال تعالى {وَمِنْ ءايَـٰتِهِ ٱلَّيْلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) } [فصلت:37] ثم قال{ إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (79) } فنقلهم بالحديث إلى الذي يتوجه له بالعبادة المستحق لها {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ }عسى أن يتراجع عما أخبرهم به {قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى} إلى الصراط المستقيم وأرشدني إلى الطريق القويم فخوفوه بطش إلهتهم وحذروه أن تصيبه بسوء بزعمهم فقال {لاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآء رَبّى شَيْئاً } [فصلت:37-47] أي لست أبالي هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله فهي مربوبة مسخرة فكيف بعبادة هياكلها المصنوعة المنحوتة المنجورة التي هي أوثان لا تنفع شيئاً ولا تضر ولا تسمع ولا تعقل
وهكذا كان أهل حران ودمشق ومن حولها يعبدون الكواكب والأصنام على هيئتها وكل من كان على وجه الأرض كانوا كفاراً ([20])
إبراهيم يهجر دمشق وينزل فلسطين
فتركهم إبراهيم وهاجر من بين أظهرهم وفيهم أبيه آزر مقيماً على كفره بحران حتى مات على كفره وعمره مائتا سنة وخمس سنين ، وقال إبراهيم { إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبّى إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ (26) } (العنكبوت). وهجر إبراهيم قومه في الله، وكانت امرأته عاقراً لا يولد لها، ولم يكن له من الولد أحد، بل معه ابن أخيه لوط وأخيه ناحور ([21]) وترك بلاد حران وأهله وأقرباءه، وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل، ودعوة الخلق إليه.فقدم فلسطين فهو أول من هاجر من أرض كفر وأوحى الله إليه: «إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك» فابتنى إبراهيم مذبحاً لله شكراً على هذه النعمة، وضرب قبته شرقي بيت المقدس ثم انطلق مرتحلاً، إلى التيمن يعني أرض بيت المقدس وما والاها وكانت أرض قحط وشدة وغلاء عندما أصاب بلاد الكنعانيين مجاعة ([22])، ثم أتى الأردن فأقام بها زماناً ، ثم ارتحل إبراهيم إلى مصر.
خرج إبراهيم في أهل بيته مهاجراً حتى قدم مصر ومعه لوط وسارة وكان على مصر في ذلك الزمان ملك مشهور بالظلم اسمه عمرو بن امرىء القيس بن مايلون بن سبأ ( [23])
وكانت سارة من أحسن النساء وجهاً قد أعطيت شطر الحسن[24] , وشاهدها الرجل الذي كان يبيع القمح لإبراهيم وهي تطحن فنم على إبراهيم عند الملك[25] , فقال له: نزل ها هنا بأرضك رجلاً معه امرأة من أحسن النساء ولا ينبغي أن تكون لغيرك ، فلما وصفت لهذا الطاغية أرسل إلى إبراهيم فقال : من هذه التي معك ؟ قال : أختي ([26]) يعني في الإسلام ، وتخوف إن قال هي امرأتي أن يقتله .
فلما رجع إبراهيم إلى سارة قال: إن هذا سألني عنك فقلت: إنك أختي، وإنه ليس اليوم زوجين مؤمنين غيري وغيرك ([27]). وقال لها لا تكذبيني عنده. وكانت لا تعصي إبراهيم شيئاً فأُرسل إليها فأتي بها للملك ، وقام إبراهيم يصلي لله عز وجل، ويسأله أن يدفع عن أهله، وأن يرد بأس هذا الذي أراد أهله بسوء.فلما دخلت على الملك ذهب يتناولها , لما رآها لم يتمالك أن بسط يده إليها[28] أهوى بيده إليها ، فدعت وقالت اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر[29] فقبضت يده قبضة شديدة حتى يبست يده على صدره ، واختنق حتى صار كأنه مصروع يركض برجله[30] , فطلب منها الإقالة, فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك , فدعت الله قالت اللهم إن يمت يقولوا هي التي قتلته , فأفاق وأرسل الله يده وأطلق ثم تناولها الثانية فقبضت يده أشد من القبضة الأولى , فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك , فدعت الله , فأطلق
فدعا بعض حجبته ودعا الذي جاء بها[31] , وقال له إنك لم تأتني بإنسان ، إنما أتيتني بشيطان ، وكانوا قبل الإسلام يعظمون أمر الجن جداً ويرون أن كل ما يقع من خوارق العادة من فعلهم وتصرفهم ولما وقع له من الصرع بسببها عظم أمرها فقال أرجعوها إلى إبراهيم وأخدمها هاجر , وهبها لها لتخدمها لأنه أعظمها أن تخدم نفسها في الطحن , وقال هذه لا تصلح أن تخدم نفسها , أخرجوها من أرضي وأعطاها هاجر , وكانت هاجر من قرية بصعيد مصر كان أبوها من ملوك القبط[32] قبل أن يستولى على مصر ابن سبأ
وكان إبراهيم عليه السلام من وقت ذهب بها إلى الملك، قام يصلي لله عز وجل، فكشف الله عز وجل الحجاب فيما بين إبراهيم عليه السلام وبين سارة، فلم يزل يراها منذ خرجت من عنده إلى أن رجعت إليه. وكان مشاهداً لها وهي عند الملك، وكيف عصمها الله منه، ليكون ذلك أطيب لقلبه وأقر لعينه وأشد لطمأنينته، فإنه كان يحبها حباً شديداً، لدينها وقرابتها منه وحسنها الباهر، فلم تكن امرأة بعد حواء أحسن منها، رضي الله عنها،
فعصمها الله وصانها لعصمة عبده ورسوله وحبيبه وخليله إبراهيم عليه السلام.فحفظ الله سارة التي حفظت الله لأنه في ذلك الوقت لم يكن أحد على وجه الأرض يعبد الله إلا إبراهيم وزوجته [33], ولحفظها فرجها ونفسها لله ولزوجها حفظها الله فلم يمكن الفاجر من أن ينال منها شيء وأرجعها الله لزوجها ومعها هاجر هدية لتكون آمة لها
فأتت سارة إلى إبراهيم ومعها هاجر وكان إبراهيم يصلي[34]فانفلت من صلاته وقالت له رد الله كيد الكافر الفاجر واخدمني هاجر
فاخدام الملك إياها هاجر. ثم أخرجهم من مصر فرجعوا إلى بلاد التيمن وهي الأرض المقدسة التي كان فيه
عودة إبراهيم من بلاد مصر إلى الأرض المقدسة
رجع الخليل عليه السلام من بلاد مصر إلى أرض التيمن، ومعه من هذه البلاد أنعام وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجر القبطية المصرية. فنزل السبع من أرض فلسطين وهي برية الشام ومعه لوط
ولكثرة مال إبراهيم ومواشيه احتاج إلى السعة في المسكن والمرعى ، وكان مسكنه مابين قرية مدين والحجاز إلى الأرض الشأم ، وكان ابن أخيه لوط نازلا معه ، فقاسم ماله لوطاً ، فأعطى لوطاً شطره، ولكثرة المواشي وتوابعها لإبراهيم ولوط ولضيق المرعي خيره إبراهيم مسكناً يسكنه ومنزلا ينزله غير المنزل الذي هو به نازل ، فاختار لوط ناحية الأردن فصار إليها, وهي المؤتفكة من ناحية فلسطين وهي من السبع مسيرة يوم وليلة, ونزح لوطاً عليه السلام بما له من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك إلى الأردن المؤتفكة وهي أرض الغور، المعروف بغور زغر وكانت خمس قرى منها سدوم ؛ فنزل بمدينة سدوم وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان. وكان أهلها أشرار كفاراً فجارا وبعث الله لوطاً نبياً
وأقام إبراهيم عليه السلام بمكانه متخذاً بالسبع بئراً ومسجداً وكان ماء البئر معيناً طاهراً ، فآذاه أهل السبع فانتقل عنهم , فخرج منها حتى نزل بناحية من أرض فلسطين بين الرملة وإيليا ، ببلد يقال جيرون المسمى بالخليل والذي اتخذه مدفنه ، وكانت معظمة تعظمها الصائبة ، وتسكب عليها الزيت للقربان وتزعم أنها هيكل المشتري والزهرة ، فسماها العبرانيون ([35]) إيليا ومعناه بيت الله، فنصب الماء فاتبعه أهل السبع ، حتى أدركوه وندموا على ما صنعوا ، وقالوا : أخرجنا من بين أظهرنا رجلاً صالحاً ، فسألوه أن يرجع إليهم ، فقال : ما أنا براجع إلى بلد أخرجت منه ، قالوا له : فإن الماء الذي كنت تشرب منه ونشرب معك منه قد نضب فذهب ، فأعطاهم سبع أعنز من غنمه وقال : إذا أوردتموها الماء ظهر حتى يكون معيناً طاهراً فاشربوا منه ولا تغترف منه امرأة حائض . فخرجوا بالأعنز ، فلما وقفت على الماء ظهر إليها ، وكانوا يشربون منه ، إلى أن غرفت منه امرأة طامث فنكص ماؤها فعاد الماء إلى الذي هو عليه اليوم ، ثم ثبت . وأقام إبراهيم بجيرون بين الرملة وإيليا
ووسع عليه في المال والخدم وهو أول من أضاف الضيف ، وأول من ثرد الثريد ([36])
ولادة إسماعيل عليه السلام ونشأته
سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يرزقه ذرية طيبة. ولما كان لإبراهيم ببلاد المقدس عشرون سنة قالت سارة لإبراهيم عليه السلام: إن الرب قد حرمني الولد، فادخل على أمتي هذه لعل الله يرزقك منها ولداً.
وكانت هاجر جارية ذات هيئة فلما وهبتها سارة لإبراهيم وكانت سارة قد منعت الولد حتى أسنت ، دخل إبراهيم عليه السلام بهاجر، فحين دخل بها حملت منه فلما حملت رأت سارة أن هاجر ارتفعت نفسها وتعاظمت عليها، فغارت منها سارة فشكت ذلك إلى إبراهيم، فقال لها: إفعلي بها ما شئت، فخافت فهربت فنزلت عند عين هناك. فقال لها ملك من الملائكة: لا تخافي فإن الله جاعل من هذا الغلام الذي حملت خيراً وأمرها بالرجوع وبشرها أنها ستلد ابناً وتسميه إسماعيل. ويكون يده على كل الناس ، ويد الكل به، ويملك جميع بلاد أخوته. فشكرت الله عز وجل على ذلك.([37])
ولما رجعت هاجر وضعت إسماعيل عليه السلام([38]).
ولدته ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة([39]) فكان بكره وأول ولده
ولما ولد إسماعيل أوحى الله إلى إبراهيم يبشره فقال له: قد استجبت لك في إسماعيل وباركت عليه وكثرته ويمنته جداً كثيراً ([40]) ويولد له اثنا عشر ولدا ، ويكون رئيساً لشعب عظيم . وأدركت سارة الغيرة من هاجر وطلبت منه إخراجها واشتدت غيرة سارة على هاجر لما ولد لها إسماعيل حتى غضبت سارة على هاجر فأخرجتها وحلفت لتقطعن ثلاثة أعضاء منها، فاتخذت هاجر منطقا فشدت به وسطها وهربت وجرت ذيلها لتخفي أثرها على سارة , فأمر الخليل سارة ألا تقطع أعضائها حتى لا تشينها بل تثقب أذنيها، وتخفضها فتبر بذلك قسمها.
فكانت أول من ثقبت أذنها من النساء ، وأول من طولت ذيلها وأول من اختتن من النساء ، فمن ثم خفض النساء
وطلبت سارة من الخليل أن يغيب وجهها عنها، وقالت لا تساكنني في بلد, فأراد الله أن يفصل بينهما فأوحى الله إلى إبراهيم إن يخرج بإسماعيل وأمه إلى مكة فحملوا على البراق[41]وليس بمكة يومئذ نبت ، جاء إبراهيم بإسماعيل وأمه هاجر ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء.
لما ترك إبراهيم ولده إسماعيل وأمه هاجر بمكة وولى ظهره عنهما قامت إليه هاجر وتعلقت بثيابه، وقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ يا إبراهيم أين تذهب وتدعنا ها هنا وليس معنا ما يكفينا؟ فلما مضى نادته هاجر : يا إبراهيم من أمرك أن تتركنا بأرض ليس فيها زرع ولا ضرع ولا ماء ولا زاد ؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، ولم يجبها فلما ألحت عليه وهو لا يجيبها قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم ربي أمرني. قالت: إذن لا يضيعنا الله. ثم رجعت
فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: {رَّبَّنَآ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ (37) } (إبراهيم). حتى قوله
{ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مّنَ ٱلثَّمَرٰتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) } (إبراهيم).
وجعلت أم إسماعيل ترضع وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً. فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، فعلت ذلك سبع مرات.«فلذلك سعى الناس بينهما».
لما أشرَفَت على المروةِ سمعَت صوتاً فقالت: أغث إن كان عندَكَ خير ، فإِذا هيَ بالملَكِ جبريل عند مَوضعِ زَمزم ، فبَحَثَ بعَقِبهِ أو بجَناحهِ على الأرض , حتى ظهرَ الماءُ ، فجعَلَت تَحُوضهُ وتقول بيدِها هكذا ، وجَعلت تَغرِفُ منَ الماءِ في سِقائها وهوَ يَفورُ بعدما تَغرِفُ
يَرحَمُ الله أمَّ إسماعيلَ لو تَرَكَت زمزَم أو لو لم تَغرِف منَ الماء لكانت زمزمُ عَيناً مَعيناً[42]. فشَرِبتَ وأرضَعتْ ولَدَها فقال لها الملَكُ: لا تخافوا الضَّيعة [43]، فإِنَّ ها هنا بيتَ الله يَبني هذا الغلامُ وأبوه ، وإنَّ الله لا يُضيعُ أهلَه
واطمأنت على ابنها بهذا الخبر , أنه سوف يبني البيت هو وأبوه , فعلمت أن ابنها سيكبر ويترعرع , فهذه قصة فلق زمزم التي كانت منة من الله لهذه المرأة التي أخلصت في تفويض أمرها لله وطاعته في مقامها مع ولدها في هذا الوادي الذي لم يكن به أنيس
وكان البيتُ[44] مرتفعاً منَ الأرضِ كالرابية ، تأتيهِ السيولُ فتأخُذ عن يمينهِ وشمالهِ
وكانت هاجر تتغذي بماء زمزم فيكفيها عن الطعام والشراب , حتى مرَّت بهم رُفقة من جُرْهُم[45] , مُقبِلينَ من طريقِ كَداء ، فنزَلوا في أسفَلِ مكةَ ، فَرأوا طائراً عائفاً ، فقالوا: إِنَّ هذا الطائر لَيَدورُ على ماء ، لَعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسَلوا جَريّاً أو جَرِيَّينِ فإِذا هم بالماء ، فرَجَعوا فأخبروهم بالماءِ ، فأقبلوا وأمُّ إسماعيلَ عند الماء فقالوا: أتأذَنينَ لنا أن نَنزِلَ عندَكِ ؟ فقالت: نعم ، ولكنْ لا حقَّ لكم في الماء , قالوا: نعم. ووجدوا أن أم إسماعيل تحب الأنس فنزَلوا ، وأرسلوا إلى أهلِيهم فنزلوا معهم ، وشبَّ الغلامُ وتعلَّمَ العربيةَ منهم , ولم يكن لسان أمه وأبيه عربيا , حتى سار أفصح من جرهم بالعربية فإسماعيل أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة[46]
وكان إبراهيم عليه السلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فاران ([47]) فكان يزور إسماعيل وأمه هاجر كل شهر على البراق يغدو غدوة فيأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله بالشام لينظر في أمرهما ولما كبر إسماعيل وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه وقد شب وارتجل , وأصبح يتحمل السعي مع أبيه في أمور دنياه معينا له على أعماله
فآتهما الاختبار العظيم وكان يومئذ إسماعيل بن ثلاث عشرة سنة
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ } (الصافات: 102) أي شب وصار يسعى في مصالحه كأبيه, أي لما أطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل، رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا.
رأى إبراهيم في ليلة التروية كأن قائلا يقول إن الله يأمرك بذبح ابنك فلما أصبح روى في نفسه أي فكر أهذه رؤية من الله أم حلم من الشيطان فسمي يوم التروية[48]
فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضا وقيل له الوعد فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي يوم عرفة
و«رؤيا الأنبياء وحي» فكان هذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كبر، وقد طعن في السن، بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر، وواد ليس به حسيس ولا أنيس، ولا زرع ولا ضرع، فامتثل أمر الله في ذلك، وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلاً عليه
فجعل الله لهما فرجاً ومخرجاً، ورزقهما من حيث لا يحتسبان.
ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده ، وهو بكره ووحيده الذي ليس له غيره، أجاب ربه وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته.
وتمثل الشيطان في صورة رجل ثم أتى أم الغلام فقال أين ذهب إبراهيم بابنك قالت غدا به لبعض حاجته[49] قال فإنه لم يغد به لحاجة إنما ذهب به ليذبحه[50] قالت ولم يذبحه قال زعم أن ربه أمره بذلك قالت فقد أحسن أن يطيع ربه فيئس منها الشيطان وذهب في أثرهما فقال للغلام أين يذهب بك أبوك قال لبعض حاجته
قال إنه لا يذهب بك لحاجة ولكنه يذهب بك ليذبحك قال ولم يذبحني قال يزعم أن ربه أمره بذلك قال فو الله لئن كان الله تعالى أمره بذلك ليفعلن فيئس منه فتركه , ولحق بإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال أين تريد والله لأظن أن الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك فعرفه إبراهيم فقال إليك عني عدو الله فو الله لأمضين لأمر ربي
فلم يصب الملعون منهم شيئاً[51] ورماه إبراهيم بسبع حصيات عند جمرة العقبة حتى ذهب
ولما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض[52]
ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض
ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض
ومضى إبراهيم لأمر الله , فكانت هذه قصة رمي الجمار بمنى
وكان إبراهيم قد وجد من ابنه الجلد والصبر طاعة لله تعالى وطاعة لأبيه على صغر سنه فعرض على ولده أمر ربه ليكون أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قسراً ويذبحه قهراً فقال له : {يٰبُنَىَّ إِنّى أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } (الصافات: 102).
فبادر الغلام الحليم، فسر والده وقر عينه وهو يقول له امضي لما أمرت به وطع ربك {يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَآء ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } (الصافات: 102). وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد. قال إسماعيل لأبيه أمض لما أمرك الله من ذبحي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل
{فَلَمَّا أَسْلَمَا (103) } (الصافات: 103) استسلما وانقادا إبراهيم أمتثل أمر الله تعالى وإسماعيل طاعة لله ولأبيه أي استسلما لأمر الله وعزما على ذلك. {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي ألقاه على وجهه. وأراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده في حال ذبحه وسمى إبراهيم وكبر، وتشهد الولد للموت. وأمر إبراهيم السكين على حلق إسماعيل فلم تقطع شيئاً جعل بين السكين وبين رقبته صفيحة من نحاس[53]
فعند ذلك نودي من الله عز وجل: {أَن يٰإِبْرٰهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ (105) } (الصافات: 104، 105) أي: قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك، ومبادرتك إلى أمر ربك، وبذلك ولدك للقربان، كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالك مبذول للضيفان ولهذا قال تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَء ٱلْمُبِينُ (106) } (الصافات: 106) أي: الاختبار الظاهر البين.
من إقدمه على المكاره بصبر وشجاعة هو وابنه بالتطبيق العملي لتنفيذ أمر الله لذلك صرف الله عنه المكاره والشدائد وجعل لهما من أمرهما فرجاً ومخرجاً وكان الله قد شرع لإبراهيم ذبح ولده ثم صرفه إلى الفداء ليثيب لإبراهيم على ذبح ولده وعرفه على ذلك , وهذا هو البلاء الواضح الجلي ولم يكن في سرعة الاستسلام لهذا الذابح المتدفق رحمة على ولده بأعظم من الذبيح المستسلم لأعظم مكروه في الدنيا فكلاهما بلغا قمة الاستسلام والطاعة لربهما في أعظم اختبار كانت النتيجة بعدما ردا قلبيهما إلى الله أن رد الله إسماعيل إلى أبيه لذا نزل الفداء[54] {وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) } (الصافات: 107) أي وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه وهو كبش أبيض أعين أقرن، كان يرتع في الجنة وكان عليه عهن أحمر. هبط عليه من جبل ثبير الذي يطل على منى من الجهة الشمالية لها فذبحه بمنى ، وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه فكان مخزوناًُ حتى فدي به إسماعيل[55] وذبحه إبراهيم ففدي إسماعيل بذبح عظيم
وسن الذبح لنا من ذلك اليوم الذي سمي يوم النحر ([56])
وتسلطت طائفة من الجبارين ([57]) على لوط عليه السلام فأسروه، وأخذوا أمواله واستاقوا أنعامه فلما بلغ الخبر إبراهيم الخليل سار إليهم في ثلاثمائة وثمانية عشر رجلاً فاستنقذ لوطاً عليه السلام واسترجع أمواله، وقتل من أعداء الله ورسوله خلقاً كثيراً وهزمهم وساق في آثارهم حتى وصل إلى شمالي دمشق وعسكر بظاهرها
ثم رجع مؤيداً منصوراً إلى بلاده، وتلقاه ملوك بلاد بيت المقدس معظمين له مكرمين خاضعين، واستقر ببلاده. صلوات الله وسلامه عليه.
ثم أوحى الله إلى إبراهيم أن هذه الأرض أرض الكنعانيين التي أنت بها ، ملكتها لك ولذريتك وأمره أن يمد بصره وينظر شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وبشره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر، وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض.([58])
ووجد لوط قرى سدوم على ارتكاب الفواحش ، فدعاهم إلى الدين ، ونهاهم عن المخالفة ، فكذبوه وعتوا ، وأقام فيها داعيا إلى الله.وبالغ أهل المؤتفكة في العصيان والفاحشة ، ودعاهم لوط فكذبوه وأقام على ذلك فأرسل الله رسولا من الملائكة لإهلاكهم، فمروا على الخليل إبراهيم فلما نزلوا على إبراهيم وكان الضيف قد حبس عنه خمس عشرة ليلة حتى شق ذلك عليه , لا يأتيه أحد ليضيفه ، فلما رآهم سر بهم رأى ضيفاً لم يُضِيف مثلهم حسناً وجمالاً ، فقال : لا يخدم هؤلاء القوم أحد إلا أنا بيدي ، فخرج إلى أهله ، فجاء " بعجل سمين " وكانوا ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل ولما وردوا على الخليل كانوا على هيئة شباب حسان حسبهم أولاً أضيافاً، فعاملهم معاملة الضيوف، وشوى لهم عجلاً سميناً من خيار بقره، فلما قربه إليهم وعرض عليهم لم ير لهم همة إلى الأكل بالكلية، وذلك لأن الملائكة ليس فيهم قوة الحاجة إلى الطعام فقال لهم : ألا تأكلون ! قالوا : يا إبراهيم ، إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن ، قال : فإن لهذا ثمناً ، قالوا : وما ثمنه ؟ قال : تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره ، فنظر جبرئيل إلى ميكائيل ، فقال : حق لهذا أن يتخذه ربه خليلاً , ولعدم أكلهم نكرهم إبراهيم وأوجس منهم خيفة، ونظرت إليه سارة وقد أكرمهم وقامت هي تخدمهم وضحكت وقالت عجباً لأضيافنا ! هؤلاء إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم ، وهم لا يأكلون طعامنا ! {قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } (هود: 70) أي لندمرها عليهم.
فاستبشرت عند ذلك سارة غضباً لله عليهم، وكانت قائمة على رؤوس الأضياف كما جرت به عادة الناس من العرب وغيرهم. {فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَآء إِسْحَـٰقَ يَعْقُوبَ } (هود: 71) وبشرت الملائكة إبراهيم بذلك {فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ } أي في صرخة {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } (الذاريات: 29) أي كما يفعل النساء عند التعجب وقالت: {يٰوَيْلَتَا ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِى شَيْخًا } (هود: 72) أي كيف يلد مثلي وأنا كبيرة وعقيم أيضاً، وهذا بعلي، أي زوجي، شيخاً؟ تعجبت من وجود ولد والحالة هذه. ولهذا قالت: {إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْء عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَـٰتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) } (هود: 72 ـــ 73). وبشر إبراهيم {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَـٰمٍ عَلَيمٍ (28)} (الذاريات)، ([59]) وتعجب عليه السلام استبشاراً بهذه البشارة وتثبيتاً لها وفرحاً بها {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَىٰ أَن مَّسَّنِىَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَـٰكَ بِٱلْحَقّ فَلاَ تَكُن مّنَ ٱلْقَـٰنِطِينَ (55) } (الحجر: 54، 55) أكدوا الخبر بهذه البشارة وقرروه معه، فبشروهما {بِغُلَـٰمٍ عَلِيمٍ } (الحجر: 53)؛ وهو إسحاق أخو إسماعيل. ولما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى بإسحاق ويعقوب ولد من صلب إسحاق وأمن ما كان يخاف فقال : " الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء " .
فقال الله تعالى لإبراهيم: إن امرأتك سارة أبارك عليها فتلد لك غلاماً وتدعو اسمه إسحاق إلى مثل هذا الحين من قابل، وأوثقه ميثاقي إلى الدهر ولخلفه من بعده وأباركه ويكون الشعوب وملوك الشعوب منه. فخر إبراهيم على وجهه يعني ساجداً وضحك قائلاً في نفسه: أبعد مائة سنة يولد لي غلام؟ أو سارة تلد وقد أتت عليها تسعون سنة؟([60])
وقال إبراهيم لله تعالى: ليت إسماعيل يعيش. فقال الله لإبراهيم:قد استجبت لك في إسماعيل وباركت عليه وكثرته ونميته جداً كثيراً، ويولد له اثنا عشر عظيماً وأجعله لشعب عظيم.
وأخبرت الملائكة إبراهيم بما جاءوا له من الأمر الجسيم والخطب العميم لما قال لهم { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ (31) قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ (33) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) } (الذاريات: 31 ـــ 34) {وَلَمَّا جَآءتْ رُسُلُنَآ إِبْرٰهِيمَ بِٱلْبُشْرَىٰ قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَـٰلِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ (32) } (العنكبوت).
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرٰهِيمَ ٱلرَّوْعُ وَجَآءتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ يُجَـٰدِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ (74) } (هود: 74). وذلك أنه كان يرجو أن يجيبوا أو ينيبوا ويسلموا ويقلعوا ويرجعوا، لهذا قال تعالى: {إِنَّ إِبْرٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يإِبْرٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآء أَمْرُ رَبّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) } (هود: 75 ـــ 76) أي أعرض عن هذا وتكلم في غيره؛ فإنه قد حتم أمرهم، ووجب عذابهم وتدميرهم وهلاكهم، {إِنَّهُ قَدْ جَآء أَمْرُ رَبّكَ } أي قد أمر به من لا يرد أمره. ولا يرد بأسه، ولا معقب لحكمه. {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ }.
إن إبراهيم عليه السلام جعل يقول: أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن قالوا: لا، قال: فمائتا مؤمن؟ قالوا: لا. قال: فأربعون مؤمناً؟ قالوا: لا. قال: فأربعة عشر مؤمناً؟ قالوا: لا. إلى أن قال: أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد؟ قالوا: لا. {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا } (العنكبوت: 32) الآية.([61])
وفصلت الملائكة من عند إبراهيم وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل خرجوا نحو قرية لوط حتى أتوا أرض سدوم وتقدمت الملائكة إلى لوط عليه السلام، آمرين له بأن يسري هو وأهله من آخر الليل. وقالوا له {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } (هود: 81) أي فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم. وامرأة لوط اسمها «والهة»
وقالوا{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } (هود: 81).
فلما خرج لوط عليه السلام بأهله، وهم ابنتاه، لم يتبعه منهم رجل واحد، وامرأته خرجت معه.
فلما خلصوا من بلادهم وطلعت الشمس فكانت عند شروقها، جاءهم من أمر الله ما لا يرد، ومن البأس الشديد ما لا يمكن أن يصد.
{ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ (38) } (القمر: 37
فطهر الله لوط وأهله إلا امرأته وأخرجهم من القرية أحسن اخراج،
فأهلك الله المؤتكفة ونجى لوطاً ولحق بأرض فلسطين، فكان بها مع عمه إبراهيم عليهما السلام ([62])
وولدت سارة إسحق ، وكان إبراهيم يعتاد إسمعيل لزيارته وكان يستأذن سارة في ذلك وأنها شرطت عليه أن لا يقيم عندهم ([63])
إسماعيل وزواجه بعد وفاة أمه هاجر
وكان إسماعيل قد شب مع أبناء جرهم , فأنفَسَهُم وأعجبَهم حينَ شَبَّ ، فلما أدركَ زوَّجوهُ امرأة منهم. وماتَت هاجر أمُّ إِسماعيل ، فجاء إبراهيمُ بعدَما تَزوَّجَ إسماعيلُ يُطالِعُ تَرِكتَهُ ، فلم يَجد إسماعيل ، فسألَ امرأتَهُ ([64]) عنه فقالت: خرَجَ يَبتغي لنا وكان إسماعيل يخرج يتصيد ثم يرجع وكان أول من ركب الخيل وكانت قبل ذلك وحوشاً فأنسها وركبها ([65])
وسألها إبراهيم عن عَيشِهم وهَيْئِتهم وقال هل عندك ضيافة فقالت: ليس عندي ضيافة نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة ، فشكت إليه جهدا فقالت: أما الطعام فلا طعام ، وأما الشاة فلا تحلب إلا الشخب وأما الماء فعلى ما ترى من الغلظ
قال: فإِذا جاءَ زوجُكِ فاقرَئي عليهِ السلام وقولي لهُ يَغَيِّرُ عَتبةَ بابه. فلما جاء إسماعيلُ كأنهُ آنس شيئاً فقال: هل جاءكم من أحد ؟ قالت: نعم، جاءنا شيخٌ كذا وكذا كالمستخفة بشأنه ، فسأَلَنا عنك فأخبرتُه ، وسألني كيف عَيشُنا ، فأخبرتهُ أنا في جهدٍ وشِدَّة. قال: فهل أوصاك بشيء ؟ قالت: نعم ، أمرَني أن أقرَأ عليكَ السلام ، ويقول: غَيِّر عتبةَ بابك. قال: ذاكِ أبي ، قد أمرَني أن أُفارِقَكِ ، الحَقِي بأهلِكِ ، فطلَّقَها ، وتزوجَ منهم أخرَى ([66])، فلَبِثَ عنهم إبراهيمُ ما شاءَ الله ، ثم أتاهم بعدُ فلم يَجِدْه ، فدخَلَ على امرأته فسألها عنه فقالت: خرَجَ يَبتغِي لنا. ذهب ليتصيد وهو يجيء الآن إن شاء الله تعالى ، فانزل يرحمك الله . فقال لها: كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشِهم وهَيئِتهم فقالت: نحن بخيرٍ وسَعَة ، وأثنَتْ على الله. فقال: ما طعامُكم ؟ قالتِ: اللحمُ. قال فما شرابُكم ؟ قالتِ: الماء. قال: اللّهمَّ بارك لهم في اللحم والماء.
ولم يكن لهم يومَئذٍ حبّ ، ولو كان لهم لدعا لهم فيه، فهما لا يَخْلو عليهما أحدٌ بغيرِ مكةَ إلا لم يُوافِقاهُ. قال: فإِذا جاءَ زوجُكِ اقرَئي عليهِ السلام، ومُريهِ يُثبتُ عتبةَ بابه. فلما جاءَ إسماعيلُ قال: هل أتاكم مِن أحد ؟ قالت: نعم، أتانا شيخُ حَسنُ الهيئِة وأثنَتْ عليه فسألني عنكَ فأخبَرْتهُ ، فسألني كيف عيشُنا فأخبرتهُ أنّا بخيرٍ. قال: فأوصاكِ بشيءٍ قالت: نعم ، هو يقرأُ عليكَ السلامَ ، ويأمُرُكَ أن تُثبِتَ عتبةَ بابِك. قال: ذاكِ أبي ، وأنتِ العتبةَ ، أمَرَني أن أمسِكَكِ. ثم لَبِثَ عنهم ما شاءَ الله
وأمر الله إبراهيم بعد ولادة إسحق ببناء بيت يعبد فيه ويذكر ، ولم يعرف مكانه وبعث معه جبريل لذلك حتى أراه الموضع
جاء إبراهيم بعدَ ذلك وإسماعيلُ يَبري نَبْلاً له تحتَ دَوحةٍ قريباً منَ زَمزَمَ ، فلمّا رآهُ قام إليه ، فصَنَعا كما يَصنَعُ الوالدُ بالوَلَد والوَلَدُ بالوالد. ثم قال: يا إسماعيلُ ، إن الله أمَرَني بأمر. قال: فاصْنَعْ ما أمَرَكَ ربُّك. قال: وتُعِينُني ؟ قال: وأعِينكُ
وأرشد الله تعالى إبراهيم مكان البيت ([67]) { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْت} [ الحج 26 ] وأشارَ إبراهيم إلى أكمة مُرتفعةٍ , وقال فإن الله أمَرَني أن أبِنيَ ها هنا بيتاً , وبعث الله ريحاً فكشف لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول الذي بناه آدم لما أمره ربه لما هبط من الجنة وقال له يا آدم اذهب فابني ليّ بيتاً وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي وضرب جبريل بجناحه الأرض فأبرز لآدم عن أس ثابت بالأرض السابعة السفلى وقذفت إليه الملائكة الصخر وبناه وكان يطوف به والمؤمنين من ولده إلى زمن الطوفان من الغرق فرفع الله البيت وبوأ مكانه لإبراهيم ورفع إبراهيم هذه الأسس قال تعالى { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } [البقرة: 127 ] فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ونزل جبريل بالحجر الأسود إلى إبراهيم فوضعه في مكانه الذي عليه وارتفع البناء وجاء إسماعيل بحجر المقام ووضعه لأبيه فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ولم يعينهما أحد في البناء رغم وجود قبيلة جرهم , فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [البقرة: 127 ] هذا هو الأصل في الطواف بالبيت[68]
فأعادا بناء الكعبة أول بيت وضع للبركة والهدى لعموم الناس بمكة.{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَـٰلَمِينَ (96) } (آل عمران: 97)
وأمر الله إبراهيم إن ينادي في الناس فقال تعالى
{ وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً } [الحج 27]
ناد في الناس بالحج داعيا لهم إلى حج هذا البيت الذي أمرناك ببنائه قال يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم , من يسمعني , قال أنت تنادي وعلينا البلاغ فقام على مقامه وصاح فقال يا أيها الناس كتب الله عليكم الحج ليثيبكم الجنة ويجيركم من عذاب النار وإن ربكم قد إتخذ بيتا فحجوه فتواضعت الجبال أرجاء الأرض حتى تحمل الريح هذا الصوت في كل مكان فأسمع الله من في أرحام النساء وأصلاب الرجال فأجابه كل من آمن ومن كان سبق في علم الله وكتب أنه يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك , ومن أجاب يومئذ مرة حج مرة ومن أجاب مرتين فمرتين([69]) وهذا أصل التلبية في أداء الحج
وهكذا كان لإبراهيم ولآل إبراهيم من محبة الله وعبادته والإيمان به وطاعته ما لم يكن لغيرهم فخصهم الله بأن جعل لبيته الذي بنوه له خصائص لا توجد لغيره وجعل ما جعله من أفعالهم قدوة للناس وعبادة يتبعونهم فيها في السعي ورمي الجمار والذبح والطواف والقبلة[70]
وسكن إسماعيل بمكة مع أبناء جرهم بعد أن تزوج منهم وتعلم لغتهم وتكلم بها وصار أبا لمن بعده من أجيال العرب ، وبعثه الله إلى جرهم والعمالقة الذين كانوا بمكة ، وإلى أهل اليمن فآمن بعض وكفر بعض قال تعالى: {وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ إِسْمَـٰعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَـٰدِقَ ٱلْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِٱلصَّـلَوٰةِ وَٱلزَّكَـوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً (55) } (مريم) ([71])
وخلف ولده بين جرهم وكانوا اثنتي عشر أكبرهم نبت ، ثم قيذار وأدبيل وبسام ومشمع وذوما ومسار وحراه وقيما وبطور ونافس وأن شيعته سكنوا من حويلا وهي جنوب برقة إلى شور وهي أرض الحجاز قبالة مصر من مدخل أثور وأثور بلاد الموصل والجزيرة ، وسكنوا على حذر شيع إخوته .
وأقام ولده بمكة مع أخوالهم جرهم حتى تشعبوا وكثر نسلهم وتعددت بطونهم من عدنان في عداد معد ، ثم بطون معد في ربيعة ومضر وإياد وأنمار بني نزار بن معد ، فضاقت بهم مكة ، فكانت بطون عدنان هذه كلها من ولد إسمعيل لابنه نابت وقيذار، ولم يذكر نسلاً من ولده الآخرين ، وتشعبت من إسمعيل أيضاً بطون قحطان كلها فيكون على هذا أبا لجميع العرب بعده .
ذكر ما امتحن به الله عبده إبراهيم عليه السلام
امتحن الله إبراهيم عليه السلام وابتلاه بأمور منها ما كان من أمر النمرود بن كوش, وابتلاه الله أيضاً بكلمات هي شرائع الإسلام التي أخبر أنه ابتلاه بهن فقال تعالى:{وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} (البقرة 124)لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم لذا أثنى عليه الله بقوله { وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ }(النجم 37) والكلمات هي عشرة في براءة ، وهي : { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ (112)} الآية ، وعشر في الأحزاب ، وهي { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْقَانِتَاتِ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلصَّادِقَاتِ وَٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّابِرَاتِ وَٱلْخَاشِعِينَ وَٱلْخَاشِعَاتِ وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَٱلْمُتَصَدِّقَاتِ وٱلصَّائِمِينَ وٱلصَّائِمَاتِ وَٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَافِـظَاتِ وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)} الآية ، وعشر في المؤمنين من أولها إلى قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ * ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}
وابتلاه بالطهارة : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد , في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق شعر الرأس ، وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط وأثر البول.وفي الكواكب والقمر والشمس, والنار والهجرة والختان ([72]) ، وذبح ولده بعد أن بلغ معه السعى ورجا نفعه ومعونته, ابتلاه الله بكل ذلك فعرف أن ربه دائم لا يزول فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض وهاجر من وطنه ورفع القواعد من البيت ، ومناسك الحج . ولذا قال فيه تعالى : { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً }( البقرة 124)
فلما عرف الله تعالى من إبراهيم الصبر على كل ما ابتلاه به ، والقيام بكل ما ألزمه من فرائضه ، وإيثاره طاعته على كل شيء سواها ، اتخذه خليلا ، وجعله لمن بعده من خلقه إماماً ، واصطفاه إلى خلقه رسولا ، وجعل في ذريته النبوة والكتاب والرسالة ، وخصهم بالكتب المنزلة ، والحكم البالغة ، وجعل منهم الأعلام والقادة والرؤساء والسادة ، كلما مضى منهم نجيب خلفه سيد رفيع ، وأبقى لهم ذكراً في الآخرين ، فالأمم كلها تتولاه وتثني عليه ، وتقول بفضله إكراماً من الله له بذلك في الدنيا، وما ادخر له في الآخرة من الكرامة أجل وأعظم من أن يحيط به وصف واصف .
الصحائف التي أنزلت على إبراهيم
أنزل الله على إبراهيم عشر صحائف كانت أمثالاً ([73]) كلها ومنها: أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر
ومن هذه الأمثال: على العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات ، ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يفكر فيها في صنع الله وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال في المطعم والمشرب . ومنها على العاقل أن يكون بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شأنه ، حافظاً للسانه ، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه
وكان إبراهيم عليه السلام قد عهد لابنه إسحق أن لا يتزوج في الكنعانيين ، وأكد العهد والوصية بذلك لمولاه القائم على أموره ، ثم بعث إبراهيم عليه السلام مولاه إلى حران مهاجرهم الأول ليخطب إبراهيم من ابن أخيه بتويل بن ناحور بن آزر بنته رفقا لإسحاق بن إبراهيم فزوجها أبوها بتويل واحتملها أبوها ومن معها من الجواري على الإبل وجاء بها إلى إسحق فتزوجها ، وولدت له عيصو ([74]) ويعقوب توأمين وأقام إسحق بمكانه في فلسطين ، وعمر وعمي بعد الكثير من عمره
ثم توفيت سارة لمائة وسبع وعشرين من عمرها ، فحزن عليها إبراهيم عليه السلام، ورثاها رحمها الله، وذلك بقرية الجبابرة والتي هي قرية جيرون ([75]) من بلاد بني حبيب الكنعانيين ، فطلب إبراهيم منهم مقبرة لها ، فوهبه عفرون بن صخر مغارة كانت في مزرعته ، فامتنع من قبولها إلا بالثمن ، فأجاب إلى ذلك ، وأعطاه إبراهيم أربعمائة مثقال فضة ودفن فيها سارة.
أولاد إبراهيم من زوجتيه بعد سارة
لم يتزوج إبراهيم في حياة سارة وفاءًً منه لها ومراعاة لشعورها فقد كان يحبها لدينها فهي أول من آمن به وبعد وفاة سارة تزوج إبراهيم امرأتين من العرب قنطورا بنت مقطور من العرب العاربة ([76]) فولدت له ستة من الولد وهم زمران يقشان مدان مدين أشبق شوخ . وولد لابنه يقشان سبا ودذان وجبل البربر ، وولد لدذان أشور. وولد مدين عيفا وعيفين وحنوخ وأفيداع وألزاعا هذا آخر ولده من قنطورا وكان لإبراهيم عليه السلام أولاد آخرون خمسة من امرأة اسمها حجون بنت أزهيب، وهم كبسان وفروخ وأميم ولوطان ونافس
فولد إبراهيم على هذا ثلاثة عشر : فإسمعيل من هاجر ، وإسحق من سارة ، وستة من قنطورا، والخمسة من حجون
فأما يقسان فلحق بنوه بمكة، وأقام مدن ومدين ([77]) بأرض مدين ، فسميت به، ومضى سائرهم في البلاد وقالوا لإبراهيم يا أبانا أنزلت إسماعيل وإسحاق ([78]) معك، وأمرتنا أن ننزل أرض الغربة والوحشة ! فقال بذلك أمرت ، فعلمهم اسماً من أسماء الله تبارك وتعالى ، فكانوا يستسقون به ويستنصرون ، فمنهم من نزل خراسان ، فجاءتهم الخزر فقالوا ينبغي للذي علمكم هذا أن يكون خير أهل الأرض ، أو ملك الأرض، فسموا ملوكهم خاقان .
نكح يقسان بن إبراهيم رعوة بنت زمر بن يقطن بن لوذان بن جرهم بن يقطن بن عابر ، فولدت له البربر. وولد زمران بن إبراهيم المزامير الذين لا يعقلون وأما مدين بن إبراهيم فتزوج بابنة لوط وجعل الله في نسلها البركة ، فكان منهم مدين أمة كبيرة ذات بطون وشعوب ، وكانوا من أكبر قبائل الشام وأكثرهم عددا ، وكانت مواطنهم تجاور معان من أطراف الشام مما يلي الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط
لما أراد الله قبض روح إبراهيم أرسل إليه ملك الموت في صورة شيخ هرم ، فرآه إبراهيم وهو يطعم الناس وهو شيخ كبير في الحر ، فبعث إليه بحمار فركبه حتى أتاه ، فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها فاه فيدخلها في عينه وأذنه ثم يدخلها فاه ، فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره ، وكان إبراهيم سأل ربه أن لا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت ، فقال : يا شيخ مالك تصنع هذا ؟ قال : يا إبراهيم الكبر . قال : ابن كم أنت ؟ فزاد على عمر إبراهيم سنتين . فقال إبراهيم : إنما بيني وبين أن أصير هكذا سنتان ، اللهم اقبضني إليك ! فقام الشيخ وقبض روحه ومات وهو ابن مائة وخمس وسبعون سنة
وتوفى إبراهيم صلوات الله عليه بمكان هجرته من أرض كنعان، ودفن ([79]) في المغارة المذكورة التي كانت بحبرون ([80]) في مزرعة عفرون الحيثى التي اشتراها إبراهيم عند امرأته سارة وتولى دفنه إسماعيل وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ثم جعل الله في ذريته النبوة والكتاب إلى آخر الدهر { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)} النساء { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ (120)} النحل { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} التوبة
وجعل الله تعالى إبراهيم إماماً للناس يقتدون به ويأتمون بهديه. { إِنّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ (124) } (البقرة: 124) سأل الله أن تكون هذه الإمامة متصلة بسببه، وباقية في نسبه، وخالدة في عقبه، فأجيب إلى ما سأل ورام، وسلمت إليه الإمامة بزمام، واستثنى من نيلها الظالمون، واختص لها من ذريته العلماء العاملون. قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَـٰبَ وَءاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِى ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى لاْخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ (27) } (العنكبوت: 27). وقال تعالى: {وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ (85) وَإِسْمَـٰعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ (86) وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّـٰتِهِمْ وَإِخْوٰنِهِمْ وَٱجْتَبَيْنَـٰهُمْ وَهَدَيْنَـٰهُمْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87) } (الأنعام: 84 ـــ 87)ولوط وإن كان ابن أخيه إلا أنه دخل في الذرية تغليباً
فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الأنبياء بعد إبراهيم الخليل، فمن ذريته وشيعته.
وهذه خلعة سنية لا تضاهى، ومرتبة علية لا تباهى. وذلك أنه ولد له لصلبه ولدان ذكران عظيمان: إسماعيل ثم إسحاق وولد له يعقوب الذي ينتسب إليه سائر أسباطهم، فكانت فيهم النبوة، وكثروا جداً، بحيث لا يعلم عددهم إلا الذي بعثهم، واختصهم بالرسالة والنبوة، حتى ختموا بعيسى ابن مريم من بني إسرائيل
وأما إبنه إسماعيل عليه السلام، فكانت منه العرب على اختلاف قبائلها، ولم يوجد من سلالته من الأنبياء سوى خاتمهم على الإطلاق، وسيدهم، وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي، المكي ثم المدني. صلوات الله وسلامه عليه.
فلم يوجد من هذا الفرع الشريف والغصن المنيف سوى هذه الجوهرة الباهرة، والدرة الزاهرة، وواسطة العقد الفاخرة، وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجمع، ويغبطه الأولون والآخرون يوم القيامة. كما قال: {سأقوم مقاماً يرغب إليَّ الخلق كلهم حتى إبراهيم}([81])
وأمرنا أن نصلي ونبارك على إبراهيم وعلى نبينا في كل صلاة نصليها {اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد}([82])
ونختم بقوله تعالى :
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (111)} يوسف
[1] وقيل اسمها بونا بنت كرينا بن كوثي ، من بني أرفخشذ بن سام بن نوح و نهر كوثى كراه كرينا جد إبراهيم من قبل أمه ، وكان أبو إبراهيم على أصنام الملك نمرود
[2] قيل لم يمكث إبراهيم عليه السلام في المغارة إلا خمسة عشراً شهراً
[3] لإبراهيم عليه السلام من أقربائه اثنان كل منهما اسمه هاران, أحدهما هاران أخوه أبو لوط وقد مات في حياة آزار في بابل التي ولد بها , والثاني هو هاران أبو كلاً من سارة زوجة إبراهيم وأختها ملكاً زوجة ناحور أخو إبراهيم وهاران هذا هو عم إبراهيم أخو أبيه آزر الذي بنى مدينة حران التي تنسب إليه وكان ملك على حران
[4] قيل حدث ذلك من إبراهيم عليه السلام لما قال لنمروذ {رَبّيَ ٱلَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ } أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك، إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة، فقال {رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ لَّمْ تُؤْمِنُواْ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } ولكن حدوثه في هذا الموضع أرجح لآن فيه زيادة يقين وهو يدعوا إلى ربه لهذا اليقين جعله يناظر بها النمرود
[5] يتبين من طلبهاجواز أشتراط المرأة عند عقد النكاح
[6] قيل كان آزر يصنع الأصنام التي يعبدونها ويعطيها إبراهيم ليبيعها ، فكان إبراهيم يقول : من يشتري ما لا يضره وما لا ينفعه ؟ فلا يشتريها منه أحد ، وكان يأخذها وينطلق بها إلى نهر فيصوب رؤوسها فيه ويقول : اشربي ! استهزاء بقومه . حتى فشا ذلك عنه في قومه ، غير أنه لم يبلغ خبره نمرود . فلما بدا لإبراهيم أن يدعو قومه إلى ترك ما هم عليه ويأمرهم بعبادة الله تعالى دعا أباه إلى التوحيد فلم يجبه ، و دعا قومه فقالوا : من تعبد أنت ؟ قال : رب العالمين . قالوا : نمرود ؟ قال : بل أعبد الذي خلقني . فظهر أمره . و بلغ نمرود أن إبراهيم أراد أن يري قومه ضعف الأصنام التي يعبدونها ليلزمهم الحجة ، فجعل يتوقع فرصة ينتهي بها ليفعل بأصنامهم ذلك ، فنظر نظرة في النجوم فقال : إني سقيم ، أي طعين ، ليهربوا منه إذا سمعوا به ، و إنما يريد إبراهيم ليخرجوا عنه ليبلغ من أصنامهم . و كان لهم عيد يخرجون إليه جميعهم . فلما خرجوا قال هذه المقالة فلم يخرج معهم إلى العيد و خالف إلى أصنامهم و هو يقول : " وتالله لأكيدن أصنامكم " فسمعه ضعفى الناس و من هو في آخرهم ، و رجع إلى الأصنام و هي في بهو عظيم بعضها إلى جنب بعض لكل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو و إذا هم قد جعلوا طعاماً بين يدي آلهتهم و قالوا : نترك الآلهة إلى حين نرجع فتأكله . فلما نظر إبراهيم إلى ما بين أيديهم من الطعام قال : " ألا تأكلون " فلما لم يجبه أحد قال : " ما لكم لا تنطقون * فراغ عليهم ضربا باليمين " ، فكسرها بفأس في يده حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده ثم تركهن
[7] وقيل بلغ ذلك الملك نمرود فحبسه في السجن سبع سنين
[8] مكان واسع كالحظيرة الشاسعة
[9] فكرة المنجنيق هي فكرة قذف الأشياء ودفعها وهي الأن أصل قذف الطلقات النارية والصواريخ
[10] وضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة والخلائق إلا الثقلين والدواب والشجر والحجر وغيرها من المخلوقات ضجوا ضجة واحدة ربنا إبراهيم يحرق فأذن لنا في نصرته إلا الوزغ
فعن سمامة مولاة الفاكه بن المغيرة ، قالت : دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحاً موضوعاً ، فقلت : يا أم المؤمنين . . ما تصنعين بهذا الرمح ؟ قالت : هذا لهذه الأوزاغ نقتلهن به ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا : " أن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة ألا تطفى عنه النار ، غير الوزغ كان ينفخ عليه ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله " انظر رواية البخاري 3359
[11] وأنت بعد معرفتك لهذا الجزء من قصة إبراهيم عليه السلام الذي كان منذ نشأته حجة على أعداء الله يقارع فكرهم الباطل بفكره الحجة وكان على صغر سنه بمفرده
فأنت أين أنت من إبراهيم ؟ هل أنت ممن على شاكلة أبراهيم تنصر دين الل بكل ما أوتيت من علم
فأياك ثم أياك أن تكون من هولاء الذين جعلوا أنفسهم أداة لأعداء الله يضريبون بها دينه وأهله فاحذر منهم وأحذر من هؤلاء الذين يسيئون إلى الدين والمتمسكين بالدين الذين بدلاً من أن يكون فكرهم حجة للدين وخدمة له يكون فكرهم نقمة على الدين
[12] وقيل لم يجتمع ملك الأرض ولم يجتمع الناس على ملك واحد إلا على ثلاثة ملوك : نمرود ، وذي القرنين ، وسليمان بن داود
[13] و عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : أمر الذي حاج إبراهيم في ربه بإبراهيم فأخرج ـ يعني من مدينته ـ قال : فأخرج فلقي لوطاً على باب المدينة ـ و هو ابن اخيه ـ فدعا فآمن به ، و قال : " إني مهاجر إلى ربي " ، و حلف نمرود أن يطلب إله إبراهيم ، فأخذ أفراخ من أفراخ النسور ، فرباهن باللحم و الخمر ، حتى إذا كبرن و غلظن و استعجلن ، قرنهن بتابوت ، و قعد في ذلك التابوت ، ثم رفع رجلاً من لحم لهن ، فطرن به ، حتى إذا ذهبن في السماء أشرف ينظر إلى الأرض ، فرأى الجبال تدب كدبيب النمل ، ثم رفع لهن اللحم ، ثم نظر فرأى الأرض محيطاً بها بحر كأنها فلكة في ماء ، ثم رفع طويلاً فوقع في ظلمة ، فلم ير ما فوقه و لم ير ما تحته ، ففزع فألقى اللحم فاتبعته منقضات ، فلما نظرت الجبال إليهن و قد أقبلنا منقضات و سمعت حفيفهن فزعت الجبال ، و كادت أن تزول من أمكنتها و لم يفعلن ، و ذلك قوله عز و جل : " و قد مكروا مكرهم و عند الله مكرهم و إن كان مكرهم لتزول منه الجبال " ، و هي في قراءة ابن مسعود : [ و إن كاد مكرهم ] فكان طيرانهن به من بيت المقدس ، و وقوعهن في جبل الدخان ، فلما رأى أنه لا يطيق شيئاً أخذ في بناء الصرح ، فبنى حتى إذا أسنده إلى السماء ارتقى فوقه ينظر ـ بزعمه ـ إلى إله إبراهيم ، فأحدث و لم يكن يحدث ، و أخذ الله بيانه من القواعد : " فخر عليهم السقف من فوقهم و أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون " ، يقول : من مأمنهم ، و أخذهم من أساس الصرح ، فتنقض بهم . ثم سقط فتبلبلت ألسن الناس من يومئذ الفزع ، فتكلموا بثلاثة و سبعين و لساناً ، فلذلك سميت بابل ، و إنما كان لسان الناس قبل ذلك السريانية .
[14] عن ابن عباس ، قال : لما هرب إبراهيم من كوثى ، وخرج من النار ولسانه يومئذ سرياني ، فلما عبر الفرات من حران غير الله لسانه فقيل : عبراني ، أي حيث عبر الفرات ، وبعث نمرود في أثره ، وقال : لا تدعوا أحداً يتكلم بالسريانية إلا جئتموني به ، فلقوا إبراهيم عليه السلام فتكلم بالعبرانية ، فتركوه ولم يعرفوا لغته
[15] أرض كنعان هي أرض الشام وتنسب إلى كنعان بن كوش بن حام بن نوح أول من ملك الأرض من ولد نوح ، وسار من أرض كنعان بالشام إلى أرض بابل فبنى مدينة بابل وورث ملكه ابنه النمرود بن كنعان وكان الكنعانين على دين الصائبة الذين يعبدون الكواكب
[16] حران تنسب إلى ملكها هران عم إبراهيم أبو سارة فهو الذي بنى حران وهي أرض دمشق ومن حولها من أرض الكنعانين
[17] فأقام بها تارخ حتى مات بها وله مائتان وخمسون سنة .
[18] الكلدانيون كانوا لا يأخذون بدين الصابئة وخالفوا النمرود على أعتناقه لدين الصائبة الذي أدخل عليهم بعد بناء بابل وخرج الكلدانيون مع عابر بن حفيد سام بن نوح منكرين عليه لعبادة الهياكل فغلبهم نمروذ وبين هذه الواقعة وبي ولادة إبراهيم خمس أباء وبنى النمرود الصرح
[19] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني ؟ فيقول له أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : يارب . . إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزي من أبي الأبعد ؟ فيقول الله : إني حرمت الجنة على الكافرين . ثم يقال : يا إبراهيم . . ما تحت رجليك ؟ فينظل فإذا هو بذبح متلطخ . فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار " . هكذا رواه البخاري 3350 في قصة إبراهيم منفرداً
[20] وكان الخليل عليه السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور ، وأبطل به ذاك الضلال
[21] ناحور أخو إبراهيم عليه السلام الذي هاجر مع إبراهيم عليه السلام من بابل إلى حران ، ثم إلى الأرض المقدسة ، فكان معه هنالك ، وكانت زوجته ملكا بنت هاران أخت سارة زوج إبراهيم عليه السلام وكان لناحور من ملكا ثمانية من الولد عوص وبوص وقمويل وهو أبو الأرمن ، وكاس عاش في الكلدانيون الذين كان منهم بختنصر وملوك بابل ، وحذر وبلداس وبلداف ويثويل . وكان له من سرية اسمها أدوما أربعة من الولد وهم طالج وكاحم وتاخش وماعخا . هؤلاء ولد ناحور أخي إبراهيم وهم اثنا عشر ولدا ، وهؤلاء كلهم بادوا وانقرضوا ، ولم يبق منهم إلا الأرمن من قمويل بن ناحورا أخي إبراهيم عليه السلام ابن آزر ومواطنهم في أرمينية شرقي القسطنطينية و هو أبو بتويل ، و بتويل أبو لابان و أبو ربقا امرأة إسحاق بن إبراهيم أم يعقوب ، ولابان أبو ليا و راحيل زوجتي يعقوب .
[22]قيل احتاج إبراهيم عليه السلام وقد كان له صديق يأتيه ويعطيه فقالت له سارة : لو أتيت خلتك فأصبت لنا منه طعاماً ! فركب حماراً له ثم أتاه ، فلما أتاه تغيب منه ، واستحيا إبراهيم أن يرجع إلى أهله خائباً ، فمر على بطحاء ، فملأ منها خرجه ، ثم أرسل الحمار إلى أهله ، فأقبل الحمار وعليه حنطة جيدة ، ونام إبراهيم عليه السلام فاستيقظ ، وجاء إلى أهله ، فوجد سارة قد جعلت له طعاماً ، فقالت : ألا تأكل ؟ فقال : وهل من شيء ؟ فقالت : نعم من الحنطة التي جئت بها من عند خليلك ، فقال : صدقت من عند خليلي جئت بها ، فزرعها فنبتت له ، وزكا زرعه وهلكت زروع الناس ، فكان أصل ماله منها ، فكان الناس يأتونه فيسألونه فيقول : من قال : لا إله إلا الله فليدخل فليأخذ ، فمنهم من قال فأخذ ، ومنهم من أبي فرجع ، وذلك قوله تعالى : " فمنهم من آمن به و منهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيراً "
,[23]قيل أن فرعون مصر هذا كان أخاً للضحاك الملك المشهور بالظلم، وكان عاملاً لأخيه على مصر، ويقال كان اسمه سنان علوان بن عبيد بن عويج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح.
[24] مسلم , وعند أبي يعلى ’’ أعطي يوسف وأمه شطر الحسن يعني سارة‘‘
[25] ابن حجر في الفتح 3/451 نقله من كتاب التيجان
[26] قال رسول الله : {لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: قوله حين دعي إلى آلهتهم، فقال: «إني سقيم ، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا ، وقوله عن سارة: إنها أختي } ثلاث كذبات كلهن في الله, أنظر البخاري 3358 ورسالة علاج الكذب بتحري الصدق للمؤلف ص 17
[27] ذكر ابن حجر في الفتح في قوله: (ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك) يشكل عليه كون لوط كان معه كما قال تعالى: (فآمن له لوط) ، ويمكن أن يجاب بأن مراده بالأرض الأرض التي وقع له فيها ما وقع ولم يكن معه لوط إذ ذاك،
[28] مسلم 15/123
[29] ابن حجر في الفتح 3/453
[30] ابن حجر في الفتح 3/453
[31] مسلم
[32] ابن حجر في الفتح 3/453
[33] كما جاء عند البخاري 3358
[34] ابن حجر ذكر من كتاب التيجان أن الملك لما ’’أمر بإدخال إبراهيم وسارة عليه ثم نحى إبراهيم إلى خارج القصر وقام إلى سارة، فجعل الله القصر لإبراهيم كالقارورة الصافية فصار يراهما ويسمع كلامهما‘‘ الفتح 3/454
[35] كان سام بن نوح قد نزل بشرقي نهر الدجلة ، وكان وصي أبيه في الدين والتوحيد ، وورث ذلك ابنه أرفشخذ ، ومعنى أرفخشذ مصباح مضيء ، فاشتغل بالعبادة ودعاه الكلدانيون إلى القيام بالتوحيد فامتنع . ثم قام من بعده ابنه شالخ وعاش طويلاً وقام من بعده ابنه عابر كذلك وخرج مع الكلدانيين على النمروذ منكراً لعبادة الهياكل ، فغلبه نمروذ وأخرجه من كوثا ، فلحق هو ومن معه من الخلفاء بمدينة المجدل بين الفرات ودجلة . وعابر هذا هو أبو العبرانيين الذين تكلموا بالعبرانية ، واستفحل ملكه بالمجدل فعابر ابن لحفيد سام بن نوح ويكون الأب السادس لإبراهيم عليه السلام
[36] وأول من رأى الشيب
[37] وهذه البشارة إنما انطبقت على ولده محمد صلوات الله وسلامه عليه؛ فإنه الذي به سادت العرب، وملكت جميع البلاد غرباً وشرقاً، وآتاها الله من العلم النافع والعمل الصالح ما لم تؤت أمة من الأمم قبلهم، وما ذاك إلا بشرف رسولها على سائر الرسل، وبركة رسالته ويمن بشارته وكماله فيما جاء به، وعموم بعثته لجميع أهل الأرض.
[38] و لهذا قال النبي ، صلى الله عليه و سلم : " إذا استفتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيراً ، فإن لهم ذمة و رحماً " ، يعني ولادة هاجر .
[39] قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة.
[40] وفي البشرة ، ويولد له اثنا عشر عظيماً، وأجعله رئيساً لشعب عظيم.
وهذه أيضاً بشارة بهذه الأمة العظيمة، وهؤلاء الاثنا عشر عظيماً هم الخلفاء الراشدون الاثنا عشر، المبشر بهم فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يكون اثنا عشر أميراً». «كلهم من قريش». أخرجاه في «الصحيحين»
وفي رواية: «لا يزال هذا الأمر قائماً حتى يكون اثنا عشر خليفة كلهم من قريش».
فهؤلاء منهم الأئمة الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ومنهم عمر بن عبد العزيز أيضاً، ومنهم بعض بني العباس. وليس المراد أنهم يكونوا اثني عشر نسقاً بل لا بد من وجودهم.
وليس المراد الأئمة الاثني عشر الذي يعتقد فيهم الرافضة،الذين أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم المنتظر بسرداب سامرا وهو محمد بن الحسن العسكري فيما يزعمون فإن أولئك لم يكن فيهم أنفع من علي وابنه الحسن بن علي، حين ترك القتال وسلم الأمر لمعاوية، وأخمد نار الفتنة وسكن رحى الحرب بين المسلمين، والباقون من جملة الرعايا لم يكن لهم حكم على الأمة. في أمر من الأمور وأما ما يعتقدونه بسرداب سامرا، فذلك هوس في الرؤوس، وهذيان في النفوس، لا حقيقة له ولا عين ولا أثر.
[41] البراق دابة الأنبياء تشبه البرق في سرعتها . لسان العرب مادة برق
[42] أي ظاهراً جارياً على وجه الأرض
[43] ” لا تخافي أن ينفد الماء ‘‘ ” لا تخافي على أهل هذا الوادي ظمأ فإنها عين يشرب بها ضيفان الله ‘‘ ” فقالت بشرك الله بخير‘‘ابن حجر في الفتح 3/453
[44] ” أن آدم أول من بنى البيت ، وقيل: بنته الملائكة قبله ‘‘عبد الرزاق , ”بعث الله جبريل إلى آدم فأمره ببناء البيت فبناه آدم ، ثم أمره بالطواف به وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت وضع للناس ‘‘البيهقي , ”لما كان زمن الطوفان رفع البيت ، وكان الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه حتى بوأه الله لإبراهيم وأعلمه مكانه ‘‘, ذكر هذه الرواية ابن حجر في الفتح 3/463 , ذكر الروايات وضعفها الألباني في الثمر المستطاب 510
[45] جرهم هو ابن قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وكان جرهم وأخوه قطورا أول من تكلم بالعربية عند تبلبل الألسن ، وكان رئيس جرهم مضاض بن عمرو ورئيس قطورا السميدع ويطلق على الجميع جرهم , وكانت جرهم يومئذ بواد قريب من مكة , ذكر هذا ابن حجر في الفتح 3/464
[46] حسن هذه الرواية من كتاب النسب ابن حجر في الفتح 3/464
[47] أرض الحجاز
[48] وأيضاً لأن هذا اليوم كان يتزود فيه الحجاج بالماء قبل ذهابهم إلى عرفة
[49] القرطبي 15/104
[50] القرطبي 15/105 , ابن كثير 4/336
[51] القرطبي 15/105
[52] رفعه ابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الشيطان ترجمون وملة أبيكم إبراهيم تتبعون 0 ابن خزيمة 2967 , الحاكم 1/466 وصححه ووافقه الذهبي , وصححه الألباني في الترغيب 1156, والرمي الآن بالترتيب الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى
[53] ابن كثير في قصص الأنبياء عند قصة الذبح
[54] حنبكة 2/316
[55] القرطبي 15/104
[56]هذا الكبش الذي ظل رأسه معلق بقرنيه في ميزاب الكعبة حتى يبس وكانت قريشاً توارثوا قرني الكبش الذي فدي به إبراهيم خلفاً عن سلف وجيلاً بعد جيل إلى أن بعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الإسلام
[57] ووجد لوط قرى سدوم على ارتكاب الفواحش ، فدعاهم إلى الدين ، ونهاهم عن المخالفة ، فكذبوه وعتوا ، وأقام فيها داعيا إلى الله إلى أن هلكوا كما قصه القرآن . وخرج لوط مع عساكر كنعان وفلسطين للقاء ملوك الشرق حين زحفوا إلى أرض الشام ، وكانوا أربعة ملوك ملك الأهواز من بني غليم بن سام واسمه كرزلا عامر ، وملك بابل واسمه شنعا، وملك الأستار واسمه أريوح ، وملك كوتم واسمه تزعال . وكان ملوك كنعان الذين خرجوا إليهم خرجوا إليهم خمسة على عدد القرى الخمسة ، وذلك أن ملك الأهواز كان استعبدهم اثنتي عشرة سنة ، ثم عصوا فزحف إليهم واستجاش بالملوك المذكورين معه ، فأصابوا من أهل جبال يسعين إلى فاران التي في البرية وكان بها يومئذ الجويون من شعوب كنعان أيضاً . وخرج ملك سدوم وأصحابه لمدافعتهم فانهزم هو والملوك الذين معه من أهل سدوم ، وسباهم ملك الأهواز ومن معه من الملوك ، وأسروا لوطا وسبوا أهله وغنموا ماشيته. وبلغ الخبر إبراهيم عليه السلام فاتبعهم في ولده ومواليه نحوا من ثلثمائة وثمانية عشر ، ولحقهم بظاهر دمشق فدهمهم ، فانفضوا وخلص لوطا في تلك الوقعة ، وجاء بأهله ومواشيه وتلقاهم ملك سدوم واستعظم فعلتهم .
ثم أوحى الله إلى إبراهيم أن هذه الأرض أرض الكنعانيين التي أنت بها ، ملكتها لك ولذريتك وأكثرهم مثل حصى الأرض
[58] وهذه البشارة اتصلت بهذ الأمة، بل ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة المحمدية.ويؤيد ذلك قول رسول الله : «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها».
[59] قال الله تعالى: {وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ نَبِيّاً مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ (112) وَبَـٰرَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَـٰقَ وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) } (الصافات: 112، 113).
وقد كانت البشارة به من الملائكة لإبراهيم وسارة لما مرّوا بهما مجتازين ذاهبين إلى مدائن قوم لوط، ليدمروها عليهم لكفرهم وفجورهم , قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَآءتْ رُسُلُنَآ إِبْرٰهِيمَ بِٱلْبُـشْرَىٰ قَالُواْ سَلَـٰماً قَالَ سَلَـٰمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ (70) وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَآء إِسْحَـٰقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يٰوَيْلَتَا ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْء عَجِيبٌ (72) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَـٰتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) } (هود: 69 ـــ 73).
وقال تعالى: {وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَـٰمٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَىٰ أَن مَّسَّنِىَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَـٰكَ بِٱلْحَقّ فَلاَ تَكُن مّنَ ٱلْقَـٰنِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ (56) } (الحجر
وقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرٰهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَـٰماً قَالَ سَلَـٰمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَآء بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَـٰمٍ عَلَيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ (30) } (الذاريات)
[60] قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَآء إِسْحَـٰقَ يَعْقُوبَ } (هود: 71) دليل على أنها تستمتع بوجود ولدها إسحاق، ثم من بعده يولد ولده يعقوب. أي يولد في حياتهما لتقر أعينهما به كما قرت بولده. ولو لم يرد هذا لم يكن لذكر يعقوب وتخصيص التنصيص عليه من دون سائر نسل إسحاق فائدة. ولما عين بالذكر دل على أنهما يتمتعان به ويسران بولده كما سرا بمولد أبيه من قبله.يؤيده ما ثبت في «الصحيحين» من حديث أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: «المسجد الحرام». قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى» قلت كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة }البخاري 3366.
ويعقوب عليه السلام هو الذي أسس المسجد الأقصى، وهو مسجد إيليا بيت المقدس شرفه الله. وهذا متجه. ويشهد له ما ذكرناه من الحديث، فعلى هذا يكون بناء يعقوب عليه السلام وهو إسرائيل بعد بناء الخليل وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء. وقد كان بناؤهما ذلك بعد وجود إسحاق
[61] قال إبراهيم: يا رب أتهلكهم وفيهم خمسون رجلاً صالحاً؟ فقال الله: «لا أهلكهم وفيهم خمسون صالحاً». ثم تنازل عشرة فقال الله: «لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون».
[62] لوط كان بفلسطين مع إبراهيم إلى أن قبضه الله وكان له من الولد عمون وموآيي وجعل الله في نسلهما البركة حتى كانوا من أكثر قبائل الشام ، وكانت مساكنهم بأرض البلقاء ومدائنها في بلد موآيي ومعان وما والاهما ، وكانت لهم مع بني إسرائيل حروب وكان منهم بلعام بن باعورا بن رسيوم بن برسيم بن موآيي ، وقصته مع ملك كنعان حين طلبه في الدعاء على بني إسرائيل أيام موسى صلوات الله عليه وأن دعاءه صرف إلى الكنعانيين
[63] يتبين من موافقة أبراهيم لرغبة سارة أنه لا ملنع للرجل أن يرضي زوجته أن وجد منها تشرط في أمور يمكن غض النظر فيها
[64] هي عمارة بنت سعد بن أسامة بن أكيل العماليقي, إبراهيم رآها فظة غليظة فأوصاها لإسمعيل بأن يحول عتبة بابه ، فلما قصت على إسماعيل الخبر والوصية قال ذلك أبي يأمرني أن أطلقك فطلقها
[65] قال رسول الله: «اتخذوا الخيل واعتقبوها فإنها ميراث أبيكم إسماعيل».
[66] وهي السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي, جاء إبراهيم إلى بيت إبنه فتسهلت له بالإذن وأحسنت التحية وقربت الوضوء والطعام ، فأوصاها لإسمعيل بأني قد رضيت عتبة بابك ، و لما قصت على إسماعيل الوصية قال ذلك أبي يأمرني بإمساكك فأمسكها وولدت له اثنى عشر ولداً ذكراً
[67] ابن كثير في قصص الأنبياء ذكرنا في صفة خلق السمٰوات: أن الكعبة بحيال البيت المعمور، بحيث أنه لو سقط لسقط عليها، وكذلك معابد السمٰوات السبع، كما قال بعض السلف: إن في كل سماء بيتاً يعبد الله فيه أهل كل سماء، وهو فيها كالكعبة لأهل الأرض.فأمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام أن يبني له بيتاً يكون لأهل الأرض كتلك المعابد لملائكة السمٰوات، وأرشده الله إلى مكان البيت المهيأ له، المعين لذلك منذ خلق السمٰوات والأرض، كما ثبت في «الصحيحين» : «أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السمٰوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة».
[68] وأصل الطواف قبل إبراهيم آدم عليه السلام وقبله صنع الملائكة حول العرش
[69] حسنه ابن حجر في الفتح 3/468 , ابن كثير 3/226 , القرطبي 12/43
[70] ابن تيمية 17/485
بالنسب إلى المراجع في مصادر العزو لهذه القصص فكما تبين معنا لشروح ابن حجر في الفتح وترجيحاته وكذا ابن كثير في تفسيره والقرطبي في تفسيره , مع روايات البخاري 3364 , 3365 وانظر كتاب الحج خطوة بخطوة للرجل المرأة في أصل المناسك للمؤلف وقصص الأنبياء وتاريخ الطبري والكامل في التاريخ وابن خلدون
[71] ولما حضرت إسماعيل الوفاة ولى أمر البيت من بعد إسماعيل ابنه نابت ، أوصى إسماعيل إلى أخيه إسحاق، وزوج ابنته «نسمة» من ابن أخيه «العيص» بن إسحاق فولدت له الروم، ويقال لهم بنو الأصفر؛ لصفرة كانت في العيصو. وولدت له اليونان وجاء أن العيصو بن إسحاق تزوج باسمت بنت إسمعيل
ثم قبض الله إسماعيل إليه وقد عاش مائة وسبعاً وثلاثين سنة ، ودفن إسماعيل في الحجر مع أمه هاجر وكان إسماعيل عليه السلام شكا إلى ربه عز وجل حر مكة، فأوحى الله إليه: إني سأفتح لك باباً إلى الجنة إلى الموضع الذي تدفن فيه. يجري عليك روحها إلى يوم القيامة
[72] {اختتن إبراهيم بعد ثمانين سنة بالقدوم فكان أول من اختتن} البخاري 3356 ، وأول من تسرول، وأول من فرق شعر الرأس، وأول من استحد، وأول من قرى الضيف، أول من ثرد الثريد وأول من شاب. ولما رأى الشيب. قال: يا رب ما هذا؟ فقال الله: «وقار» فقال يا رب زدني وقاراً
[73] عن أبي ذر الغفاري ، قال : قلت : يا رسول الله ، كم كتاب أنزله الله ؟ قال : مائة كتاب وأربع كتب : أنزل الله عز وجل على آدم عليه السلام عشر صحائف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة ، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف ، وأنزل جل وعز التوراة والإنجيل والزبور والفرقان . قلت : يا رسول الله ، فما كانت صحف إبراهيم ؟ قال : كانت أمثالا كلها}
[74] سيأتي الحديث عنه وعن أولاده والشعوب التي منهم في الحديث عن قصة أبيه إسحاق عليه السلام
[75] جيرون وهو مدفنه المسمى بالخليل ، وكانت معظمة تعظمها الصائبة ، وتسكب عليها الزيت للقربان وتزعم أنها هيكل المشتري والزهرة ، فسماها العبرانيون إيليا ومعناه بيت الله .
[76] قيل قنطورا بنت يقطان من الكنعانيين
[77] أهل مدين قوم شعيب من ولد مديان
[78] النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عنه تحصين الأولاد من بعد أن أخبره جبريل بذلك فكان يعوذ الحسن والحسين، ويقول: {إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة} البخاري 3371
[79] وقد وجده النبي صلى الله عليه السلام في السماء السابعة مسنداً ظهره بالبيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه وهو{ أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم } البخاري3349
[80] فيها قبره وقبر ولده إسحاق وقبر ولدولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد «حبرون»، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم.
[81] مسلم انظر كتاب علاج نفسك في معرفة اليوم الأخر للمؤلف ص84-95
قال تعالى{ مَا كَانَ إِبْرٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا ٱلنَّبِىُّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلْمُؤْمِنِينَ (68) } (آل عمران: 65 ـ 68). ينكر تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في دعوى كل من الفريقين، كون الخليل على ملتهم وطريقتهم، فبرأه الله منهم، وبين بقوله: {وَمَآ أُنزِلَتِ ٱلتَّورَاةُ وَٱلإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } أي فكيف يكون على دينكم وأنتم إنما شرع لكم ما شرع بعده بمدد متطاولة؟ ولهذا قال: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } وقال{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَــٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ} (141) } (البقرة:
فنزه الله عز وجل خليله عليه السلام عن أن يكون يهودياً أو نصرانياً، وبين أنه إنما كان حنيفاً مسلماً ولم يكن من المشركين.6 ولهذا قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ } (آل عمران: 68) يعني الذين كانوا على ملته من أتباعه في زمانه، ومن تمسك بدينه من بعدهم. {وَهَـٰذَا ٱلنَّبِىُّ } (آل عمران: 68) يعني محمداً . فإن الله شرع له الدين الحنيف الذي شرعه للخليل وكمله الله تعالى له، وأعطاه ما لم يعط نبياً ولا رسولاً من قبله
[82] البخاري3369