حفظ المرء نفسه عن عورات الآخرين
إن حفظ المرء لنفسه من عورات الآخرين يتطلب الآتي:
غض البصر, حذر الأقرباء من الدخول على النساء, النهي عن
الخلوة, النهي عن لمس المرأة, النهي عن البيات عند غير المحارم, منع الدخول على المغيبة, الابتعاد عن الزنا, الزواج لمن قدر عليه
قالَ الله تعالى{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } [النور 30]
{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } [النور 31]
فالله سبحانه قد أمر بغض البصر ، وهو نوعان: غض البصر عن العورة ، وغضه عن محل الشهوة
من حرص الشريعة على الوقاية من إثارة الشهوات أمرت المسلم رجلاً كان أو امرأة بغض البصر عن عورة غيره كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم’’ لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ‘‘ ( [72]) وقال صلى الله عليه وسلم ’’لا ينظر الرجل إلـى عُرْيَةِ الرجلِ، ولا تنظر المرأة إلـى عُرْيَةِ الـمرأةِ ‘‘( [73]) قال صلى الله عليه وسلم ’’لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت ‘‘ ( [74]) ويتأكد غض البصر في الطرقات فعن أبي سعيد الخضري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’ إياكم والجلوس بالطرقات قالوا يا رسول الله ، ما بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال غض البصر، وكف الأذى ‘‘( [75])
ويتأكد غض البصر بصرفه بعد نظرة الفجأة
استثنت الشريعة نظر الفجأة لأن المرء لا يستطيع أن يمنع نفسه منها لكنه يستطيع أن يصرف بصره عقبها ولذا أمرته الشريعة بصرف بصره بعد النظرة الأولى, فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال ’’ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة قال اصرف بصرك ‘‘( [76]) لا تنظر مرة ثانية واصرف بصرك لأن الأولى إذا لم تكن بالاختيار فهو معفو عنها، ونهت الشريعة عن إدامت نظرة الفجأة أيضاً فإن أدام النظر أثم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ’’لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة ‘‘ ( [77])
فالمرء لا يتتبع النظرة فلا يعقبها بنظرة أخرى بعد الأولى فإن له النظرة الأولى إذا كانت من غير قصد, وليست له الآخرة لأنها باختياره فتكون عليه
وبينت الشريعة العلة من غض البصر وعدم تتابع النظر أنه خير للمسلم كما أعقب الله تعالى الأمر بغض البصر بقوله تعالى { ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } [النور 30] لأن القلب قد يحوزها ويُغلب عليها حتى يرتكب ما لا يحسن, كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ’’الإثم حواز القلوب وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع‘‘( [78])
حواز جمع حازة وهي الأمور التي تحز في القلوب وتحك وتؤثر وتتخالج فيها مما تجعل للشيطان مطمع في دفعه المرء للعمل بها, ولهذا كانت وقاية المرء في استجابته للشريعة
المرأة يستشرفها الشيطان إذا خرجت
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ’’ المرأة عورة ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان ‘‘( [79])
جعل المرأة نفسها عورة لأنها إذا ظهرت يستحي منها كما يستحي من العورة إذا ظهرت، والعورة السوءة وكل ما يستحي منه إذا ظهر
والمرأة عورة لأنها إذا خرجت استشرفها الشيطان أي زينها في نظر الرجال ونظر إليها ليغويها ويغوى بها
والأصل في الاستشراف رفع البصر للنظر إلى الشيء وبسط الكف فوق الحاجب والمعنى أن المرأة يستقبح بروزها وظهورها فإذا خرجت أمعن النظر إليها ليغويها بغيرها، ويغوي غيرها بها ليوقعهما أو أحدهما في الفتنة. ويراد بالشيطان أيضاً شيطان الإنس من أهل الفسق سماه به على التشبيه
وأخبر صلى الله عليه وسلم’’ أن المرأة تقبل في صورة شيطان‘‘( [80]) شبهها بالشيطان في صفة الوسوسة والإضلال، فإن رؤيتها من جميع الجهات داعية للفساد فإنه يضمر ما في نفسه
وفي المرأة الإشارة إلى الهوى والدعاء إلى الفتنة بما جعل الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء والتلذذ بالنظر إليهن وما يتعلق بهن، فهي شبيهة بالشيطان في دعائه إلى الشر بوسوسته وتزيينه له. ويستنبط من هذا أنه ينبغي لها أن لا تخرج إلا لضرورة ولا تلبس ثياباً ملفتة للنظر
ولذا ينبغي على المسلم الإلمام بأحكام النظر إلى العورات والنظر إل المحارم والنظر إلى غير المحارم والتي هي على النحو التالي
1- تحريم نظر الرجل إلى عورة الرجل، والمرأة إلى عورة المرأة، وهذا لا خلاف فيه
2- نظر الرجل إلى عورة المرأة، والمرأة إلى عورة الرجل حرام بالإجماع، وهذا التحريم في حق غير الأزواج ( [81])
أما نطر الزوجان لعورة بعضهما فلكل واحد منهما النظر إلى عورة صاحبه جميعها ( [82])
كأخته وعمته وخالته برضاع أو مصاهرة كأم الزوجة وبنتها وزوجة ابنه, فنظر الرجل إلى محارمه ونظرهن إليه فالصحيح أنه لا يحل إلا ما يظهر في حال الخدمة والتصرف
نظر الرجل إلى المرأة ونظر المرأة إلى الرجل
أما نظر الرجل إلى المرأة فحرام في كل شيء من بدنها، فكذلك يحرم عليها النظر إلى كل شيء من بدنه، سواء كان نظره ونظرها بشهوة أم بغيرها( [83]) لأنه يخاف ثورانها، فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة، ولهذا كان النظر الذي قد يفضي إلى الفتنة محرما
تنبيه يحذر ممن يقول بجواز النظر إلى المرأة الأجنبية وعورتها من المرآة ويعللون بأنه إنما ينظر إلى خيال فإن هذا القول ترتب عليه ما هو أشد إفساداً, ترتب عليه ما أمس بحياة شبابنا اليوم وواقعهم وهم ينتقلون من النظر إلى الصور الخلاعية في التلفزيون والسينما والمجلات إلى مشاهدة صور متحركة لفعل الفحش بل مقاطع وأفلام خليعة كاملة في التليفون المحمول ويتناقلونها عبر البلوتوث ويُرسل ويٌستقبل منها في لحظات كم كبير يتقلب في مشاهدته, فهل يعقل أن يقال أن مشاهدي الخليعة إنما ينظرون إلى خيال وكل ذي عقل ولب حتى غير المسلم يعلم يقينا أن هذه الصور من أشد الأنواع المثيرة لشهوة الشباب وغرائزهم ، بحيث أنهم لا يجدون بعد ذلك سبيلا إلى إطفائها إلا بارتكاب المحرم
لأن النفس بعد مشاهدة الخليعة تطلب الزنا وإذا طلبت تبعها القلب فزنا النفس تمنيها واشتهاؤها وقوع الزنا الحقيقي والفرج يصدق ذلك ويكذبه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ’’زنا العينين النظر وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه ‘‘( [84])
وكثيراً ما يحدث عند مشاهدي الخليعة من تطبيق ما شاهدوه ومع زوجاتهم ثم إن تحرك الخير في أحدهم يسأل عن حكم الأوضاع التي يأتي بها أو تأتي بها زوجته وهذا الذي يكون قد تدارك نفسه, أما غيره فغالباً ما تسبب لهم من مشاهدة الخليعة الفتور الجنسي فغدوا يحتاجون معها مثيرات أخرى أو منشطات لتحركهم من البرود دون جدوى, بالمقارنة مع أصحاب الطاعة الذين يحفظون أنفسهم من مشاهدة الخليعة فإن بطاعتهم لله تجد القادر يتزوج من النساء أربع ويشبع رغباتهن جميعاً ورغباته, لأن أهل الطاعة يتمتعون بأقل ما يكون من زوجاتهم, كهذا الرجل الذي وطء امرأته قبل أن يكفر عن ظهاره وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبحث عن مخرج فقال له ’’ وما حملك على ذلك يرحمك الله قال رأيت خلخالها في ضوء القمر قال فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به ‘‘( [85]) شاهد خلخال في رجل امرأته فثارت شهوته فوطئها, ومشاهدوا الخليعة لم يتركوا مشاهد وطء إلا شاهدوها حتى جماع أمثالهم بالحيونات وما زادهم ذلك إلا فتوراً علاوة على ما أصابهم من ضعف جنسي يجعل أحدهم غير قادر على أعطاء الزوجة الواحدة حقوق الفراش
وحتى يحفظ المسلم نفسه من هذا الفتور والضعف الجنسي ويكون كهذا الرجل الذي يتمتع بأقل ما يكون من امرأته, عليه أن لا ينظر لغير زوجته وإن وقع نظره على امرأة فليرجع إلى زوجته ليواقعها حتى لا يترك شيء في نفسه كما فعل رسول الله
الرجل إذا وقع نظره على امرأة فأعجبته فليأتي زوجته
’’رأى رسول الله امرأة فأعجبته ، فأتى سودة وهي تصنع طيباً وعندها نساء، فأخلينه، فقضى حاجته، ثم قال أيما رجل رأى امرأة تعجبه فليقم إلى أهله, فإن معها مثل الذي معها ‘‘ ( [86])
فالعينان تزنيان بالنظر فالنظر سهم مسموم من سهام إبليس فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ’’ العينان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يزني ‘‘([87]) وقال صلى الله عليه وسلم:’’ كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطى والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه‘‘( [88]) وفي رواية ’’ والرجلان تزنيان فزناهما المشي والفم يزني فزناه القبل ‘‘( [89])
معنى الحديث أن ابن آدم قدر عليه نصيب من الزنا فمنهم من يكون زناه حقيقياً بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه مجازاً بالنظر الحرام أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده أو يقبلها، أو بالمشي بالرجل إلى الزنا أو النظر أو اللمس أو الحديث الحرام مع أجنبية ونحو ذلك، أو بالفكر بالقلب، فكل هذه أنواع من الزنا المجازي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه، فقد يحقق الزنا بالفرج، وقد لا يحققه بأن لا يولج الفرج في الفرج وإن قارب ذلك أو استمنى وكل هذا يتحقق في مشاهدة الخليعة ويكون هذا نصيبه من الزنا
وقد يكون من الحظ مقدمات الزنا من التمني والتخطي والتكلم لأجله والنظر واللمس والتخلي. ( [90]) والشهوة والميل إلى النساء تكون بالعينين والقلب والفرج فالكل يجد لذة الزنا
سميت هذه الأشياء باسم الزنا، لأنها مقدمات له مؤذنة بوقوعه. ونسب التصديق والتكذيب إلى الفرج لأنه منشؤه ومكانه الذي يصدقه بالإتيان بما هو المراد منه أو يكذبه بالكف عنه
فإن فُعل بالفرج ما هو المقصود من ذلك فقد صار الفرج مصدقاً لتلك الأعضاء، وأن ترك ما هو المقصود من ذلك فقد صار الفرج مكذباً
ولذا ينبغي على المسلم أن يحفظ نفسه من كل هذا, لأن الله تعالى{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [غافر 19] وسيحاسبه على ما يصدر منه فالله تعالى يقول{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء 36]
النهي عن وصف المرأة غيرها لزوجها كأنه ينظر إليها
من وقاية الشريعة للمرأة أنها نهتها عن وصف غيرها من النساء لزوجها حتى لا يؤدي ذلك إلى إعجاب الزوج بالموصوفة فيسعى لتحصيلها إما بالحرام وإما بالحلال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ’’ لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها ‘‘( [91]) لا تباشر المرأة المرأة والمباشرة بمعنى الملامسة، وأصله من لمس البشرة البشرة، والبشرة ظاهر جلد الإنسان فتنعتها أي فتصف نعومة بدنها ولينة جسدها كأنما ينظر إليها فيتعلق قلبه بها ويقع بذلك فتنة, والأقبح إذا كان مع النظر لمس فتنظر إلى ظاهرها من الوجه والكفين وتجس باطنها باللمس وتقف على نعومتها وسمنتها فتنعتها
وهذا الحديث أصل في سد الذرائع، فإن الحكمة في هذا النهي خشية أن يعجب الزوج بالوصف المذكور فيفضي ذلك إلى الافتتان بالموصوفة وتطليق الواصفة
[72] الترمذي 2793 , صححه الألباني في غاية المرام 185
[73] مسلـم 338 كتاب الحيض تحريم النظر إلى العورات
[74]المسند 1/146 , أبو داوود 3140 , ابن ماجة 1460 , صحح إسناده أحمد شاكر 1248, ضعفه الألباني في المشكاة 3113
[75] مسلم 2121, الألباني في المشكاة 4640 متفق عليه
[76] مسلم 2159 وأبو داوود 2148
[77] المسند 5/353 ، الترمذي 2777 وحسنه، أبو داود2149 ، صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2777
[78] البيهقي في الشعب 5434 , صحح وقفه الألباني في صحيح الترغيب 1907
[79]الترمذي 1173 وحسنه , صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1173
[80]مسلم 1403, صححه الألباني في صحيح سنن أبو داوود 2151
[81] والحكم كذلك في النظر إلى الغير مسلمة ولو كانت مجوسية أو مرتدة أو وثنية
[82] النظر في الفرج نفسه ففيه ثلاثة أوجه
الأول أصحها أنه مكروه لكل واحد منهما النظر إلى فرج صاحبه من غير حاجة وليس بحرام.
والثاني أنه حرام عليهما.
والثالث أنه حرام على الرجل مكروه للمرأة، والنظر إلى باطن فرجها أشد كراهة وتحريماً.
[83] وقال البعض لا يحرم نظرها إلى وجه الرجل بغير شهوة وليس هذا القول بشيء
[84] المسند 2/536 , أبو داوود 2152 , البيهقي في الكبرى 7/89 , الحاكم 3751 وصححه , صحح إسناده مكمل شرح المسند 10933 , صححه الألباني في صحيح سنن أبو داوود 2152
[85] النسائي 3457 , الترمذي 1199 وقال حسن صحيح , حسنه الألباني في صحيح سنن النسائي 3457
[86] الدارمي 2215, صححه الألباني في جلباب المرأة 11 , وينظر إلى علاج الزوج بحسن العشرة للمؤلف ص 45
[87] المسند 1/412 , البزار 1550 , أبو يعلى5364 , الألباني حسن صحيح في صحيح الترغيب 1905
[88] البخاري 6343, 6346 , مسلم 2657
[89] مسلم 2159
[90] قاله علي القاري في المرقاة
[91] البخاري 5240