الوسائل القولية والفعلية التي نهى عنها رسول الله لأنها تفضي إلى
الشرك:
1- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلفظ بالألفاظ التي فيها
التسوية بين الله وبين خلقه؛ مثل: ما شاء الله وشئت، لولا الله
وأنت... وأمر بأن يقال بدل ذلك: ما شاء الله ثم شئت؛ لأن الواو
تقتضي التسوية، وثم تقتضي الترتيب، وهذه التسوية في اللفظ شرك أصغر،
وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر.
2- نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيم القبور بالبناء عليها
وإسراجها وتجصيصها والكتابة عليها.
3- نهى عن اتخاذ القبور مساجد للصلاة عندها؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها.
4- نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لما في ذلك من التشبه
بالذين يسجدون لها في هذه الأوقات.
5- نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه
بالعبادة؛ إلا إلى المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي،
والمسجد الأقصى.
6- ونهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه، فقال: (لا
تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله
ورسوله) . والإطراء: هو المبالغة في المدح.
7- ونهى صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر- إذا كان في مكان يعبد
فيه صنم أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية-.
كل هذا حذر منه صيانة للتوحيد، وحفاظا عليه، وسدا للوسائل والذرائع
التي تفضي إليه.
ومع هذا البيان التام من النبي صلى الله عليه وسلم والاحتياط الشديد
الذي يبعد الأمة عن الشرك خالف القبوريون سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعصوا أمره وارتكبوا ما نهاهم عنه؛ فشيدوا القباب على القبور،
وبنوا عليها المساجد، وزينوها بأنواع الزخارف، وصرفوا لها أنواعا من
العبادة من دون الله.
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: "ومن جمع بين سنة الرسول
صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه
وبين ما عليه أكثر الناس اليوم؛ رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث
لا يجتمعان أبدا.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون
عندها وإليها.
ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد
مضاهاة لبيوت الله.
ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل
عليها.
ونهى أن تتخذ عيدا وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك يجتمعون لها
كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
وأمر بتسويتها؛ كما روى مسلم في "صحيحه"عن أبي الهياج الأسدي؛
قال: (قال لي علي رضي الله عنه
ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع
صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته؟) وهؤلاء
يبالغون في مخالفة الحديث، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها
القباب.
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه؛ كما روى مسلم عن جابر رضي الله
عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر وأن يقعد
عليه وأن يبنى عليه. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة
عليها؛ كما روى أبو داود في "سننه"عن جابر: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم (نهى عن تجصيص
القبور وأن يكتب عليها) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره.
ونهى أن يزاد عليها غير ترابها؛ كما روى أبو داود عن جابر أيضا أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد
عليه. وهؤلاء يزيدون عليها الآجر والجص والأحجار. قال إبراهيم
النخعي: "كانوا يكرهون الآجر على قبورهم".
والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذين لها أعيادا، الموقدين
عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب؛ مناقضون لما أمر به
رسول الله صلى الله عليه وسلم، محادون لما جاء به.
وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من
الكبائر...".
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله في وصف ما أحدثه عباد القبور في زمانه،
وقد زاد الأمر بعده وتطور إلى أشد وأشنع، واعتبر من ينكر ذلك شاذا
متشددا متنقصا لحق الأولياء...
ومن العجب أنهم يغارون لتنقص حق الأولياء؛ حيث اعتبروا ترك عبادتهم
تنقصا لهم، ولا يغارون لتنقص حق الله بالشرك الأكبر، ولا يغارون لتنقص
رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخالفة سنته، فلا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم.
8- الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم: لقد نهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن الغلو في تعظيمه ومدحه، وغيره من باب أولى؛ لأن ذلك يؤدي إلى
إشراك المخلوقين في حق الخالق سبحانه وتعالى.
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه؛ كما قال صلى
الله عليه وسلم: (لا تطروني كما
أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله)
. رواه البخاري ومسلم. والإطراء هو مجاوزة الحد في مدحه؛ أي: لا
تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام
حتى ادعوا فيه الألوهية. "إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله
ورسوله"؛ أي: صفوني بذلك ولا تزيدوا عليه؛ فقولوا: عبد الله
ورسوله، كما وصفني ربي بذلك؛ كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} ،
وقوله: {تَبَارَكَ
الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} ، وقوله:
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ
عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} ، وقوله: {يا
أيها الرسول} ، وقوله: {يا
أيها النبي} .
فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكاب نهيه، فعظموه بما نهاهم عنه
وحذرهم منه، وناقضوه أعظم مناقضة، وشابهوا النصارى في غلوهم وشركهم،
وجرى منهم من الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم بما هو صريح الشرك في
نثرهم وشعرهم، كقول البوصيري في "البردة" يخاطب النبي صلى الله
عليه وسلم:
يا أكرم
الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم
وما بعده من الأبيات التي مضمونها توجيه الدعاء والعياذ واللياذ إلى
الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب تفريج الكربات منه في أضيق الحالات
وأشد الصعوبات، ونسي الله عز وجل!!
وذلك أن الشيطان زين لهذا الناظم ولأمثاله سوء عملهم، فأظهر لهم هذا
الغلو في مدحه -وإن كان شركا أكبر- في قالب حبه وتعظيمه صلى الله عليه
وسلم، وأظهر لهم التزام السنة في عدم الغلو به صلى الله عليه وسلم في
قالب بغضه وتنقصه.
وفي الحقيقة إن ارتكاب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من الإفراط في
مدحه وترك متابعته في أقواله وأفعاله وعدم الرضى بحكمه هو التنقص
الحقيقي له صلى الله عليه وسلم، فلا يحصل تعظيمه ولا تتحقق محبته إلا
باتباعه ونصرة دينه وسنته.
وقد جاء في حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه؛ قال: (انطلقت
مع وفد بني عامر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقلنا أنت سيدنا وابن
سيدنا فقال: "السيد الله تبارك وتعالى" فقلنا: وأفضلنا فضلا
وأعظمنا طولا فقال: قولوا بقولكم -أو بعض قولكم-، ولا يستجرينكم
الشيطان) . رواه أبو داود بسند جيد. ففي هذا الحديث منع
صلى الله عليه وسلم هؤلاء أن يقولوا له: أنت سيدنا، وقال: "السيد
الله تبارك وتعالى"، ونهاهم أن يقولوا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا
طولا! وذلك لأنه خشي عليهم الغلو، وكره أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم
إلى الغلو، وقال: "لا يستجرينكم الشيطان"؛ أي: يتخذكم جريا له،
والجري الرسول والوكيل، فبين بهذا أن مواجهة المادح للممدوح بالمدح ولو
بما فيه أنه من عمل الشيطان؛ لأن ذلك يسبب تعاظم الممدوح، وذلك مما
ينافي كمال التوحيد؛ كما أنه قد يسبب غلو المادح حتى ينزل الممدوح
منزلة لا يستحقها.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إطرائه، والإطراء هو الزيادة في المدح
حتى يفضي ذلك إلى الشرك به ووصفه بأوصاف الربوبية؛ كما حصل في كثير من
المدائح النبوية التي نظمها بعض الغالين؛ كصاحب "البردة"وغيره، مما
جرهم إلى الشرك الأكبر؛ كقول صاحب "البردة":
يا أكرم
الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم
وقوله:
فإن من جودك
الدنيا وضرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم
والنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية؛ صار يكره
أن يمدح؛ صيانة لمقام العبودية، وحماية للعقيدة، وأرشد الأمة إلى ترك
ذلك؛ نصحا لها، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده أو يضعفه من
الشرك ووسائله، ومن ذلك نهيه لهؤلاء أن يقولوا له: أنت سيدنا، والسيد
مأخوذ من السؤدد.
قال ابن الأثير في "النهاية": "والسيد يطلق على الرب والمالك
والشريف والفاضل والكريم والحليم ومتحمل أذى قومه والزوج والرئيس
والمقدم"، وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "السيد
الله"؛ يريد أن السؤدد حقيقة لله عز وجل، وأن الخلق كلهم عبيد له،
والسيد إذا أطلق على الله تعالى، فهو بمعنى المالك والمولى والرب.
قال ابن عباس: "الله الصمد"، أي: السيد الذي كمل في جميع أنواع
السؤدد".
قال ابن الأثير رحمه الله: "فيه أنه جاء رجل من قريش، فقال: أنت
سيد قريش! فقال: "السيد الله"؛ أي: هو الذي تحق له السيادة،
كأنه كره أن يحمد في وجهه وأحب التواضع. وحديث: (أنا
سيد ولد آدم ولا فخر) : قاله إخبارا عما أكرمه الله به من
الفضل والسؤدد، وتحدثا بنعمة الله تعالى عليه، وإعلاما لأمته؛ ليكون
إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله: "ولا فخر"؛
أي: إن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله، ولم أنلها من قبل
نفسي، ولا بلغتها بقوتي؛ فليس لي أن أفتخر بها..."اهـ.
فهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم كما أخبر بذلك، لكن لما واجهه
هؤلاء بهذا اللفظ؛ نهاهم عنه؛ خوفا من الغلو الذي يفضي بهم إلى
الشرك. ومما يوضح هذا الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن
ناسا قالوا يا خيرنا وابن خيرنا! وسيدنا وابن سيدنا! فقال يا أيها
الناس! قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله
ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)
. رواه النسائي بسند جيد.
ففي هذا الحديث ما يبين أنه نهاهم أن يقولوا يا سيدنا خشية عليهم من
الغلو في حقه، فسد هذا الطريق من أساسه، وأرشدهم أن يصفوه بصفتين هما
أعلى مراتب العبودية، وقد وصفه الله بهما في مواضع من كتابه، وهما
قوله: عبد الله ورسوله، ولم يحب أن يرفعوه فوق ما أنزله الله عز وجل
حماية للتوحيد.
وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم:
كقوله: (لا تطروني كما أطرت
النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله) .
وقوله: (إنه لا يستغاث بي، وإنما
يستغاث بالله عز وجل) .
ونهى عن التمادح وشدد فيه؛ كقوله لمن مدح إنسانا: (ويلك!
قطعت عنق صاحبك). وقال: (إذا
لقيتم المداحين؛ فاحثوا في وجوههم التراب) . وذلك لما يخاف
على المادح من الغلو، وعلى الممدوح من الإعجاب، وكلاهما يؤثران على
العقيدة.
بقي أن يقال: هل يجوز أن يقال للمخلوق: سيد؟
قال العلامة ابن القيم: "اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على
البشر، فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه
وسلم لما قيل له: يا سيدنا! قال: (السيد
الله تبارك وتعالى) . وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى
الله عليه وسلم للأنصار: (قوموا
إلى سيدكم)، وهذا أصح من الحديث الأول..." انتهى.
قال الشارح: "وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم
للأنصار: "قوموا إلى سيدكم"؛ فالظاهر أن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يواجه سعدا به، فيكون في هذا المقام تفصيل". انتهى.
وكأنه يقصد بالتفصيل أنه لا يجوز أن يواجه الإنسان ويقال له: يا
سيد! من باب المدح، ويجوز أن يقال هذا في حقه إذا كان غائبا وكان ممن
يستحق هذا الوصف جمعا بين الأدلة. والله أعلم.
9- الغلو في الصالحين: إذا كان الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم
ممنوعا؛ فالغلو في حق غيره من الصالحين من باب أولى.
والمراد بالغلو في الصالحين: رفعهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إلى
ما لا يجوز إلا لله؛ من الاستغاثة بهم في الشدائد، والطواف بقبورهم،
والتبرك بتربتهم، وذبح القرابين لأضرحتهم، وطلب المدد منهم.
وقد أدخل الشيطان الشرك على قوم نوح من باب الغلو في الصالحين، فيجب
الحذر من ذلك، وإن كان القصد حسنا.
وقد وقع في هذه الأمة مثل ما وقع لقوم نوح لما أظهر الشيطان لكثير من
المفتونين الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ليوقعهم فيما
أوقع به قوم نوح؛ فما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن
البناء والعكوف على قبور الصالحين يعتبر محبة لهم، وأن الدعاء عند
قبورهم يستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء والتوسل بها، فإذا
ألفوا ذلك، نقلهم منه إلى دعاء المقبورين وعبادتهم وسؤالهم الشفاعة من
دون الله عز وجل، فتصبح قبورهم أوثانا تعلق عليها القناديل وتسدل عليها
الستور ويطاف بها وتستلم وتقبل، فإذا ألفوا ذلك؛ نقلهم إلى أن يدعوا
الناس إلى عبادة هذه القبور واتخاذها أعيادا ومناسك، فإذا ألفوا ذلك
وتقرر عندهم، نقلهم إلى اعتقاد أن من نهى عنه فقد تنقص الأولياء
وأبغضهم وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر لهم.
وقد سرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى
العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس
عنهم؛ فعلوا ذلك كله تحت ستار حب الصالحين وتعظيمهم، وقد كذبوا في ذلك؛
لأن محبة الصالحين على الحقيقة تكون على وفق الكتاب والسنة، وذلك
بمعرفة فضلهم والاقتداء بهم في الأعمال الصالحة من غير إفراط ولا
تفريط: {يَقُولُونَ
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ
آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل
فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان! انصرني، أو:
أغثني، أو: ارزقني، أو: أنا في حسبك... ونحو هذه من الأقوال؛
فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه؛ قإن تاب، وإلا؛ قتل، فإن الله سبحانه
وتعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له ولا يدعى
معه إله آخر، والذين يدعون مع الله إلها آخر مثل المسيح والملائكة
والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت
النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم
ويقولون: {مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}
، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله سبحانه رسله تنهى أن يدعى
أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة..."انتهى كلام
الشيخ رحمه الله، وبه يتضح كشف شبهة هؤلاء القبوريين، الذين يبررون
فعلهم هذا بأنهم لا يعتقدون في الأولياء مشاركة الله في الخلق والرزق
والإحياء والإماتة، وإنما يعتقدون فيهم أنهم وسائط بينهم وبين الله في
قضاء حاجاتهم وتفريج كربتهم، وهي نفس الشبهة التي قالها مشركو
الجاهلية؛ كما ذكرها الله في كتابه وأبطلها.
والواقع أن شرك هؤلاء المتأخرين زاد على شرك الجاهلية، فصاروا يهتفون
بأسماء هؤلاء الأموات في كل مناسبة، ولا يذكرون اسم الله إلا قليلا،
وإنما يجري على ألسنتهم اسم الولي دائما، والأولون كانوا يشركون في
الرخاء ويخلصون في الشدة، وهؤلاء شركهم دائم في الرخاء والشدة؛ كما قال
الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله:
وكم هتفوا عند الشدائد باسمها ** كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
فيا علماء المسلمين! أنتم المسئولون عن هذه القطعان الضائعة والتائهة
في الضلال...
لماذا لا تبينون لهم طريق الحق وتنهونهم عن هذا الشرك العظيم وأنتم
تسكنون معهم وتخالطونهم؟!
لماذا ضيعتم ما أوجب الله عليكم من الدعوة والبيان بقوله: {وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} ؟!
أليس العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء جاءوا بإنكار هذا الشرك وجهاد
أهله حتى يكون الدين كله لله؟!
فاتقوا الله الذي حملكم هذه المسئولية وسيسألكم عنها؛ فقد ورد في
الحديث الصحيح أن العالم الذي لا يعمل بعلمه من أول من تسعر بهم النار
يوم القيامة.
إن كنتم ترون هذا شركا وتركتم الناس عليه؛ فهذا أمر خطير، وإن كنتم لا
ترونه شركا؛ قالأمر أشد خطرا؛ لأنكم جهلتم ما هو من أوضح الواضحات!
اللهم! أصلح أحوال المسلمين، واهد ضلالهم؛ إنك على كل شيء قدير.
10- التصوير وسيلة إلى الشرك:
التصوير
والتصوير معناه نقل شكل الشيء وهيئته بواسطة الرسم أو الالتقاط بالآلة
أو النحت وإثبات هذا الشكل على لوحة أو ورقة أو تمثال.
وكان العلماء يتعرضون للتصوير في مواضيع العقيدة؛ لأن التصوير وسيلة من
وسائل الشرك وادعاء المشاركة لله بالخلق أو المحاولة لذلك، وأول شرك
حدث في الأرض كان بسبب التصوير حينما أقدم قوم نوح على تصوير الصالحين
ونصب صورهم على المجالس.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن التصوير بجميع أنواعه، ونهى عنه،
وتوعد من فعله بأشد الوعيد، وأمر بطمس الصور وتغييرها؛ لأن التصوير فيه
مضاهاة لخلق الله عز وجل الذي انفرد بالخلق؛ فهذا الإنسان المصور يحاول
أن يضاهي الله عز وجل فيما انفرد به من الخلق، ولأن التصوير وسيلة من
وسائل الشرك؛ فأول حدوث الشرك في الأرض كان بسبب التصوير، لما زين
الشيطان لقوم نوح تصوير الصالحين، ونصب صورهم على المجالس لأجل تذكر
أحوالهم والاقتداء بهم في العبادة، حتى آل الأمر إلى عبادة تلك الصور،
واعتقاد أنها تنفع وتضر من دون الله.
فالتصوير هو منشأ الوثنية؛ لأن تصوير المخلوق تعظيم له وتعلق به في
الغالب، خصوصا إذا كان المصور له شأن من سلطة أو علم أو صلاح، وخصوصا
إذا عظمت الصورة بنصبها على حائط أو إقامتها في شارع أو ميدان؛ فإن ذلك
يؤدي إلى التعلق بها من الجهال وأهل الضلال، ولو بعد حين، ثم هذا أيضا
فيه فتح باب لنصب الأصنام والتماثيل التي تعبد من دون الله.
وسأورد الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا الموضوع مع التعليق عليها بما
تيسر:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (قال الله تعالى: ومن
أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؛ فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا
شعيرة) . أخرجه البخاري ومسلم.
ومعناه: لا أحد أشد ظلما من المصور؛ لأنه لما صور الصورة على شكل ما
خلقه الله من إنسان أو بهيمة أو غيرهما من ذوات الأرواح؛ صار مضاهيا
لخلق الله الذي هو خالق كل شيء، وهو رب كل شيء، وهو الذي صور جميع
المخلوقات وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها حياتها؛ كما قال تعالى: {خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ} ، وقال تعالى: {هُوَ
اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}
ثم إن الله تحدى هؤلاء المصورين الذين يحاولون مضاهاة خلقه أن يوجدوا
في تلك الصور التي صوروها أرواحا تحيا بها كما في المخلوق الذي صوروا،
وهذا بيان لعجزهم وفشلهم في محاولتهم، وكما أنهم عاجزون عن إيجاد حيوان
ذي روح؛ فهم عاجزون عن إيجاد الثمر والحب؛ فليخلقوا حبة.
2- وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (أشد الناس
عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله) .
فهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بشدة عذاب المصورين يوم القيامة
وسوء عاقبتهم، وإن عاشوا في هذه الدنيا سالمين، وسموا فنانين، وشجعوا
بأنواع التشجيع؛ فإن لهم مصيرا ينتظرهم إذا لم يتوبوا؛ لأنهم بعملهم
هذا يضاهون بخلق الله؛ أي: يشابهون بما يصنعونه من الصور ما صنعه
الله من الخلق وتفرد به وهو الخلاق العليم. {أَمْ
جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ
عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ}
قال الإمام النووي رحمه الله على هذا الحديث: "قيل: هذا محمول
على صانع الصورة لتعبد، وهو صانع الأصنام ونحوها؛ فهذا كافر، وهو أشد
الناس عذابا. وقيل: هو فيمن قصد هذا المعنى الذي في الحديث من
مضاهاته خلقه، واعتقد ذلك؛ فهذا كافر أيضا، وله من شدة العذاب ما
للكافر، ويزيد عذابه بزيادة كفره. فأما من لم يقصد بها العبادة ولا
المضاهاة؛ فهو فاسق صاحب ذنب كبير لا يكفر".
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: "وإذا كان هذا فيمن صور
صورة على مثال ما خلقه الله من الحيوان؛ فكيف بمن سوى المخلوق برب
العالمين، وصرف له شيئا من العبادة.
3- وروى البخاري ومسلم رحمهما الله عن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل
مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم)
.
ومعناه: أنه في يوم القيامة تحضر جميع الصور التي صورها في الدنيا،
ويجعل في كل واحدة منه نفس يعذب بها في جهنم، قلت الصور أم كثرت،
فيقاسي عذابها، بحيث يكون من كل صورة شخص يعذب به في جهنم".
4- وروى البخاري ومسلم رحمهما الله عن ابن عباس أيضا: "من صور
صورة، كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ".
وهذا نوع آخر من العذاب للمصور، ومعناه واضح، وهو أن المصور تحضر أمامه
جميع الصور التي صورها في الدنيا، ثم يؤمر أن ينفخ في كل واحدة منها
الروح، وأنى له ذلك، و {الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ، وإنما هذا تعذيب له وتعجيز له؛
لأنه يكلف ما لا يطيق، فيكون معذبا دائما. فالحديث يدل على طول
تعذيبه وإظهار عجزه عما كان يتعاطاه في دنياه من مضاهاة خلق الله.
5- وروى مسلم رحمه الله عن أبي الهياج؛ قال: (قال
لي علي رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته)
.
ففي هذا الحديث الأمر بطمس الصور، وهو تغييرها عن هيئتها، حتى لا تبقى
على حالها المشابهة لخلق الله، وفيه الأمر بهدم المباني المقامة على
القبور من قباب ومساجد وغيرها من مظاهر الوثنية.
ففي هذا الحديث الأمر بالقضاء على وسيلتين من أكبر وسائل الشرك وذرائعه
المفضية إليه، هما التصوير والبناء على القبور، وهذا وأمثاله من أكبر
مصالح الدين وحماية عقيدة المسلمين.
وقد كثر في زماننا هذا التصوير واستعماله ونصب الصور بتعليقها
والاحتفاظ بالصور التذكارية(2)،
وكثر أيضا في هذا الزمان البناء على القبور، حتى صار ذلك أمرا مألوفا،
وذلك بسبب غربة الدين، وخفاء السنن، وظهور البدع، وسكوت كثير من
العلماء، واستسلامهم للأمر الواقع، حتى أصبح المعروف منكرا والمنكر
معروفا في غالب البلدان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.