جواز أخذ الأجر على الرقية بالقرآن والأذكار
فيه حديث (أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه وأن رجلاً رقى سيد الحي) هذا الراقي هو أبو
سعيد الخدري الراوي كذا جاء مبيناً في رواية أخرى في غير مسلم. قوله:
(فأعطي قطيعاً من غنم) القطيع هو الطائفة من الغنم وسائر النعم، قال
أهل اللغة: الغالب استعماله فيما بين العشر والأربعين، وقيل ما بين خمس
عشرة إلى خمس وعشرين، وجمعه أقطاع وأقطعة وقطعان وقطاع وأقاطيع كحديث
وأحاديث، والمراد بالقطيع المذكور في هذا الحديث ثلاثون شاة، كذا جاء
مبيناً. قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أدراك أنها رقية» فيه التصريح
بأنها رقية فيستحب أن يقرأ بها على اللديغ والمريض وسائر أصحاب الأسقام
والعاهات. قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم»
هذا تصريح بجواز أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة والذكر وأنها حلال لا
كراهة فيها، وكذا الأجرة على تعليم القرآن، وهذا مذهب الشافعي ومالك
وأحمد وإسحاق وأبي ثور وآخرين من السلف ومن بعدهم، ومنعها أبو حنيفة في
تعليم القرآن وأجازها في الرقية. وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
«واضربوا لي بسهم معكم». وفي الرواية الأخرى: «اقسموا واضربوا لي بسهم
معكم» فهذه القسمة من باب المروءات والتبرعات ومواساة الأصحاب والرفاق،
وإلا فجميع الشياه ملك للراقي مختصة به لا حق للباقين فيها عند التنازع
فقاسمهم تبرعاً وجوداً ومروءة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «واضربوا
لي بسهم» فإنما قاله تطييباً لقلوبهم ومبالغة في تعريفهم أنه حلال لا
شبهة فيه، وقد فعل صلى الله عليه وسلم في حديث العنبر وفي حديث أبي
قتادة في حمار الوح5 مثله. قوله: (ويجمع بزاقه ويتفل) هو بضم الفاء
وكسرها وسبق بيان مذاهب العلماء في التفل والنفث. قوله: (سيد الحي
سليم) أي لديغ قالوا سمي بذلك تفاؤلاً بالسلامة وقيل لأنه مستسلم لما
به. قوله: (ما كنا نأبنه برقية) هو بكسر الباء وضمها أي نظنه كما سبق
في الرواية التي قبلها، وأكثر ما يستعمل هذا اللفظ بمعنى نتهمه ولكن
المراد هنا نظنه كما ذكرناه والله أعلم.
الأحوذي 6/189
باب ما جاء في أخذ الأجر على التعويذ
قوله: (عن جعفر بن إياس)
كنيته أبو بشر بن أبي وحشية، بفتح الواو وسكون المهملة وكسر
المعجمة وتثقيل التحتانية، ثقة من أثبت الناس في سعيد بن جبير، وضعفه
شعبة في حبيب بن سالم. وفي مجاهد: من الخامسة
(عن أبي نضرة) هو
العبدي.
قوله:
(بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فنزلنا بقوم)
وفي رواية عند الدارقطني بعث سرية عليها أبو سعيد، وفي رواية
الأعمش عند غير الترمذي: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين
رجلاً فنزلنا بقوم ليلاً، فأفادت عدد السرية ووقت النزول. كما أفادت
رواية الدارقطني تعيين أمير السرية
(فسألناهم القرى)
بكسر القاف مقصوراً الضيافة
(فلم يقرونا) أي
فلم يضيفونا. قال في القاموس: قرى الضيف قرى بالكسر والفتح والمد أضافخ
كاقتراه (فلدغ سيدهم)
بضم اللام على البناء للمفعول، واللدغ بالدال المهملة والغين
المعجمة، وهو اللسع وزناً ومعنى، وأما اللذع بالذال المعجمة والعين
المهملة فهو الإحراق الخفيف، واللدغ المذكور في الحديث هو ضرب ذات
الحمة من حية أو عقرب وغيرهما، وأكثر ما يستعمل في العقرب. وقد أفادت
رواية الترمذي هذه تعيين العقرب.
فإن قلت:
عند النسائي من رواية هشيم أنه مصاب في عقله أو لديغ.
قلت:
هذا شك من هشيم، ورواه الباقون أنه لديغ ولم يشكوا، خصوصاً
تصريح الأعمش بالعقرب.
فإن قلت:
جاء في رواية أبي داود والنسائي والترمذي من طريق خارجة بن
الصلت عن عمه أنه مرّ بقوم وعندهم رجل مجنون موثق في الحديد. فقالوا
إنك جئت من عند هذا الرجل بخير فارْق لنا هذا الرجل، وفي لفظ عن خارجة
بن الصلت عن عمه يعني علاقة بن صحار: أنه رقي مجنوناً موثقاً بالحديد
بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام كل بوم مرتين فبرأ، فأعطوني مائتي شاة.
فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «خذهما ولعمري من أكل برقية
باطل فقد أكلت برقية حق.»
قلت:
هما قضيتان لأن الراقي هناك أبو سعيد وهنا علاقة بن صحار
وبينهما اختلاف كثير
(فأتونا) أي فجاؤونا
(فقالوا هل فيكم من يرقى من العقرب؟)
قال في القاموس: رقاه رقياً ورقياً نفث في عوذته، وقال فيه
العوذة الرقية كالمعاذة والتعويذ انتهى. وفي رواية للبخاري: فلدغ سيد
ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء. فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء
الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم فقالوا يا أيها
الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه فهل عند أحد منكم من
شيء (فقرأت عليه الحمد
سبع مرات) وفي رواية
للبخاري: فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين. قال الحافظ:
يتفل بضم الفاء وبكسرها وهو نفخ معه قليل بزاق. قال ابن أبي حمزة محل
التفل في الرقية يكون بعد القراءة لتحصيل بركة القراءة في الجوارح التي
يمر عليها الريق فتحصل البركة في الريق الذي يتفله
(فبرأ) . وفي رواية للبخاري: فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي
وما به قلبة (وما علمت
أنها رقية) : أي كيف علمت. وفي رواية البخاري: وما يدريك أنها رقية
(واضربوا لي معكم بسهم)
أي اجعلوا لي منه نصيباً، وكأنه أراد المبالغة في تأنيسهم كما
وقع له في قصة الحمار الوحشي وغير ذلك. وفي الحديث جواز الرقية بشيء من
كتاب الله تعالى، ويلحق به ما كان من الدعوات المأثورة، أو مما
يشابهها، ولا يجوز بألفاظ مما لا يعلم معناها، من الألفاظ الغير
العربية.
قال ابن القيم:
إذا ثبت أن لبعض الكلام خواص ومنافع، فما الظن بكلام رب العالمين ثم
بالفاتحة التي لم ينزل في القران ولا غيره من الكتب مثلها لتضمنها جميع
معاني الكتاب، فقد اشتملت على ذكر أصول أسماء الله ومجامعها، وإثبات
المعاد وذكر التوحيد، والافتقار إلى الرب في طلب الاعانة به والهداية
منه، وذكر أفضل الدعاء وهو طلب الهداية إلى صراطه المستقيم المتضمن
كمال معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به واجتناب ما نهي عنه
والاستقامة عليه، ولتضمنها ذكر أصناف الخلائق وقسمتهم إلى منعم عليه
لمعرفته بالحق والعمل به ومغضوب عليه لعدوله عن الحق بعد معرفته وخالٍ
لعدم معرفته له، مع ما تضمنه من إثبات القدر والشرع والأسماء والصفات
والمعاد والتوبة، وتزكية النفس وإصلاح القلب، والرد على جميع أهل
البدع، وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من كل داء، انتهى
ملخصاً.
قوله: (هذا
حديث حسن) وأخرجه
الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة
(ورخص الشافعي للمعلم أن يأخذ على تعليم القران أجراً) ، وبه
قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور واخرون من السلف ومن بعدهم، ومنعه أبو
حنيفة وأجازه في الرقية، قاله النووي في شرح مسلم. وقال الحافظ: قد نقل
عياض جواز الاستئجار لتعليم القران عن العلماء كافة إلا الحنفية انتهى.
قلت:
وقد أجاز المتأخرون من الحنفية أيضاً أخذ الأجرة على تعليم
القران ويرى أن يعتد الشافعي
(له) أي يجوز
للمعلم (أن يشترط)
أي أخذ الأجرة
(على ذلك) أي على تعلم
القران وقوله: (واحتج
بهذا الحديث) الاحتجاج
بهذا الحديث على جواز أخذ الأجرة على الرقية واضح، وأما الاحتجاج به
على جواز أخذ الأجرة على تعليم القران فاعترض عليه القرطبي حيث
قال: لا نسلم أن
جواز أخذ الأجر في الرقي يدل على جواز التعليم بالأجر انتهى. لم يذكر
القرطبي سند للمنع ولا يظهر وجه صحيح لعدم التسليم والله تعالى أعلم.
وقد استدل للجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: اذهب فقد أنكحتكها بما
معك من القران. في حديث سهل بن سعد رواه الشيخان وهذا لفظ البخاري. وفي
رواية لمسلم: اذهب فقد زوجتكها فعلمها من القران.
واستدل للجمهور
أيضاً بحديث ابن عباس: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله رواه
البخاري. قال الحافظ: استدل به للجمهور في جواز أخذ الأجرة على تعليم
القران، وخالف الحنفية فمنعوه في التعليم وأجازوه في الرقي كالدواء،
قالوا لأن تعليم القران عبادة والأجر فيه على الله وهو القياس في
الرقى، إلا أنهم أجازوه فيها لهذا الخبر، وحمل بعضهم الأجر في هذا
الحديث على الثواب، وسياق للقصة التي في الحديث يأبى هذا التأويل،
وادعى بعضهم نسخه بالأحاديث الواردة في الوعيد على أخذ الأجرة على
تعليم القران. وقد رواها أبو داود وغيره، وتعقب بأنه إثبات للنسخ
بالاحتمال وهو مردود وبأن الأحاديث ليس فيها تصريح بالمنع على الاطلاق،
بل هي وقائع أحوال محتملة للتأويل، لتوافق الأحاديث الصحيحة كحديثي
الباب (يعني حديث ابن
عباس المتقدم انفاً، وحديث أبي سعيد المذكور في هذا الباب)
وبأن الأحاديث المذكورة أيضاً ليس فيها ما تقوم به الحجة فلا
تعارض الأحاديث الصحيحة انتهى كلام الحافظ.
وقال الشوكاني في
النيل: استدل الجمهور بحديث ابن عباس على جواز أخذ الأجرة على تعليم
القران، وأجيب عن ذلك بأن المراد بالأجر هنا الثواب، ويرد بأن سياق
القصة يأبى ذلك، وادعى بعضهم نسخه الأحاديث السابقة، وتعقب بأن النسخ
لا يثبت بمجرد الاحتمال وبأن الأحاديث القاضية بالمنع وقائع أعيان
محتملة للتأويل لتوافق الأحاديث الصحيحة كحديثي الباب وبأنها مما لا
تقوم به الحجة فلا تقوى على معارضة ما في الصحيح، وقد عرفت مما سلف
أنها تنتهض للاحتجاج بها على المطلوب والجمع ممكن إما بحمل الأجر
المذكور هنا على الثواب كما سلف وفيه ما تقدم، أو المراد أخذ الأجر على
الرقية فقط كما يشعر به السياق فيكون مخصصاً للأحاديث القاضية بالمنع،
أو يحمل الاجر هنا على عمومه فيشمل الأجر على الرقية والتلاوة
والتعليم، ويخص أخذها على التعليم بالأحاديث المتقدمة ويجوز ما عداه،
وهذا أظهر وجوه الجمع فينبغي المصير إليه انتهى.
قلت:
الروايات التي تدل على منع أخذ الأجرة على تعليم القران ضعاف لا
تصلح للاحتجاج، ولو سلم أنها بمجموعها تنتهض للاحتجاج، فالأحاديث التي
تدل على الجواز أصح منها وأقوى، ثم إن هذه الروايات وقائع أحوال محتملة
للتأويل، كما قال الحافظ، فلا حاجة إلى ما ذكره الشوكاني من وجوه
الجمع. هذا ما عندي والله تعالى أعلم
قوله: (مروا بحي
من العرب) إعلم أن طبقات
أنساب العرب ست: الشعب بفتح الشين: وهو النسب الأبعد، كعدنان مثلاً وهو
أبو القبائل الذين ينسبون إليه ويجمع على شعوب، والقبيلة: وهي ما انقسم
به الشعب كربيعة ومضر، والعمارة بكسر العين: وهي ما انقسم فيه أنساب
القبيلة كقريش وكنانة ويجمع على عمارات وعمائر، والبطن. وهي ما انقسم
فيه أنساب العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم ويجمع على بطون وأبطن،
والفخد: وهي ما انقسم فيه أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية ويجمع على
أفخاذ، والفصيلة بالصاد المهملة: وهي ما انقسم فيه أنساب الفخد كبني
العباس. وأكثر ما يدور على الألسنة من الطبقات القبيلة ثم البطن، وربما
عبر عن كل واحد من الطبقات الست بالحي، إما على العموم مثل أن يقال حي
من العرب وإما على الخصوص مثل أن يقال حي من بني فلان. وقال الهمداني
في الأنساب: الشعب والحي بمعنى
(حتى تجعلوا لنا جعلاً)
بضم الجيم وسكون المهملة ما يعطى على عمل
(فجعلوا على ذلك قطيعاً من غنم)
قال ابن التين: القطيع الطائفة من الغنم، وتعقب بأن القطيع هو
الشيء المتقطع من غنم كان أو غيرها، وقال بعضهم إن الغالب استعماله
فيما بين العشرة والأربعين، ووقع في رواية الأعمش: فإنا نعطيكم ثلاثين
شاة. وهو مناسب لعدد السرية كما تقدم وكأنهم اعتبروا عددهم فجعلوا
الجعل بإزائه (وما يدريك)
هي كلمة تقال عند التعجب من الشيء وتستعمل في تعظيم الشيء أيضاً
وهو لائق هنا، قاله الحافظ. وفي رواية بعد قوله: وما يدريك أنها رقية؟
قلت: ألقي في روعي
والدارقطني: فقلت يا رسول الله شيء ألقي في روعي
(ولم يذكر نهياً منه)
أي من النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.