من الأصل الرابع في العقيدة
دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحد
إن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دين واحد وإن تنوعت شرائعهم:
قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا
وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ
كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا
معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء إخوة لعلات) .
ودين الأنبياء هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وهو الاستسلام
لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله:
قال تعالى عن نوح: {وَأُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
وقال عن إبراهيم: {إِذْ قَالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
.
وقال عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى يَا
قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ
كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}
وقال عن المسيح: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ
إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا
وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} .
وقد قال تعالى فيمن تقدم من الأنبياء وعن التوراة: {يَحْكُمُ
بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}
.
وقال تعالى عن ملكة سبأ: {رَبِّ
إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ} .
فالإسلام هو دين الأنبياء جميعا، وهو الاستسلام لله وحده؛ فمن استسلم
له ولغيره؛ كان مشركا، ومن لم يستسلم له؛ كان مستكبرا، وكل من المشرك
والمستكبر عن عبادة الله كافر.
والاستسلام لله يتضمن عبادته وحده وأن يطاع وحده، وذلك بأن يطاع في كل
وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت؛ فإذا أمر في أول الإسلام بأن يستقبل
بيت المقدس، ثم أمر بعد ذلك باستقبال الكعبة؛ كان كل من الفعلين حين
أمر به داخلا في الإسلام؛ فالدين هو الطاعة، وكل من الفعلين عبادة لله،
وإنما تنوع بعض صور الفعل، وهو توجه المصلي؛ فكذلك الرسل دينهم واحد،
وان تنوعت الشرعة والمنهاج والوجه والمنسك؛ فإن ذلك لا يمنع أن يكون
الدين واحدا؛ كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد؛ كما مثلنا
باستقبال بيت المقدس أولا ثم استقبال الكعبة ثانيا في شريعة محمد صلى
الله عليه وسلم.
فدين الأنبياء واحد، وإن تنوعت شرائعهم؛ فقد يشرع الله في وقت أمرا
لحكمة، ثم يشرع في وقت آخر أمرا لحكمة؛ فالعمل بالمنسوخ قبل نسخه طاعة
لله، وبعد النسخ يجب العمل بالناسخ؛ فمن تمسك بالمنسوخ وترك الناسخ؛
فليس هو على دين الإسلام، ولا هو متبع لأحد من الأنبياء، ولهذا كفر
اليهود والنصارى؛ لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ.
والله تعالى يشرع لكل أمة ما يناسب حالها ووقتها ويكون كفيلا بإصلاحها
متضمنا لمصالحها، ثم ينسخ الله ما يشاء من تلك الشرائع لانتهاء أجلها،
إلى أن بعث نبيه محمدا خاتم النبيين إلى جميع الناس على وجه الأرض وعلى
امتداد الزمن إلى يوم القيامة، وشرع له شريعة شاملة صالحة لكل زمان
ومكان؛ لا تبدل ولا تنسخ؛ فلا يسع جميع أهل الأرض إلا اتباعه والإيمان
به صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} .
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا} .
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
.
وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ
أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ} .
والآيات التي أنزلها الله سبحانه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم
فيها خطاب لجميع الخلق الجن والإنس وعلى اختلاف أجناسهم، ولم يخص العرب
بحكم من الأحكام، بل علق الأحكام باسم كافر ومؤمن، ومسلم ومنافق، وبر
وفاجر، ومحسن وظالم... وغير ذلك من الأسماء المذكورة في القرآن
والحديث؛ فليس في القرآن والحديث تخصيص العرب بحكم من الأحكام الشرعية،
إنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغضه الله.
ونزول القرآن بلسان العرب إنما هو لأجل التبليغ؛ لأنه بلغ قومه أولا،
ثم بواسطتهم بلغ سائر الأمم، وأمره الله بتبليغ قومه أولا، ثم تبليغ
الأقرب فالأقرب؛ كما أمر بجهاد الأقرب فالأقرب، وليس هذا تخصيصا، وإنما
هو تدرج بالتبليغ.
والمقصود أن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحد، وهو إخلاص
العبادة لله والنهي عن الشرك والفساد، وإن تنوعت شرائعهم حسب الظروف
والحاجات، إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي عمت رسالته
الخلق، وامتدت إلى آخر الدنيا؛ لا تبدل ولا تغير ولا تنسخ، وهي صالحة
ومصلحة لكل زمان ومكان، ولا نبي بعده عليه الصلاة والسلام إلى آخر
الزمان، وهو يأمر بما أمر به المرسلون من قبله من الإيمان وإخلاص
العبادة لله بما شرعه من الأحكام، وهو مصدق لإخوانه المرسلين، وإخوانه
المرسلون قد بشروا به، خصوصا أقرب الرسل إليه زمانا، وهو المسيح عيسى
بن مريم عليه الصلاة والسلام، حين قال لقومه: {يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ
يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} .
وفي الكتب السابقة من بيان صفات هذا الرسول وخصائصه ما هو من أوضح
الواضحات، وإن جحده من جحده من اليهود والنصارى حسدا وتكبرا؛ كما قال
تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ
فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
.
اللهم! أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه