الروح عند سكرات الموت
يقول تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (185)} آل عمران
الموت الذي ينتهي إليه كل حي ، والذي لا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره حي الموت الذي يفرق الأحبة، ويمضي في طريقه لا يتوقف، ولا يتلفت، ولا يستجيب لصرخة ملهوف، ولا لحسرة مفارق، ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف! الموت الذي يصرع الجبابرة بنفس السهولة التي يصرع بها الأقزام ، ويقهر بها المتسلطين كما يقهر المستضعفين سواء!
الموت الذي لا حيلة للبشر فيه, نذكرك بحال الإنسان عندما يأتيه, كما بينه القاهر الذي يجريه, بقوله تعالى {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} [سورة ق ] هذا هو الذي كان يفر منه قد جاءه، فلا محيد ولا مناص، ولا فكاك ولا خلاص( [1] ) { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنُظرُونَ } [ الواقعة : 83 - 84 ] إنه الاحتضار وما عند الله من الأهوال حال النزع والروح تبلغ الحلقوم, ويتلفت الحاضرون حول المحتضر وما يُكابده من سكرات الموت, يتلمسون حيلة أو وسيلة لاستنقاذ الروح المكروب ( [2] )
إنه مشهد الاحتضار، والكرب الذي تزوغ منه الأبصار
إنه موطن من مواطن الهول حال الإنسان مع سكرات الموت المذهلة
وروح الإِنسان تبلغ عظام الترقوة المحيطة بأعالي الصدر { كلا إذا بَلَغَتِ التّراقِيَ } القيامة 26 ( [3] ) أوشكت أن تفارق صاحبها ووجد الإنسان ثمار عمله الذي عمله في دنياه ، وانكشفت له حقيقة عاقبته
ويقول مَنْ حَولَه من أهله وأصحابه هل من طبيبٍ يداويه؟ هل من دواءٍ يشفيه؟ هل من أحدٍ يَرْقِيه ؟
{ وقيلَ مَنْ راقٍ } القيامة 27 من راقٍ يرقيه بالرُّقى وأسماء الله الحسنى, ونحو هذا مِمَّا يتمناه أهل المريض حالة اشتداد الأمر عليه
ومنهم من يقول من يَطُبُّ، من يَشْفِي! استبعاداً بأنه لا ينفعه, فمِنْ يرقيهِ وينجيهِ مما هُو فيهِ من الموت, إنه بيان لما يقوله أحباب الإِنسان الذي بلغت روحه التراقي ، على سبيل التحسر والتوجع واستبعاد شفائه
ومَنْ حَوْله من ملائكة الموت الذين حضروا لقبض روحه يقول بعضهم لبعض، من راق, من يصعد منا بروحه إلى السماء ، فأيقن المحتضر عند ذلك أنه الفراق
{ وظَنَّ أنّه الفِراق } القيامة 28 أيقن المحتضر حين عاين ملائكة الموت أن ما نزل به هو الفراق من الدنيا المحبوبة ونعيمها الذي ضيع العمر النفيس في كسب متاعها الخسيس ولذلك عبر عما حصل له وعاينه في ذلك الوقت من سكرات الموت بالظن الذي هو اليقين بالفراق لان الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه فانه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها فالآن أيقنَ المحتضرُ يقين فيما لم يَقَعْ بعد؛ وهو الأمر العظيم فراق الحياة التي كان يحبها وأيقن أنه عما قليل سيودع أهله وأحبابه وسيفارقهم
{ والْتَفّتِ الساقُ بالساقِ } القيامة 29 أي ألتفت الشدة بالشدة والبلاء بالبلاءِ ، شدة كرب الموت بشدة هول المطلع
تتابعت عليه الشدائد شدةُ فراقِ الدُّنيا وشدةُ إقبالِ الآخرةِ إنهما همّان همّ فراق الأهل والولد وهمّ القدوم على الواحد الصمد
اجتمع عليه شدة مفارقة المألوف من الوطن والأهل والولد والصديق وشدة القدوم على ربه جل شأنه ولا يدري بماذا يقدم عليه
إنه هول الموت وشدته وماتت رجلاه فلم تحملاه وقد كان عليهما جوّالاً والتفتْ ساقُه بساقِه للنزع, التوتْ ساقاه والتفت عندَ حلولِ الموتِ
وهذه نهاية وصف الحالة التي تهيَّأ بها لمصيره إلى القبر الذي هو أول مراحل الآخرة آخر يوم في الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، وقد اجتمع عليه الناس ليجهزون جسده إلى القبر ، والملائكة ليجهزون روحه إلى السماء
والناس عند احتضارهم على ثلاثة حالات هي: إما أن يكون من المقربين، أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين. وإما أن يكون من المكذبين الضالين عن الهدى، الجاهلين بأمر الله { فَأَمَّا إِنْ كَانَ } أي: المحتضر { مِنَ الْمُقَرَّبِينَ } الواقعة 88 ، وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات، { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } الواقعة 89 له المغفرة والرحمة والاستراحة والفرح والسرور والرزق الحسن ، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30)نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)}فصلت ( [4] )
ويكون مَلَك الموت أشدّ به لطفا من الوالدة بولدها، يعرف أن ذلك الروح حبيب لربه، فهو يلتمس بلطفه تحببا لديه رضاء للرب عنه {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ } [النحل: 32]
{ وأَمَّا إِنْ كَانَ } أي: المحتضر { مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} الواقعة 90 وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات، وإن حصل منهم التقصير في بعض الحقوق التي لا تخل بتوحيدهم وإيمانهم، فإن الملائكة تبشر المحتضر منهم، فتقول سلام لك، أي: لا بأس عليك، لست ترى إلا ما تحب من السلامة أنت من أصحاب اليمين.{ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} الواقعة 91
فقد سَلِمَ من عذاب الله، وسَلَّمت عليه ملائكة الله وأخبرته أنه من أصحاب اليمين وبسلامته من الخوف وبشرته بالسلامة
وأما المكذبين الضالين عن الهدى، الجاهلين بأمر الله إذا عاين أحدهم ما نزول من أمر الله به، قال لعظيم ما يعاين مما يَقْدم عليه من عذاب الله تندّما على ما فات، وتلهُّفا على ما فرط فيه قبل ذلك، من طاعة الله يقول رب ردني إلى الدنيا لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا
{ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) } المؤمنون ( [5] )
فلا يجاب في طلبه الرجعة ولكن يضرب ويهان
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ(93) }الأنعام ( [6] )
والبسط الضرب يوم وفاة هؤلاء الظالمين, يضربون وجوههم وأدبارهم , وهو الهوان ( [7] )
{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) }الأنفال وهذا من جملة العذاب الواقع
[1] هذا زجَر من الله للبشر بلون من ألوان الردع ، حيث يذكرهم بأحوالهم الأليمة عندما يودعون هذه الدنيا
[2]أنت ممن يتذكر وقت بلوغ الروح نهايتها ، ويتذكر في ذلك الوقت وقوف من يهمهم أمر المحتضر مستسلمين لقضاء الله تعالى وملتمسين من كل من بيده شفاء مريضهم ، أن يتقدم لإِنقاذه مما هو فيه من كرب ، ولكنهم لا يجدون أحدا يحقق لهم آمالهم
قل’’ لا إله إلا الله إن للموت سكرات ‘‘ البخاري 6510
قل’’ اللهم أعني على غمرات الموت ‘‘’’ على سكرات الموت ‘‘ الترمذي 978 وحسنه , الألباني صححه في فقه السيرة ج 1 ص 464
أم أنت ممن لا يتذكر هذا المشهد المكروب الملهوف الجاد الواقع لكل إنسان لأنك من اللاهيين ، الذين لا يستعدون بعمل ولا طاعة ، بل يقدمون المعصية والتولي ، في عبث ولهو
احذر الغفلة التي أنت فيها وتذكر هذا الهول وأكثر من ذكر هادم اللذات
[3] المقصود من الآية الكريمة وما بعدها : الزجر عن إيثار العاجلة على الآجلة . فكأنه تعالى يقول احذروا أيها الناس سكرات الموت قبل أن يفاجئكم ، وقبل أن تبلغ أرواحكم نهايتها ، وتنقطع عند ذلك آمالكم .
[4] أين أنت من الأحوال الثلاثة للمحتضرين ؟
أنت مع من تتوفاهم الملائكة وهي تبشرهم بالمغفرة والرحمة والجنة ؟ لاستقامتهم في الدنيا قل الحمد لله واشكره لأن وفقك لطاعته واسأله أن يثبتك على ذلك حتى الممات
أم أنت مع أصحاب اليمين ممن تتوفاهم الملائكة ويقولون لهم سلام عليكم ؟
أشكر الله على الغفران على ما صدر من عصيان وقت الغفلة والنسيان واسأله أن يصرف قلبك على طاعته وحسن الختام
أم أنت مع من تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ؟ لاستكبارهم
قل أنا لست منهم, قل الحمد لله على الإسلام اللهم ثبتني على الإيمان
[5] أتكون مع من يقول رب أخرني لأجل قريب لأن ماله وأولاده أشغلاه عن الأعمال التي يحتاجها في أخراه وذكر مولاه ؟
عالج نفسك بالصدقات والأعمال الصالحات قبل الممات
أم أتكون مع الشهداء ممن يتمنى أحدهم الرجعة ليقتل في الله مرة أخرى أسأل الله الشهادة ’’ ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما في الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة ‘‘والترمذي 1661 وقال حسن صحيح
بين الموت الذي تنتهي به الحياة الأولى وبين البعث الذي تبتدئ به الحياة الثانية أي بين القيامة الصغرى والقيامة الكبرى فترة جاءت تسميتها في القرآن الكريم كما في هذه الآية برزخا
[6] عن بن عباس في قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم قال هذا عند الموت
[7] وهذا وإن كان قبل الدفن فهو من جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة