الأصل السادس في العقيدة
الإيمان بالقضاء والقدر
لا شك أن إثبات القضاء والقدر ووجوب الإيمان بهما وبما
تضمناه من أعظم أركان الإيمان؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر
خيره وشره) ، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ
بِقَدَرٍ} .
والقدر: مصدر: قدرت الشيء: إذا أحطت بمقداره.
والمراد هنا: تعلق علم الله بالكائنات وإرادته لها
أزلا قبل وجودها؛ فلا يحدث شيء إلا وقد علمه الله وقدره وأراده.
ومذهب أهل السنة والجماعة هو الإيمان بالقدر خيره
وشره.
والإيمان بالقدر يتضمن أربع درجات:
الأولى: الإيمان بعلم الله الأزلي بكل شيء قبل
وجوده، ومن ذلك علمه بأعمال العباد قبل أن يعملوها.
الثانية: الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح
المحفوظ.
الثالثة: الإيمان بمشيئة الله الشاملة لكل حادث
وقدرته التامة عليه.
الرابعة: الإيمان بإيجاد الله لكل المخلوقات، وأنه
الخالق وحده، وما سواه مخلوق.
ومن أدلة المرتبة الأولى والثانية: قوله تعالى:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ}
ومن أدلة المرتبة الثالثة: قوله تعالى: {وَمَا
تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقوله
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
من أدلة المرتبة الرابعة: قوله تعالى: {اللَّهُ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ
الْعَلِيمُ}
والتقدير نوعان:
1. تقدير عام شامل لكل كائن، وهو المكتوب في اللوح
المحفوظ؛ فقد كتب الله فيه مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، كما في
الحديث الذي رواه أبو داوود في "سننه"عن عبادة بن الصامت رضي الله
عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أول ما خلق
الله القلم، قال له اكتب! قال وما أكتب؟ قال اكتب مقادير كل شيء
حتى تقوم الساعة) . وهذا التقدير يعم جميع المخلوقات.
2. وتقدير مفصل للتقدير العام، وهو أنواع:
النوع الأول: التقدير العمري؛ كما في حديث ابن مسعود
في شأن ما يكتب على الجنين وهو في بطن أمه من كتابة أجله ورزقه وعمله
وشقاوته أو سعادته.
النوع الثاني: التقدير الحولي، وهو ما يقدر في ليلة
القدر من وقائع العام؛ كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ
أَمْرٍ حَكِيمٍ}
النوع الثالث: التقدير اليومي، وهو ما يقدر من حوادث
اليوم من حياة وموت وعز وذل... إلى غير ذلك؛ كما في قوله
تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}
ولا بد للمسلم من الإيمان بالقدر العام وتفاصيله؛ فمن
جحد شيئا منهما؛ لم يكن مؤمنا بالقدر، ومن لم يؤمن بالقدر؛ فقد جحد
ركنا من أركان الإيمان؛ كما عليه الفرقة القدرية الضالة التي تنكر
القدر، وهم في هذا الإنكار على قسمين:
القسم الأول:
القدرية الغلاة الذين ينكرون علم الله بالأشياء قبل
كونها، وينكرون كتابته لها في اللوح المحفوظ، ويقولون: إن الله أمر
ونهى، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه؛ فالأمر أنف (أي: مستأنف)،
لم يسبق في علم الله وتقديره. وهذه الفرقة قد انقرضت أو كادت.
القسم الثاني:
تقر بالعلم، ولكنها تنفي دخول أفعال العباد في القدر،
وتزعم أنها مخلوقة لهم استقلالا، لم يخلقها الله ولم يردها، وهذا مذهب
المعتزلة.
وقابلتهم طائفة غلت في إثبات القدر حتى سلبوا العبد
قدرته واختياره، وقالوا: إن العبد مجبر على فعله، ولذلك سموا
بالجبرية.
وكلا المذهبين باطل لأدلة كثيرة؛ منها: قوله
تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} لأن قوله تعالى:
{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} : يرد على الجبرية؛
لأن الله تعالى أثبت للعباد مشيئة، وهم يقولون: إنهم مجبورون لا
مشيئة لهم. وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} : فيه الرد على القدرية القائلين بأن
مشيئة العبد مستقلة بإيجاد الفعل من غير توقف على مشيئة الله، وهذا قول
باطل؛ لأن الله علق مشيئة العبد على مشيئته سبحانه، ربطها بها.
وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في هذه القضية، فلم
يُفَرِّطوا تفريط القدرية النفاة، ولم يُفَرِّطوا إفراط الجبرية
الغلاة.
فمذهب سلف الأمة وأئمتها أن جميع أنواع الطاعات
والمعاصي والكفر والفساد واقع بقضاء الله وقدره، لا خالق سواه؛ فأفعال
العباد كلها مخلوقة لله؛ خيرها وشرها، حسنها وقبيحها، والعبد غير مجبور
على أفعاله، بل هو قادر عليها وقاصد لها وفاعل لها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الأعمال
والأقوال والطاعات والمعاصي هي من العبد، بمعنى أنها قائمة بالعبد
وحاصلة بمشيئته وقدرته، وهو المتصف بها والمتحرك بها الذي يعود حكمها
عليه، وهي من الله، بمعنى أنه خلقها قائمة بالعبد، وجعلها عملا له
وكسبا؛ كما يخلق المسببات بأسبابها؛ فهي من الله مخلوقة له، ومن العبد
صفة قائمة به واقعة بقدرته وكسبه؛ كما إذا قلنا: هذه الثمرة من
الشجرة، وهذا الزرع من الأرض؛ بمعنى أنه حدث منها، ومن الله بمعنى أنه
خلقه منها، لم يكن بينهما تناقض..."انتهى.
وقال السفاريني: "والحاصل أن مذهب أهل السلف
ومحققي أهل السنة أن الله تعالى خلق قدرة العبد وإرادته وفعله، وأن
العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله، والله سبحانه جعله فاعلا له محدثا
له؛ قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
...؛ فأثبت مشيئة العبد، وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئة الله،
وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد، وأنها لا تكون إلا
بمشيئة الله..."انتهى.
وأقول: إن مما يؤيد هذا أن الله أعطى الإنسان عقلا
وقدرة واختيارا، ولا يحتسب فعله له أو عليه؛ إلا إذا توفرت فيه هذه
القوى.
فالمجنون والمعتوه أو المكره لا اعتبار لما يصدر منهم من الأقوال والأفعال، ولا يؤاخذون عليها، مما يدل على أنه ليس بمجبر ولا مستقل بنفسه. والله المستعان