حدوث الشرك في توحيد الألوهية
مطلوب من المسلم بعدما يعرف الحق أن يعرف ما يضاده من
الباطل ليجتنبه، كما يقال:
عرفت الشر لا للشـ ** ـر لكن
لتوقيـــه
وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: "كان
الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن
الشر مخافة أن أقع فيه".
ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
"يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف
الجاهلية".
وقبل ذلك قال الخليل عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ
اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ
الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}
.
فهذا مما يوجب شدة الخوف من الشرك ومعرفته ليجتنبه
المسلم. فالشرك هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله؛ كالدعاء
والذبح والنذر والاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.
والتوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة. وهو أصيل في بني آدم، والشرك
طارئ عليه؛ قال تعالى: {كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}
:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان بين آدم ونوح
عشرة قرون؛ كلهم على الإسلام".
قال ابن القيم رحمه الله: "هذا القول هو الصحيح في
الآية".
وصحح هذا القول أيضا ابن كثير.
وأول ما حدث الشرك في الأرض في قوم نوح حين غلوا في
الصالحين: {وَقَالُوا
لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا
وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} .
قال البخاري في "صحيحه"عن ابن عباس رضي الله
عنهما: "هذه أسماء رجال صالحون من قوم نوح، فلما هلكوا؛ أوحى
الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها
أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي
العلم؛ عبدت".
قال ابن القيم: "قال غير واحد من السلف: لما
ماتوا؛ عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد،
فعبدوهم".
ومن هذا الأثر الذي رواه البخاري عن ابن عباس في غلو
قوم نوح في الصالحين وتصويرهم إياهم والاحتفاظ بصورهم ونصبها على
المجالس منه ندرك خطورة التصوير وخطورة تعليق الصور على الجدران وخطورة
نصب التماثيل في الميادين والشوارع، وأن ذلك يئول بالناس إلى الشرك،
بحيث يتطور تعظيم تلك الصور والتماثيل المنصوبة، فيؤدي ذلك إلى
عبادتها؛ كما حدث في قوم نوح.
ولهذا جاء الإسلام بتحريم التصوير ولعن المصورين
وتوعدهم بأشد الوعيد، وأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة؛ سدا لذريعة
الشرك، وابتعادا عن مضاهاة خلق الله عز وجل.
وندرك من هذه القصة مدى حرص الشيطان لعنه الله على
إغواء بني آدم، ومكره بهم، وأنه قد يأتيهم من ناحية استغلال العواطف
ودعوى الترغيب في الخير؛ فإنه لما رأى في قوم نوح ولوعهم بالصالحين
ومحبتهم لهم؛ دعاهم إلى الغلو في هذه المحبة؛ بحيث أمرهم بنصب الصور
التذكارية لهم، وهدفه من ذلك التدرج بهم في إخراجهم من الحق إلى
الضلال، ولم يقصر نظره على الحاضرين، بل امتد إلى أجيالهم اللاحقة
الذين قل فيهم العلم وفشا فيهم الجهل، فزين لهم عبادة هذه الصور،
وأوقعهم في الشرك الأكبر، وكابروا نبيهم بقولهم: {لَا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وقد تلاعب
الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام بكل قوم على قدر عقولهم:
فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين
صوروا؛ كما في قوم نوح، وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين.
وأما خواصهم؛ فاتخذوا الأصنام على صور الكواكب المؤثرة في العالم
بزعمهم، وجعلوا لهم بيوتا وسدنة وحجابا وقربانا، ولم يزل هذا في الدنيا
قديما وحديثا، وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة، وهم قوم إبراهيم عليه
السلام، الذين ناظرهم في بطلان الشرك، وكسر حجتهم بعلمه وآلهتهم بيده،
فطلبوا تحريقه. وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما، وزعموا أنه يستحق
العبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي. وطائفة تعبد النار، وهم
المجوس. وطائفة تعبد الماء. وطائفة تعبد الحيوانات؛ فطائفة عبدت
الخيل، وطائفة عبدت البقر. وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات.
وطائفة تعبد الجن. وطائفة تعبد الشجر. وطائفة تعبد
الملائكة...". انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
وبه تعرف معنى قوله تعالى: {وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}
.
وقوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ} . وقوله تعالى: {ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا
سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} . هؤلاء
المشركون لما تركوا عبادة الله وحده لا شريك له- وهي التي خلقوا من
أجلها وبها سعادتهم-؛ ابتلوا بعبادة الشياطين، وتفرقت بهم الأهواء
والشهوات؛ كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
هربوا من الرق الذي خلقوا له
** فبلوا برق النفس والشيطان
فلا اجتماع للقلوب ولا صلاح للعالم إلا بالتوحيد؛ كما
قال تعالى: {أَمِ
اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ
فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ
رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
ولذلك إذا خلت الأرض من التوحيد؛ قامت القيامة؛ كما
روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا
تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله) .
ومثل تفرق المشركين الأولين في عباداتهم ومعبوداتهم
تفرق القبوريين اليوم في عبادة القبور؛ فكل منهم له ضريح خاص يتقرب
إليه بأنواع العبادة، وكل طريقة من الطرق الصوفية لها شيخ اتخذه مريدوه
ربا من دون الله يشرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله.
وهكذا تلاعب الشياطين ببني آدم، ولا نجاة من شره ومكره
إلا بتوحيد الله والاعتصام بكتابه وسنة رسوله.
نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا
الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه؛ إنه هو مولانا؛ فنعم المولى ونعم النصير