فسوء الظن بالله خطير؛ لأن حسن الظن بالله من واجبات التوحيد، وسوء
الظن به ينافي التوحيد.
وقد وصف الله المنافقين أنهم يطنون به غير الحق، فقال تعالى:
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ
يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ
الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}
وأخبر عنهم في الآية الأخرى أنهم يظنون به ظن السوء، فقال: {وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ
الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}
قال الإمام ابن القيم في تفسير الآية الأولى: "فسر هذا الظن بأنه
سبحانه لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر
الله وحكمته؛ ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر
رسوله، وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون
والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن لا يليق به
سبحانه ولا بحكمته وحمده ووعده الصادق؛ فمن ظن أنه يديل الباطل على
الحق إدالة مستمرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه
وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن
ذلك لمشيئة مجردة؛ فذلك ظن الذين كفروا؛ فويل للذين كفروا من النار.
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم،
ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنه
بربه ظن السوء.
ولو فتشت من فتشت؛ لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان
ينبغي أن يكون كذا وكذا؛ فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم.
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ** وإلا فإني لا أخالك ناجيا
وقال ابن القيم رحمه الله: "فمن ظن به أنه لا ينصر رسوله، ولا يتم
أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم، وأنه لا
ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة
مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا؛ فقد ظن
بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته؛
فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن
تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به؛
فمن ظن به ذلك؛ فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله.
وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه؛ فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه
وعظمته، وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة
وغاية محمودة يستحق عليها الحمد، وظن أن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة
عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فواتها، وأن تلك الأسباب المكروهة
له المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة؛ لإفضائها إلى ما يحب، وإن
كانت مكروهة له؛ فما قدرها سدى ولا شاءها عبثا ولا خلقها باطلا، {ذَلِكَ
ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ
النَّارِ}
وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله
بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف
موجب حكمته وحمده.
فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه؛ فقد ظن به ظن السوء.
ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين
أعدائه؛ فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي، لا يرسل إليهم رسله،
ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملا كالأنعام؛ فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه لا يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار؛ يجازي
المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا
فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسوله، وأن أعداءه كانوا هم
الكاذبين؛ فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه على امتثال
أمره ويبطله بلا سبب من العبد، وأنه يعاقبه بما لا صنع له فيه ولا
اختيار له ولا قدرة ولا إرادة له في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو
سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه
بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله، ويجريها على أيديهم ليضلوا بها
عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده
في الجحيم في أسفل سافلين، وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله
ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن عنده سواء، ولا
يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا؛ فالعقل لا يقضي
بقبح أحدهما وحسن الآخر؛ فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل،
وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزا بعيدة، وأشار إليه إشارات
ملغزة، ولم يصرح به، وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من
خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه
وتأويله على غير تأويله ويتطلبوا له الوجوه والاحتمالات المستكرهة
والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان،
وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل
أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفونه من خطابهم ولغتهم، مع
قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ويريحهم من الألفاظ
التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى
والبيان؛ فقد ظن به ظن السوء.
فإنه إن قال: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي
عبر به هو وسلفه؛ فقد ظن بقدرته العجز. وإن قال: إنه قادر ولم يبين
وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم بل يوقع في الباطل
المحال والاعتقاد الفاسد؛ فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء.
ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى
والحق في كلامهم، وأما كلام الله؛ فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه
والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المشركين والحيارى هو الهدى والحق؛ فهذا
من أسوأ الظن.
فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين بالله غير الحق ظن
الجاهلية...".
انتهى كلام الإمام ابن القيم في بيان من هم الذين يظنون بالله غير الحق
ظن الجاهلية، ومن أراد استيفاءه؛ فليراجعه في "زاد المعاد".
والله والمستعان