الصبر ومنزلته
تقدم الكلام في النهي عن قول (لو) عندما يقع الإنسان في مصيبة وأن
الواجب عليه الصبر والاحتساب.
قال الإمام أحمد رحمه الله: "ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعا
من كتابه".
وفي الحديث الصحيح: "الصبر ضياء". رواه أحمد ومسلم.
قال عمر رضي الله عنه: "وجدنا خير عيشنا بالصبر". رواه
البخاري.
وقال علي رضي الله عنه: "إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من
الجسد"، ثم رفع صوته وقال: "ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر
له".
وقد روى البخاري ومسلم مرفوعا: "ما أعطي أحد عطاء أوسع من
الصبر".
والصبر مشتق من صبر إذا حبس ومنع؛ فهو: حبس النفس عن الجزع، وحبس
اللسان عن التشكي والتسخط، وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب.
وهو ثلاثة أنواع: صبر على فعل ما أمر الله به، وصبر على ترك ما نهى
الله عنه، وصبر على ما قدره الله من المصائب.
قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ
قَلْبَهُ} : قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم
أنها من عند الله، فيرضى ويسلم". وقال غيره في معنى الآية: أي:
من أصابته مصيبة، فعلم أنها بقدر الله، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء
الله؛ هدى الله قلبه وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقينا
صادقا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه. وقال سعيد بن جبير: {وَمَنْ
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ؛ يعني: يسترجع
ويقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} .
وفي الآية الكريمة دليل على أن الأعمال من الإيمان، وعلى أن الصبر سبب
لهداية القلوب، وأن المؤمن يحتاج إلى الصبر في كل المواقف:
يحتاج إليه مع نفسه أمام أوامر الله ونواهيه بإلزام نفسه بالتزامها.
ويحتاج إلى الصبر في مواقف الدعوة إلى الله تعالى على ما يناله في
سبيلها من مشقة وأذى؛ قال تعالى: {ادْعُ
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
إلى قوله: {وَاصْبِرْ
وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}
.
ويحتاج إلى الصبر في موقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما
يلاقيه من أذى الناس؛ قال تعالى عن لقمان: {يَا
بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ} .
المؤمن بحاجة إلى الصبر أمام مواجهته المصائب التي تجري عليه؛ بأن يعلم
أنها من عند الله؛ فيرضى، ويسلم، ويحبس نفسه عن الجزع والتسخط الذي قد
يظهر على اللسان والجوارح.
وهذا من صميم العقيدة؛ لأن الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة،
وثمرته الصبر على المصائب؛ فمن لم يصبر على المصائب؛ فهذا دليل على
فقدان هذا الركن أو ضعفه لديه، ومن ثم سيقف أمام المصائب موقف الجزع
والتسخط، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا كفر يخل بالعقيدة
الإسلامية:
ففي "صحيح مسلم"عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (اثنتان في
الناس هما بهم كفر الطعن في النسب، والنياحة على الميت) .
فهاتان الخصلتان من خصال الكفر؛ لأنهما من أعمال الجاهلية، ولكن ليس من
قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرا الكفر المطلق، وفرق بين الكفر
المعرف باللام - كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس
بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة) - وبين كفر
منكرا كما في هذا الحديث.
وفي "الصحيحين": (ليس منا من
ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) .
وقوله في الحديث: "ودعا بدعوى الجاهلية": قال ابن القيم:
"الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب
إلى المذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعضهم على بعض؛ يدعو إلى ذلك
ويوالي عليه ويعادي؛ فكل هذا من دعوى الجاهلية..."انتهى.
والله سبحانه يجري المصائب على عباده لحكم عظيمة، منها أنه يكفر بها
خطاياهم؛ كما في حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا
أراد الله بعبده الخير؛ عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده
الشر؛ أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة) . رواه
الترمذي وحسنه الحاكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المصائب نعمة لأنها مكفرات
للذنوب، وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها، وتقتضي الإنابة إلى الله والذل
له والإعراض عن الخلق... إلى غير ذلك من المصالح العظيمة، فنفس
البلاء يكفر الله به الذنوب والخطايا، وهذا من أعظم النعم، فالمصائب
رحمة ونعمة في حق عموم الخلق؛ إلا أن يدخل صاحبها في معاص أعظم مما كان
قبل ذلك، فيكون شرا عليه من جهة ما أصابه في دينه؛ فإن من الناس من إذا
ابتلي بفقر أو مرض أو وجع؛ حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب والكفر
الظاهر وترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له الضرر في دينه؛
فهذا كانت العافية خيرا له من جهة ما أورثته المصيبة، لا من جهة نفس
المصيبة؛ كما أن من أوجبت له المصيبة صبرا وطاعة؛ كانت في حقه نعمة
دينية؛ فهي بكونها فعل الرب عز وجل رحمة للخلق، والله تعالى محمود
عليها، فمن ابتلي فرزق الصبر؛ كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له
بعد ما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له ثناء ربه عليه؛ قال تعالى: {أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ، وحصل له
غفران السيئات ورفع الدرجات؛ فمن قام بالصبر الواجب؛ حصل له لك".
انتهى.
ومن الحكم الإلهية في إجراء المصائب ابتلاء العباد عند وقوعها؛ من يصبر
ويرضى، ومن يجزع ويسخط؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن
عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم؛ فمن رضي؛
فله الرضى، ومن سخط؛ فله السخط) . رواه الترمذي وحسنه.
والرضى: هو أن يسلم العبد أمره إلى الله ويحسن الظن به ويرغب في
ثوابه.
والسخط: هو الكراهية للشيء، وعدم الرضى به؛ أي: من سخط على الله
فيما دبره؛ فله السخط من الله.
وفي هذا الحديث أن الجزاء من جنس العمل، وفيه إثبات الرضى من الله
سبحانه على ما يليق به كسائر صفاته، وفيه بيان الحكمة في إجراء المصائب
على العباد، وفيه إثبات القضاء والقدر، وأن المصائب تجري بقضاء الله
وقدره، وفيه مشروعية الصبر على المصائب والرجوع إلى الله والاعتماد
عليه وحده في كل ملمة ودفع كل مكروه.
وقد أمر الله بالاستعانة بالصبر والصلاة على ما يواجه الإنسان في هذه
الحياة من متاعب ومشاق؛ لأن من وراء ذلك الخير والعاقبة الحميدة، وأخبر
أنه مع الصابرين بنصره وتأييده؛ قال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ، مما يدل على أهمية الصبر
وحاجة المؤمن إليه، وهو من مقومات العقيدة.