التوكل
التوكل على الله من أعظم أنواع العبادة التي يجب
إخلاصها لله؛ قال تعالى: ( وَعَلَى
اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(المائدة: من
الآية23)
التوكل : هو الاعتماد على الله سبحانه وتعالى في حصول المطلوب، ودفع
المكروه، مع الثقة به وفعل الأسباب المأذون فيها، وهذا أقرب تعريف له،
ولا بد من أمرين:
الأول : أن يكون الاعتماد على الله اعتمادا صادقا حقيقيا .
الثاني : فعل الأسباب المأذون فيها .
فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب، نقص توكله على الله، ويكون قادحا في
كفاية الله، فكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول
المطلوب وزال المكروه .
ومن جعل اعتماده على الله ملغيا للأسباب، فقد طعن في حكمة الله، لأن
الله جعل لكل شي سببا، فمن اعتمد على الله اعتمادا مجردا، كان قادحا في
حكمة الله، لأن الله حكيم، يربط الأسباب بمسبباتها، كمن يعتمد على الله
في حصول الولد وهو لا يتزوج .
والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم المتوكلين، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب،
فكان يأخذ الزاد في السفر، ولما خرج إلى أُحد ظاهر بين درعين، أي : لبس
درعين اثنين، ولما خرج مهاجرا أخذ من يدله الطريق ولم يقل سأذهب مهاجرا
وأتوكل على الله، ولن أصطحب معي من يدلني الطريق، وكان صلى الله عليه
وسلم يتقي الحر والبرد ، ولم ينقص ذلك من توكله .
والتوكل ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : توكل عبادة وخضوع، وهو الاعتماد المطلق على من توكل عليه، بحيث
يعتقد أن بيده جلب النفع ودفع الضر، فيعتمد عليه اعتمادا كاملا، مع
شعوره بافتقاره إليه، فهذا يجب إخلاصه لله تعالى، ومن جعل التوكل في
ذلك لغير الله، فهو مشرك شركا أكبر، كالذين يعتمدون على الصالحين من
الأموات والغائبين ونحوهم من الطواغيت في الأمور التي لا يقدر عليها
إلا الله؛ حيث يتوكلون عيهم في تحقيق المطالب من النصر والحفظ والرزق
أو الشفاعة؛ فهذا شرك أكبر. وهذا لا يكون إلا ممن يعتقد أن
لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون، فيعتمد عليهم في جلب المنافع ودفع المضار.
قال تعالى:(وَعَلَى
اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)
أي :
على الله اعتمدوا .
فإن التوكل من الإيمان ومن مقتضياته
فأمر الله سبحانه بالتوكل عليه
وحده، وجعل التوكل عليه شرطا في الإيمان كما جعله شرطا في الإسلام في
قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ
تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} ؛ فدل على انتفاء الإيمان والإسلام عمن لم يتوكل على
الله أو توكل على غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو من أصحاب القبور
والأضرحة وسائر الأوثان لأنه
اعتماد كلى على غير الله، فهو شرك أكبر ينتفي له الإيمان كله,
وهذه الآية تقتضي انتفاء كمال الإيمان
بانتفاء كمال التوكل على الله,
وكلما قوي إيمان العبد؛ كان توكله أقوى،
وإذا ضعف الإيمان؛ ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفا؛ كان دليلا على
ضعف الإيمان ولا بد، والله تعالى في مواضع من كتابه يجمع بين التوكل
والعبادة، وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل
والإسلام، وبين التوكل والهداية؛ فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات
الإيمان والإحسان لجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها كمنزلة الرأس
من الجسد؛ فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن؛ فكذلك لا يقوم الإيمان
ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل ".
وقد جعل الله التوكل عليه من أبرز صفات المؤمنين، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ}
(الأنفال: من الآية2) ؛
أي: يعتمدون عليه بقلوبهم؛ فلا يرجون سواه. وفي الآية وصف المؤمنين
حقا بثلاثة مقامات من مقامات الإحسان، وهي: الخوف، وزيادة الإيمان،
والتوكل على الله وحده.
ففي قوله : ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ً َ )، أي : خافت لما فيه من تعظيم
الله تعالى ، مثال ذلك : رجل هم بمعصية ، فذكر الله أو ذكر به ، وقيل
له : اتق الله . فإن كان مؤمنا ، فإنه سيخاف ، وهذا هو علامة الإيمان
الوصف الثاني : قوله : ( وَإِذَا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا ) ، أي : تصديق
وامتثالا
الوصف الثالث : قوله : ( وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُون ) [الأنفال : 2]. أي : يعتمدون على الله لا على
غيره ، وهم مع ذلك يعملون الأسباب، وهذا هو الشاهد .
الثاني : التوكل في
الأسباب الظاهرة؛ كمن يتوكل على سلطان أو أمير أو أي شخص حي قادر فيما
أقدره الله من عطاء أو دفع أذى ونحو ذلك؛ فهذا شرك أصغر؛ لأنه اعتماد
على الشخص كالاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه وغير ذلك، مثل
اعتماد كثير من الناس على وظيفته في حصوله على رزقه، ولهذا تجد الإنسان
يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا اعتماد افتقار، فتجد في نفسه من
المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر، فهو لم يعتقد أنه مجرد
سبب، بل جعله فوق السبب .
والأسباب لا يعتمد عليها، وإنما
يعتمد على الله سبحانه الذي هو مسبب الأسباب وموجد السبب والمسبب.
ومما سبق يتبين أن التوكل في دفع المضار
وتحصيل الأرزاق وما لا يقدر عليه إلا الله من أعظم أنواع العبادة , وهو
فريضة يجب إخلاصها لله، وهو أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد
وأعظمها وأجلها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة؛ فإنه إذا اعتمد على
الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل ما سواه؛ صح إخلاصه
ومعاملته مع الله. فيجب على الإنسان أن يكون مصطحبا له في
جميع شؤونه
والتوكل على الله سبحانه لا
ينافي السعي في الأسباب والأخذ بها؛ فإن الله سبحانه وتعالى قدر
مقدورات مربوطة بأسباب، وقد أمر الله تبارك وتعالى بتعاطي الأسباب مع
أمره بالتوكل؛ فالأخذ بالأسباب طاعة لله؛ لأن الله أمر بذلك، وهو من
عمل الجوارح، والتوكل من عمل القلب، وهو إيمان بالله
روي عن ابن عباس أنه قال: كان
أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن متوكلون! فيحجون، فيأتون
مكة، ويسألون الناس... فأنزل الله هذه الآية: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
وقد سئل أحمد رحمه الله عمن يقعد
ولا يكتسب ويقول: توكلت على الله؛ فقال: ينبغي للناس كلهم يتوكلون
على الله، ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب، وقد كان الأنبياء يؤجرون
أنفسهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤجر نفسه وأبو بكر وعمر، ولم
يقولوا نقعد حتى يرزقنا الله، وقال الله تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}
وعن أنس قال:
(قال رجل يا رسول الله!
أعقلها وأتوكل؟ أو أطلقها وأتوكل؟ قال اعقلها وتوكل) .
وهذا كله إشارة إلى أن التوكل لا
ينافي الإتيان بالأسباب المباحة، بل قد يكون جمعها أفضل، وقد لقي عمر
بن الخطاب جماعة من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن
المتوكلون. قال: بل أنتم المتأكلون! إنما المتوكل الذي يلقي حبه
في الأرض ويتوكل على الله.
قال بعض العلماء: "من طعن في
الحركة- يعني: في السعي والكسب والأخذ بالأسباب-؛ فقد طعن في السنة،
ومن طعن في التوكل؛ فقد طعن في الإيمان".
والأعمال التي يعملها العبد
أقسام :
أحدها. الطاعات التي أمر الله
بها عباده وجعلها سببا للنجاة من النار ودخول الجنة؛ فهذا لا بد من
فعله مع التوكل على الله فيه والاستعانة به عليه؛ فإنه لا حول ولا قوة
إلا به، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ فمن قصر في شيء من ذلك؛ استحق
العقوبة في الدنيا والآخرة قدرا وشرعا. "يقال: اعمل عمل رجل لا
ينجيه إلا عمله، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كتب له".
والثاني. ما أجرى الله العادة
به في الدنيا وأمر عباده بتعاطيه؛ كالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش،
والاستظلال من الحر، والتدفئة من البرد... ونحو ذلك؛ فهذا أيضا
واجب على العبد تعاطي أسبابه، ومن قصر فيه حتى تضرر بتركه مع القدرة
على استعماله؛ فهو مفرط يستحق العقوبة
لثالث : التوكل الذي هو
إنابة الإنسان من يقوم بعمل عنه مما يقدر عليه كما لو وكلت شخصا
في بيع شي أو شرائه، فهذا جائز،
لأنه جعله نائبا عنه، وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي
طالب أن يذبح ما بقى من هديه، ووكل أبا هريرة على الصدقة، ووكل عروة بن
الجعد أن يشتري له شاه، ولكن ليس له أن
يعتمد عليه في حصول ما وكل إليه فيه، بل يتوكل على الله في تيسير أموره
التي يطلبها بنفسه أو نائبه؛ لأن توكيل الشخص في تحصيل الأمور الجائزة
من جملة الأسباب
ويدخل في حكم التوكل على الله الحسب
قال الله
تعالى لرسوله : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (لأنفال:64) الآية .
قوله ( حَسْبُكَ اللَّه) . أي : كافيك ، والحسب : الكافي ، والمعنى : ما
حسبك إلا الله .
وقوله : ( وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ ) المعنى حسبك الله، وحسب من أتبعك من المؤمنين
، فتوكلوا عليه جميعا أنت ومن اتبعك .
والله سبحانه وتعالى حينما يذكر الحسب يخلصه لنفسه ، قال تعالى : (
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ)(لتوبة:59) ففرق بين الحسب والإيتاء
، وقال تعالى ( ُقلْ حَسْبِيَ اللَّهُ
عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ )(الزمر: 38) فكما أن
التوكل على غير الله لا يجوز ، فكذلك الحسب لا يمكن أن يكون غير الله
حسبا ، فلو كان ، لجاز التوكل عليه ، ولكن الحسب هو الله ، وهو الذي
عليه يتوكل المتوكلون
قال تعالى : ( وَمَن يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) [الطلاق : 3] الآية . وهي جملة
شرطية تفيد بمنطوقها أن من يتوكل على الله ، فإن الله يكفيه مهماته
وييسر له أمره ، فالله حسبه ولو حصل بعض الأذية ، فإن الله يكفيه
الأذى، والرسول صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، ومع ذلك يصيبه الأذى
ولا تحصل له المضرة، لأن الله حسبه، فالنتيجة لمن اعتمد على الله أن
يكفيه ربه المؤونة .
والآية تفيد بمفهومها أن من توكل على غير الله خذل، لأن غير الله لا
يكون حسب، فمن توكل على غير الله تخلى عنه ، وصار موكولا إلى هذا الشي
ولم يحصل له مقصوده، وابتعد عن الله بمقدار توكله على غير الله .