علاقة توحيد الإلهية بتوحيد
الربوبية والعكس
وعلاقة أحد النوعين بالآخر أن توحيد الربوبية مستلزم
لتوحيد الإلهية، بمعنى أن الإقرار بتوحيد الربوبية يوجب الإقرار بتوحيد
الإلهية والقيام به.
فمن عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره؛ وجب عليه أن
يعبده وحده لا شريك له.
وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ بمعنى أن
توحيد الربوبية يدخل ضمن توحيد الألوهية؛ فمن عبد الله وحده ولم يشرك
به شيئا؛ فلا بد أن يكون قد اعتقد أنه هو ربه وخالقه؛ كما قال إبراهيم
الخليل عليه الصلاة والسلام: {أَفَرَأَيْتُمْ
مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي
فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا
مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}
.
والألوهية والربوبية: تارة يذكران معا فيفترقان في
المعنى ويكون أحدهما قسيما للآخر؛ كما في قوله تعالى: {قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ}
؛ فيكون معنى الرب: هو المالك المتصرف في الخلق، ويكون معنى الإله:
أنه المعبود بحق المستحق للعبادة وحده. وتارة يذكر أحدهما مفردا عن
الآخر، فيجتمعان في المعنى؛ كما في قول الملكين للميت في القبر: من
ربك؟ ومعناه: من إلهك وخالقك؟ وكما في قوله تعالى: {الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا
رَبُّنَا اللَّهُ} ، وقوله تعالى: {قُلْ
أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} ، وقوله: {إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}
؛ فالربوبية في هذه الآيات هي الإلهية.
والذي دعت إليه الرسل من النوعين هو توحيد الألوهية؛
لأن توحيد الربوبية يقر به جمهور الأمم، ولم ينكره إلا شواذ من
الخليقة؛ أنكروه في الظاهر فقط، والإقرار به وحده لا يكفي؛ فقد أقر به
إبليس: {قَالَ رَبِّ
بِمَا أَغْوَيْتَنِي} ...، وأقر به المشركون الذين
بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما دلت على ذلك الآيات
البينات؛ كما قال تعالى: {وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}
فمن أقر بتوحيد الربوبية فقط؛ لم يكن مسلما، ولم يحرم
دمه ولا ماله، حتى يقر بتوحيد الألوهية؛ فلا يعبد إلا الله.
وبهذا يتبين بطلان ما يزعمه علماء الكلام والصوفية من
أن التوحيد المطلوب من العباد هو الإقرار بأن الله هو الخالق المدبر،
ومن أقر بذلك؛ صار عندهم مسلما، ولهذا يعرفون التوحيد في الكتب التي
ألفوها في العقائد بما ينطبق على توحيد الربوبية فقط؛ حيث يقولون
مثلا: التوحيد هو الإقرار بوجود الله وأنه الخالق الرازق...
إلخ!! ثم يوردون أدلة توحيد الربوبية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن عامة
المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا
التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في
صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له. وأشهر الأنواع
الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد،
وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها...
ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا: لا إله
إلا الله، حتى يجعلوا معنى الألوهية القدرة على الاختراع! ومعلوم أن
المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولا لم
يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى
إنهم كانوا يقرون بالقدر أيضا، وهم مع هذا مشركون...".
هذا كلام الشيخ رحمه الله، وهو واضح في الرد على من
اعتقد أن التوحيد المطلوب من الخلق هو الإقرار بتوحيد الربوبية، ويؤيد
هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ؛ فالرسل لم يقولوا لأممهم:
أقروا أن الله هو الخالق! لأنهم مقرون بهذا، وإنما قالوا لهم: {اُعْبُدُوا
اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا: "التوحيد الذي
جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده؛ بأن يشهد أن لا إله
إلا الله لا يعبد إلا إياه...".
إلى أن قال: "وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد
الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من
أهل الكلام والتصوف، ويظن هولاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل؛ فقد
أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه؛ فقد فنوا في غاية
التوحيد.
فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات،
ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء؛ لم يكن موحدا،
حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده، فيقر بأن الله وحده هو الإله
المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، والإله هو
المألوه الذي يستحق العبادة، وليس الإله بمعنى القادر على الاختراع،
فإذا فسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا المعنى هو
أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد؛ كما يفعل ذلك من
يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه؛ لم
يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن
مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا
مشركين.
قال تعالى: {وَمَا
يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}
؛ قال طائفة من السلف: تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون:
الله، وهم مع هذا يعبدون غيره.
فليس كل من أقر بأن الله تعالى رب كل شيء وخالقه يكون
عابدا له دون ما سواه، داعيا له دون ما سواه، يوالي فيه ويعادي فيه
ويطيع رسله...
وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا
الشفعاء الذين يشركونهم به، وجعلوا له أندادا...".
إلى أن قال رحمه الله: "ولهذا كان من أتباع هؤلاء
من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها ويصوم وينسك لها ويتقرب إليها،
ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي،
فإذا جعلتها سببا وواسطة؛ لم أكن مشركا، ومن المعلوم بالاضطرار من دين
الإسلام أن هذا شرك..."انتهى كلامه.