الخوف
الخوف والمحبة والرجاء
المحبة أصل كل عمل ديني، فالخوف والرجاء وغيرهما
يستلزم المحبة ويرجع إليها، فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا
فيما يبغضه. والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب. قال تعالى:﴿
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ
الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ [الإسراء: 57]
والعبادة ترتكز على شيئين : المحبة ، والخوف .
فبالمحبة يكون امتثال الأمر، وبالخوف يكون اجتناب
النهي
فلو سألت من لا يزني لماذا ، لقال : خوفا من الله .
ولو سألت الذي يصلي ، لقال : طمعا في ثواب الله ومحبه
له .
كل منهما ملازم الآخرة، فالخائف والمطيع يريدان النجاة من عذاب الله
والوصول إلى رحمته.
فلابد من هذه الأمور الثلاثة: المحبة لله، والخوف منه
سبحانه وتعالى، والرجاء لفضله.
فمن الضلال أن يقتصرعلى المحبة فقط كمن يعبد الله عز
وجل بالمحبة، ولا يخافه ولا يرجوه، يقول أنا لا أعبده طمعاً في جنته،
ولا خوفاً من ناره، وإنما أعبده للمحبة فقط.
ومن عبد الله بالخوف فقط فهو من الخوارج, لأن الخوارج
أخذوا جانب الخوف والوعيد فقط، فكفروا بالمعاصي.
ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو من المرجئة، الذين أخذوا
جانب الرجاء فقط، وتركوا جانب الخوف.
أما أهل التوحيد فيعبدون الله بجميع الثلاث: بالحب
والخوف والرجاء
الخوف
خوف الله تعالى درجات ، فمن الناس من يغلو في خوفه،
ومنهم من يفرط ، ومنهم من يعتدل في خوفه
والخوف العدل هو الذي يرد عن محارم الله فقط ، وإن زدت
على هذا فإنه يوصلك إلى اليأس من روح الله .
ومن الناس من يفرط في خوفه بحيث لا يردعه عما نهى الله
عنه .
معنى الخوف توقع مكروه عن أَمارة مظنونة أو معلومة
والخوف شعور يملئ القلب فيدفع هذا الشعور صاحبه لعمل
الطاعات واجتناب المعاصي فليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه ولكن الخائف
من يترك ما يخاف أن يحاسبه الله عليه هذا هو الخوف وليس الخوف أن يسمع
الإنسان كلام جعله يبكي ثم بعد ذلك يتجرأ على معصية الله جل وعلا هذا
لا يعد خوفا ليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه ثم بعد ذلك يتجرأ على
المعصية ولكن الخائف هو الذي يترك ما يخاف أن يحاسبه الله عليه قال
الفضيل بن عياض من خاف الله عز وجل دله الخوف على كل خير, وكل قلب ليس
فيه خوف الله فهو قلب خرب قيل للحسن البصري يا أبا سعيد إننا نخالط
أقواما يخوفوننا بالله حتى تكاد قلوبنا أن تطير يعني من شدة الخوف فقال
الحسن البصري إنك إن تخالف أقواما يخوفونك بالله في الدنيا حتى يدركك
الأمن في الآخرة خير من أن
تخالط أقواما يؤمنونك في الدنيا حتى يدركك الخوف في الآخرة
والخوف على ثلاثة أقسام
الأول : خوف السر . وهو خوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع
وهذا لا يصلح إلا لله – سبحانه وتعالى – فمن أشرك فيه مع الله غيره ،
فهو مشرك شركا أكبر ، وذلك مثل : من يخاف من صاحب وثن أو طاغوت الأصنام
أن يضره أو غائب من جن أو إنس أن يصيبه بما يكره أو الأموات ، أو من
يزعمونهم أولياء ويعتقدون نفعهم وضرهم ، كما يفعله بعض عباد القبور :
يخاف من صاحب القبر أكثر مما يخاف الله ويخوفون بها أهل التوحيد إذا
أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة لله
فيجب أن يكون الإنسان على يقين بأن الضر والنفع بيدي
الله تبارك وتعالي فلا يخشى من أحد فيما لا يقدر عليه إلا الواحد الأحد
وهذا النوع من الخوف من أهم أنواع العبادة ويجب إخلاصه
لله وحده لأنه من أعظم مقانات الدين وأجلها فمن صرفه لغير الله فقد
أشرك بالله الشرك الأكبر والعياذ بالله.
الثاني : الخوف الطبيعي
والجبلَّي ، كالخوف
من عدو من سبع أو من سيارة مقبلة عليك بسرعة فتخاف أوغير ذلك فهذا في
الأصل مباح وليس بمذموم ، لقوله : تعالى عن موسى ( فخرج منها خائفا
يترقب ) وقوله عنه أيضا : ﴿ قَالَ رَبِّ
إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾
[القصص : 33]
وإن رأى مبنى ينهار أو نارا ثم هرب منها ونجا بنفسه ،
فهذا خوف مباح ، وقد يكون واجبا إذا كان يتوصل به إلى إنقاذ نفسه
وإن خشى إنسانا لأنه يستطيع أن يضره في أمر ما
هذا أيضا لا حرج فيه لكن بشرط أن يكون على يقين أن الضر والنفع بيد
الله تبارك
وتعالي فهذا لا يملك أن يضره أو أن ينفعه إلا بأمر الله سبحانه القائل
جل وعلا ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ
بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ
فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام:17].
الثالث : الخوف الذي يحمل
الإنسان على ترك واجب أو فعل محرم
فهو محرم وهو شرك أصغر ، فمثلا من خاف من شي لا يؤثر
عليه وحمله هذا الخوف على ترك صلاة الجماعة مع وجوبها، فهذا الخوف محرم
، والواجب عليه أن لا يتأثر به .
وإن هدده إنسان على فعل محرم ، فخاف وهو لا يستطيع أن
ينفذ ما هدده به ، فهذا خوف محرم يؤدي إلى فعل محرم بلا عذر
وهذا النوع من الخوف من حقوق العبادة ومكملاتها وقد
نهى الله تعالى المؤمنين أن يخافوا غيره وأمرهم أن يقصروا خوفهم عليه
فإذا أخلصوا الخوف وجميع أنواع العبادة أعطاهم ما يريدون وأمنهم مما
يخافون
وهناك ما يسمى بالوهم وليس بخوف ، مثل أن يرى ظل شجرة
تهتز ، فيظن أن هذا عدو يهدده ، فهذا لا ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك ،
بل يطارد هذه الأوهام لأنها لا حقيقة لها ، وإذا لم تطاردها ،فإنها
تُهلِك .
وأعلم أن الله جل وعلا يأمرنا بالخوف منه فيقول تعالى
﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
﴾[آل عمران: من الآية175]
ويقول سبحانه﴿ وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ ﴾[البقرة: من الآية40]
ويقول جل وعلا ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ
اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾[آل عمران: من الآية30]
ويقول جل وعلا ﴿إِنَّ
بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾ [البروج:12]
ولذا سنتعرض لذكر ثلاث آيات في الخوف
لتوضيح الأمر:
أول آية
قوله تعالى : ﴿إِنَّمَا
ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175] والمعنى
، أنه : يوقع الخوف في قلوب ، (أولياه ) أي : أنصاره الذين ينصرون
الفحشاء والمنكر ، لأن الشيطان يأمر بذلك ، فكل من نصر الفحشاء والمنكر
، فهو من أولياء الشيطان ، ثم يكون النصر في الشرك وما ينافي التوحيد ،
فيكون عظيما وقد يكون دون ذلك
وقوله : ( يخوف أولياه ) من ذلك ما يحصل في نفس من
أراد أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر ، فيخوفه الشيطان من أوليائه
لئلا يجاهدوهم ولا ينهاهم عن منكر فتخويف الشيطان ليصده عن هذا العمل ،
فنهانا الله أن نخاف الشيطان وأوليائه, والحاصل : أن الشيطان يخوف كل
من أراد أن يقوم بواجب ، فإذا ألقى الشيطان نفسك في الخوف ، فالواجب
عليك أن تعلم أن الإقدام على كلمة الحق ليس هو الذي يدني الأجل ، فكم
من داعية صدع بالحق ومات على فراشه ؟ وكم من جبان قتل في بيته ؟
وانظر خالد بن الوليد،كان شجاعا مقداما ومات على فراشه
، ومادام الإنسان قائما بأمر الله ، فليثق بأن الله مع الذين اتقوا
والذين هم محسنون ، وحزب الله هم الغالبون .
وقوله: ( فلا تخافوهم ) .
الضمير يعود على أولياء الشيطان ، وهذا النهي للتحريم
بلا شك ، أي : بل أمضوا فيما أمرتكم به وفيما أوجبته عليكم ، ولا
تخافوا هؤلاء ، وإذا كان الله مع الإنسان ، فإنه لا يغلبه أحد ، لكن
نحتاج في الحقيقة إلى صدق النية والإخلاص والتوكل التام ، ولهذا قال
تعالى : ( إن كنتم مؤمنين ) , فكلما كان إيمان العبد قوي زال منه خوف
أولياء الشيطان وكلما ضعف إيمان العبد قوى خوفه منهم
وعلم من هذه الآية أن للشيطان وساوس يلقيها في قلب ابن
آدم منها التخويف من أعدائه ، وهذا ما وقع فيه كثير من الناس ، وهو
الخوف من أعداء الله فكانوا فريسة لهم ، وإلا تكلموا على الله وخافوه
قبل كل شي ، ومن اتقى الله اتقاه كل شي ، ومن خاف غير الله خاف من كل
شي .
ويفهم من الآية أن الخوف من الشيطان وأوليائه مناف
للإيمان ، فإن كان الخوف يؤدي إلى الشرك ، فهو مناف لأصله ، وإلا , فهو
مناف لكماله
الآية الثانية قوله تعالى: ﴿
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا
اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ
﴾ [التوبة:18]
والمراد بالعمارة العمارة المعنوية ، التي تكون بالعمل
الصالح المؤسس على الإخلاص والتوحيد والعقيدة الخالية من الشرك والبدع
والخرافات, فعمارتها تكون بالصلاة والذكر وقراءة القرآن ونحوها ، وكذلك
الحسية بالبناء الحسي ، فأن عمارتها به حقيقة لا تكون إلا ممن ذكرهم
الله ، لأن من يعمرها وهو لم يؤمن بالله واليوم الآخر لم يعمرها حقيقة
، لعدم انتفاعه بهذه العمارة ، فالعمارة النافعة الحسية والمعنوية من
الذين آمنوا بالله واليوم الآخر ، ولهذا لما افتخر المشركون بعمارة
المسجد الحرام ، قال تعالى (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر )
قوله : ( من آمن بالله ) الإيمان بالله يتضمن أربعة
أمور هي :
الإيمان بوجوده ، وربوبيته ، وألوهيته ، وأسمائه وصفاته .
واليوم الآخر : هو يوم القيامة ، وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده .
وقال شيخ الإسلام : ويدخل في الأيمان بالله واليوم الآخر كل ما أخبر به
النبي صلى الله عليه لأن حقيقة الأمر أن الإنسان إذا مات قامت قيامته
وارتحل إلى دار الجزاء .
ويقرن الله الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر كثيرا ،
لأن الإيمان باليوم الآخر يحمل الإنسان إلى الامتثال ، فإنه إذا آمن أن
هناك بعثا وجزاء ، حمله ذلك على العمل لذلك اليوم ، ولكن من لا يؤمن
باليوم الآخر لا يعمل ، إذ كيف يعمل لشي وهو لا يؤمن به ؟!
قوله : ( وأقام الصلاة ) . أي : أتى بها على وجه قويم
لا نقص فيه ، والإقامة نوعان :
إقامة واجبة ، وهي التي يقتصر فيها على فعل الواجب من
الشروط والأركان والواجبات.
و إقامة مستحبة : وهي التي يزيد فيها على فعل ما يجب
فيأتي بالواجب والمستحب .
وقوله : ( وآتي الزكاة ) الزكاة : هي المال الذي أوجبه
الشارع في الأموال الزكوية وتختلف مقاديرها حسب ما تقتضيه حكمة الله
عز وجل .
وقوله : ( ولم يخش إلا الله ) . في هذه الآية حصر
طريقة الإثبات والنفي
( لم يخش ) نفي ، ( إلا الله ) إثبات ، والمعنى : أن خشيته انحصرت في
الله عز وجل ، فلا يخشى غيره .
والخشية نوع من الخوف ، لكنها أخص منه والفرق بينهما :
أن الخشية تكون مع العلم بالمخشي وحاله ، لقوله تعالى
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ ﴾[فاطر: من الآية28] ، والخوف قد يكون من الجاهل .
. أن الخشية تكون بسبب عظمة المخشى ، بخلاف الخوف ،
فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخّوف
كقوله تعالى: ﴿ إِلاَّ
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ
يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً
غَفُوراً ﴾ [النساء : -9998]
فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، فالذين لا يستطيعون حيلة ولا
يهتدون سبيلا جديرون بالعفو . الشاهد من الآية: قوله:(ولم يخش إلا الله
) ، ولهذا قال تعالى : ﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾ [ المائدة : 44]. ومن علامات صدق
الإيمان أن لا يخشى إلا الله في كل ما يقول ويفعل .
ومن أراد أن يصحح هذا المسير ، فليتأمل قول الرسول صلى
الله عليه وسلم : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم
ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم
يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك )
الآية الثالثة ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ
فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ [ العنكبوت: من
الآية10].
قوله تعالى : ( ومن الناس من يقول ) . المراد بهؤلاء :
من لا يصل الإيمان إلى قرارة قلبه ، فيقول : آمنا بالله ، لكنه إيمان
متطرف ، كقوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ
مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ
بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾
[الحج : 11 ] ، (على حرف ) أي : على طرف . فإذا امتحنه الله بما يقدر
عليه من إيذاء الأعداء في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله .
قوله : ( فإذا أوذى في الله ) بأي بسبب الإيمان بالله وإقامة دينه .
( جعل فتنة الناس كعذاب الله ) . ومعلوم أن الإنسان يفر من عذاب الله ،
فيوافق أمره ، فهذا يجعل فتنة الناس كعذاب الله ، فيفر من إيذائهم
بموافقة أهوائهم وأمرهم
فحينئذ يكون قد خاف من هؤلاء كخوفه من الله ، لأنه جعل
إيذاءهم كعذاب الله ، ففر منه بموافقة أمرهم
وفي هذه الآية من الحكمة العظيمة ، وهي ابتلاء الله
للعبد لأجل أن يمحص إيمانه
وابتلاء الله للعبد لأجل أن يمحص إيمانه على قسمين :
الأول : ما يقدره الله نفسه على العبد ، كقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ
اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
﴾ [الحج : 11 ] وقوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ
إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾ [البقرة :
155-156 ].
الثاني : ما يقدره الله على أيدي الخلق من الإيذاء امتحانا
واختبارا .
وبعض الناس إذا أصابته مصائب لا يصبر ، فيكفر ويرتد
أحيانا – والعياذ بالله - ، وأحيانا يكفر بما خالف فيه أمر الله عز وجل
في موقفه في تلك المصيبة ، وكثير من الناس ينقص إيمانه بسبب المصائب
نقصا عظيما ، فليكن المسلم على حذر ، فالله حكيم يمتحن عباده بما يتبين
به تحقق الإيمان ، قال تعالى : ﴿
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ
وَالصَّابِرِينَ ﴾ [محمد:31]
قال تعالى ﴿ أوَلَيْسَ
اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾
[العنكبوت : 10] فالله أعلم بما في صدور العالمين، أي بما في
صدور الجميع ، فالله أعلم بما في نفسك منك ، وأعلم بما في نفس غيرك ،
لأن علم الله عام .
وهنا تحذير من أن يقول الإنسان خلاف ما في قلبه
ولهذا لما تخلف كعب بن مالك في غزوة تبوك قال للرسول
صلى الله عليه وسلم حين رجع : إني قد أُوتيت جدلا ، ولو جلست إلى غيرك
من ملوك الدنيا ، لخرجت منهم بعذر ، لكن لا أقول شيئا تعذرني فيه
فيفضحني الله فيه ).
الشاهد من الآية : قوله : (فَإِذَا أُوذِيَ فِي
اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ)
وعن أبي سعيد رضى الله عنه مرفوعا : (إن من ضعف اليقين
أن ترضي الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على ما
لم يؤتك الله، أن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره)
قوله في حديث أبي سعيد : ( إن من ضعف اليقين ) . أي من علامة ضعف
اليقين . (أن ترضى الناس ) فإن إرضاء الناس بسخط الله من ضعف اليقين .
أي تجعل عوض إرضاء الناس سخط الله ، فتستبدل هذا بهذا
، فهذا من ضعف اليقين .
واليقين أعلى درجات الإيمان ، فمن ضعف اليقين أن ترضى
الناس بسخط الله ، إذ إنك خفت الناس أكثر مما تخاف الله ، وهذا مما
ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم ، فتجد الإنسان يجيء إلى شخص فيمدحه ،
وقد يكون خاليا من هذا المدح ، ولا يبين ما فيه من عيوب ، وهذا من
النفاق وليس من النصح والمحبة ، بل النصح أن تبين له عيوبه ليتلافاها
ويحترز منها ، ولا بأس أن تذكر له محامده تشجيعا إذا أُمن في ذلك من
الغرور.
قوله:( وأن تحمدهم على رزق الله ) أي : إذا أعطوك شيئا
حمدتهم ونسيت المسبب وهو الله ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (
إنما أنا قاسم ، والله يعطي ).
أما إن كان في قلبك أن الله هو الذي من عليك بسياق
هذا الرزق ، ثم شكرت الذي أعطاك ، فليس هذا داخلا في الحديث ، بل هو من
الشرع ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من صنع إليكم معروفا، فكافئوه،
فإن لم تجدوا ما تكافئوه به، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)
فالمراد بالحمد المنهي عنه : أن تحمدهم الحمد المطلق ناسيا أن المسبب
هو الله عز وجل لأن فعل هذا من ضعف اليقين ، لأن حقيقة الأمر أن الذي
أعطاك هو الله ، فالبشر الذي أعطاك هذا الرزق لم يخلق ما أعطاك ، فالله
هو الذي خلق ما بيده ، وهو الذي عطف قلبه حتى أعطاك ، أرأيت لو أن
إنسانا له طفل ، فأعطى طفله ألف درهم وقال له : أعطها فلانا ، فالذي
أحذ الدراهم يحمد الأب، لأنه لو حمد الطفل فقط لعد هذا سفها، لأن الطفل
ليس إلا مرسلا فقط ، وعلى هذا ، فنقول : إنك إذا حمدتهم ناسيا بذلك ما
يجب لله من الحمد والثناء ، فهذا هو الذي من ضعف اليقين ، أما إذا
حمدتهم على أنهم سبب من الأسباب ، وأن الحمد كله لله – عز وجل - ، فهذا
حق ، وليس من ضعف اليقين .
قوله : ( وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ) . هذه عكس
الأولى ، فمثلا : لو أن إنسانا جاء إلى شخص يوزع دراهم ، فلم يعطه ،
فسبه وشتمه ، فهذا من الخطأ لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
لكن من قصر بواجب عليه ، فيذم لأجل أنه قصر بالواجب لا لأجل لأنه لم
يعط ، فلا يذم من حيث القدر ، لأن الله لو قدر ذلك لوجدت الأسباب التي
يصل بها إليك هذا العطاء .
قوله : ( إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده
كراهية كاره )
( رزق الله ) : عطاؤه ، لكن حرص الحريص من سببه بلا شك ، فإذا بحث عن
الرزق وفعل الأسباب ، فإنه يكون فعل الأسباب الموجبة للرزق ، لكن ليس
المعنى أن هذا السبب موجب مستحق ، وإنما الذي يرزق هو الله تعالى ، وكم
من إنسان يفعل أسبابا كثيرة للرزق ولا يرزق ، وكم من إنسان يفعل أسباب
قليلة فيرزق، وكم من إنسان يأتيه الرزق بدون سعي، كما لو وجد ركازا في
الأرض أو مات له قريب غني يرثه ، أو ما أشبه ذلك .
وقوله : _ ولا يرده كراهية كاره ) . أي : أن رزق الله
إذا قدر للعبد ، فلن يمنعه عنه كراهية كاره ، فكم من إنسان حسده الناس
، وحاولوا منع رزق الله فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا .
وعن عائشة رضى الله عنها ، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال ( من التمس رضا الله بسخط الناس)
( التمس ) : طلب رضا الله بسخط الناس، رضى الله عنه
وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط
عليه الناس )
قوله : ( رضا الله ) . أي : أسباب رضاه ، وقوله : (
بسخط الناس ) أي أنه طلب ما يرضي الله ولو سخط الناس به بدلا من هذا
الرضا ، ( رضى الله عنه وأرضى عنه الناس ) .
قوله : ( رضى الله عنه وأرضى الناس ) إذا التمس العبد
رضا ربه بنية صادقة رضى الله عنه ، لأنه أكرم من عبده ، وأرضى عنه
الناس ، وذلك بما يلقى في قلوبهم من الرضا عنه ومحبته ، لأن القلوب بين
إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .
قوله : ( ومن التمس رضا الناس بسخط الله ) أي: طلب ما
يرضى الناس ، ولو كان يسخط الله ، فنتيجة ذلك أن يعامل بنقيض قصده ،
ولهذا قال : ( سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) ، فألقى في قلوبهم سخط
وكراهيته .
ومن هذا الحديث برواياته يتبن أن الإنسان إذا كان يطلب
بعمله إرضاء الله بما يسخط الناس حصل على مصلحتين عظيمتين رضى الله
تعالى ورضى الناس , ومن كان بالعكس يطلب بعمله إرضاء الناس بما يسخط
الله عزوجل حصل له مضرتين سخط الله وسخط الناس فدل على أن إرضاء الله
تعالى يجمع الخير كله وأن إرضاء الناس بما يسخط الله يجمع الشر كله,
نسأل الله العافية
مناسبة الحديث مع الخوف:
قوله : ( من التمس رضا الناس بسخط الله ) ، أي : خوفا
منهم حتى يرضوا عنه ، فقدم خوفهم على مخافة الله تعالى فيستفاد من
الحديث ما يلي :
. وجوب طلب ما يرضي الله وإن سخط الناس ، لأن الله هو
الذي ينفع ويضر .
أنه لا يجوز أن يلتمس ما يسخط الله من أجل إرضاء
الناس كائنا من كان .
وخلاصة ها الموضوع الذي نتحدث عنه :
أنه يجب على المرء أن يجعل الخوف من الله فوق كل خوف ،
وأن لا يبالي بأحد في شريعة الله تعالى ، وأن يعلم أن من التمس رضا
الله تعالى وإن سخط الناس عليه ، فالعاقبة له ، وإن التمس رضا الناس
وتعلق بهم وأسخط الله ، انقلبت عليه الأحوال ، ولم ينل مقصوده ، بل حصل
له عكس مقصوده ، وهو أ ن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس .
ومن الخوف ما يكون من سوء الخاتمة وهذه قصص فيه
الشافعي الإمام إمام العلم لما نام على فراش الموت دخل
عليه تلميذ، وقال كيف أصبحت يا أبا عبد الله قال أصبحت من الدنيا راحلا
وللإخوان مفارقا ولعملي ملاقيا ولكأس المنية شاربا وعلى الله واردا ولا
أدرى أتصير روحي إلي الجنة فأهنئها أم إلي النار فأعزيها هؤلاء هم
العلماء
وهذا معاذ بن جبل إمام العلماء وسيد الأبكياء وحبيب
رسول رب الأرض والسماء الذي أقسم له رسول الله وقال يا معاذ والله إني
لأحبك لما ابتلي بطاعون في بلاد الشام ونام على فراش الموت وهو في
ريعان شبابه في الثانية والثلاثين من عمره قال لأصحابه انظروا هل أصبح
الصباح فنظروا قالوا لا بعد لم يصبح الصباح فسكت ثم قال هل أصبح الصباح
قالوا لا بعد ثم قالوا ماذا تريد فقال معاذ بن جبل أعوذ بالله من ليلة
صباحها إلي النار ، ثم بكى وقال اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك وأنا
اليوم أرجوك ، اللهم أنك تعلم أني ما أحببت الدنيا لا لغرس الأشجار أو
لجري الأنهار ولكن لظمأ
الهواجر ومزاحمة العلماء في مجالس الذكر بالركب ثم
فاضت روحه وهو يردد كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله .
فالخوف من سوء الخاتمة مزق قلوب الصادقين والصديقين
الخوف والرجاء
الخوف والرجاء هما من أعظم أصول العقيدة، ولابد من
الجمع بينهما، لا يكفي الاقتصار على واحد منهما فقط، كما قال تعالى في
وصف أنبيائه: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً
﴾ [الأنبياء:90]