ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر
إن من أعظم ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر صحة إيمان
الشخص بتكامل أركانه؛ لأن الإيمان بذلك من أركان الإيمان الستة التي لا
يتحقق إلا بها؛ كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر طمأنينة القلب
وارتياحه وعدم القلق في هذه الحياة عندما يتعرض الإنسان لمشاق الحياة؛
لأن العبد إذا علم أن ما يصيبه فهو مقدر لا بد منه ولا راد له، واستشعر
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (واعلم
أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) ؛ فإنه
عند ذلك تسكن نفسه ويطمئن باله؛ بخلاف من لا يؤمن بالقضاء والقدر؛ فإنه
تأخذه الهموم والأحزان، ويزعجه القلق حتى يتبرم بالحياة ويحاول الخلاص
منها ولو بالانتحار؛ كما هو مشاهد من كثرة الذين ينتحرون فرارا من
واقعهم وتشاؤما من مستقبلهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالقضاء والقدر، فكان
تصرفهم ذلك نتيجة حتمية لسوء اعتقادهم.
وقد قال الله تعالى: {مَا
أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا
فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا
بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
فأخبرنا سبحانه أنه قدر ما يجري من المصائب في الأرض وفي الأنفس؛ فهو
مقدر ومكتوب لا بد من وقوعه مهما حاولنا دفعه، ثم بين أن الحكمة من
إخباره لنا بذلك لأجل أن نطمئن فلا نجزع ولا نأسف عند المصائب ولا نفرح
عند حصول النعم فرحا ينسينا العواقب، بل الواجب علينا الصبر عند
المصائب وعدم اليأس من روح الله، والشكر عند الرخاء وعدم الأمن من مكر
الله، ونكون مرتبطين بالله في الحالتين.
قال عكرمة رحمه الله: "ليس أحد إلا وهو يفرح
ويحزن؛ ولكن جعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا".
وليس معنى هذا أن العبد لا يتخذ الأسباب الواقية من
الشر والجالبة للخير، وإنما يتكل على القضاء والقدر؛ كما يظن بعض
الجهال، هذا من أكبر الغلط والجهل؛ فإن الله أمرنا باتخاذ الأسباب،
ونهانا عن التكاسل والإهمال، ولكن إذا اتخذنا السبب وحصل لنا عكس
المطلوب؛ فعلينا أن لا نجزع؛ لأن هذا هو القضاء المقدر، ولو قدر غيره؛
لكان، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (احرص
على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تجزعن، وإن أصابك شيء؛ فلا تقل لو أني
فعلت كذا؛ كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو)
تفتح عمل الشيطان) . رواه مسلم.
وعلى العبد مع هذا أن يحاسب نفسه ويصحح أخطاءه؛ فإنه
لا يصيبه شيء إلا بسبب ذنوبه؛ قال تعالى: {وَمَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الثبات عند مواجهة
الأزمات، واستقبال مشاق الحياة بقلب ثابت ويقين صادق لا تزلزله الأحداث
ولا تهزه الأعاصير؛ لأنه يعلم أن هذه الحياة دار ابتلاء وامتحان وتقلب؛
كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ
أَخْبَارَكُمْ}
كم جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صحابته
من المحن والشدائد، لكنهم واجهوها بالإيمان الصادق والعزم الثابت حتى
اجتازوها بنجاح باهر، وما ذاك إلا لإيمانهم بقضاء الله وقدره،
واستشعارهم لقوله تعالى: {قُلْ لَنْ
يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر تحويل المحن إلى
منح، والمصائب إلى أجر؛ كما قال تعالى: {مَا
أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها
من عند الله، فيرضى ويسلم".
ومعنى الآية الكريمة: من أصابته مصيبة، فعلم أنها من
قدر الله، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله؛ هدى الله قلبه، وعوضه عما
فاته من الدنيا هدًى في قلبه ويقينا صادقا، وقد يخلف الله عليه ما كان
أخذ منه أو خيرا منه، وهذا في نزول المصائب التي هي من قضاء الله
وقدره، لا دخل للعبد في إيجادها إلا من ناحية أنه تسبب في نزولها به،
حيث قصر في حق الله عليه بفعل أمره وترك نهيه؛ فعليه أن يؤمن بقضاء
الله وقدره، ويصحح خطأه الذي أصيب بسببه.
وبعض الناس يخطئون خطأ فاحشا عندما يحتجون بالقضاء
والقدر على فعلهم للمعاصي وتركهم للواجبات، ويقولون: هذا مقدر
علينا! ولا يتوبون من ذنوبهم؛ كما قال المشركون: {لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ
شَيْءٍ} وهذا فهم سيئ للقضاء والقدر؛ لأنه لا يحتج بهما على
فعل المعاصي والمصائب، وإنما يحتج بهما على نزول المصائب؛ فالاحتجاج
بهما على فعل المعاصي قبيح؛ لأنه ترك للتوبة وترك للعمل الصالح المأمور
بهما، والاحتجاج بهما على المصائب حسن؛ لأنه يحمل على الصبر
والاحتساب.
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر أنه يدفع الإنسان
إلى العمل والإنتاج والقوة والشهامة؛ فالمجاهد في سبيل الله يمضي في
جهاده ولا يهاب الموت؛ لأنه يعلم أنه لا بد منه، وأنه إذا جاء لا يؤخر،
لا يمنع منه حصون ولا جنود، {أَيْنَمَا
تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُّشَيَّدَةٍ} {قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} وهكذا حينما يستشعر المجاهد
هذه الدفعات القوية من الإيمان بالقدر؛ يمضي في جهاده حتى يتحقق النصر
على الأعداء وتتوفر القوة للإسلام والمسلمين.
وكذلك بالإيمان بالقضاء والقدر يتوفر الإنتاج والثراء؛
لأن المؤمن إذا علم أن الناس لا يضرونه إلا بشيء قد كتبه الله عليه،
ولا ينفعونه إلا بشيء قد كتبه الله له؛ فإنه لن يتواكل، ولا يهاب
المخلوقين، ولا يعتمد عليهم، وإنما يتوكل على الله، ويمضي في طريق
الكسب، وإذا أصيب بنكسة، ولم يتوفر له مطلوبه؛ فإن ذلك لا يثنيه عن
مواصلة الجهود، ولا يقطع منه باب الأمل، ولا يقول: لو أنني فعلت كذا؛
كان كذا وكذا! ولكنه يقول: قدر الله وما شاء فعل. ويمضي في طريقه
متوكلا على الله، مع تصحيح خطئه، ومحاسبته لنفسه، وبهذا يقوم كيان
المجتمع، وتنتظم مصالحه، وصدق الله حيث يقول: {وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ
أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}
والحمد لله رب العالمين.
خاتمة
وفيها فصلان:
فصل في الولاء والبراء