من الأصل الرابع في العقيدة
معجزة القرآن
إن أعظم معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن العظيم؛ لأن
كل نبي تكون معجزته مناسبة لحال قومه، ولذلك:
لما كان السحر فاشيا في قوم فرعون؛ جاء موسى بالعصا على صورة ما يصنع
السحرة لكنها تلقفت ما صنعوا فاحتاروا وانفجعوا وعلموا أن ما جاء به
موسى هو الحق وليس من السحر؛ كما قال تعالى: {فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ
مُوسَى وَهَارُونَ} ، ولم يقع ذلك بعينه لغير موسى عليه
السلام.
ولما كان الزمن الذي يعيش فيه عيسى عليه السلام قد فشا فيه الطب؛ جاء
المسيح بما حير الأطباء من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص من
الداء العضال القبيح وخلق من الطين كهيئة الطير فنفخ فيه فكان طيرا
بإذن الله، فطاشت عقول الأطباء، وأذعنوا أن ذلك من عند الله عز وجل.
ولما كانت العرب أرباب الفصاحة والبلاغة وفرسان الكلام والخطابة؛ جعل
الله سبحانه معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، الذي {لَا
يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، وهي المعجزة الباقية
الخالدة على مر العصور.
فقد اختار الله هذه المعجزة الباهرة لخاتمة الرسالات السماوية العامة
للناس أجمعين؛ فالقرآن معجزة يطلع عليها الأجيال في كل زمان ويتلونه،
فيعلمون أنه كلام الله حقا، وليس كلام البشر، وقد تحدى الله الإنس
والجن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور منه، أو بسورة منه؛ فما استطاع أحد
منهم منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا وإلى الأبد أن
يأتي أحد بكتاب مثله أو بمثل سورة منه، على الرغم من وجود أعداء كثيرين
للرسول صلى الله عليه وسلم ولدين الإسلام في عصور التاريخ.
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ
مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُم
صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي وَقُودُوهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّت
لِلْكَافِرِين} ؛ فالتحدي لا يزال قائما إلى قيام الساعة في
قوله: {فَإِنْ
لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}
.
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ
تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ
إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا التحدي كان بمكة؛ فإن سورة يونس
وهود والطور من المكي، ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة، فقال في
سورة البقرة -وهي مدنية-: {وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا
فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ؛ فذكر أمرين:
أحدهما: قوله: {فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} ؛ يقول:
إذا لم تفعلوا؛ فقد علمتم أنه حق؛ فخافوا الله أن تكذبوه، فيحيق بكم
العذاب الذي وعده للمكذبين.
والثاني: قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ، ولن لنفي المستقبل، فثبت
أنهم فيما يستقبل من الزمان لا يأتون بسورة من مثله؛ كما أخبر بذلك.
وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول في سورة سبحان - وهي
مكية افتتحها بذكر الإسراء وهو كان بمكة بنص القرآن والخبر
المتواتر-: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ
لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}
؛ أمره أن يخبر بالخبر جميع الخلق؛ معجزا لهم، قاطعا بأنهم إذا اجتمعوا
كلهم لا يأتون بمثل هذا القرآن، ولو تظاهروا عليه وتعاونوا على ذلك،
وهذا التحدي لجميع الخلق، وقد سمعه كل من سمع القرآن، وعرفه الخاص
والعام، وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوه ولا أتوا بسورة من مثله.
ومن حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم والأمر على ذلك، مع ما
علم من أن الخلق كانوا كلهم كفارا قبل أن يبعث، ولما بعث إنما تبعه
قليل، وكان الكفار من أحرص الناس على إبطال قوله، مجتهدين بكل طريق
ممكن؛ تارة يذهبون إلى أهل الكتاب فيسألونهم عن أمور الغيب حتى يسألوه
عنها؛ كما سألوه عن قصة يوسف وأهل الكهف وذي القرنين، ويجتمعون في مجمع
بعد مجمع ليتفقوا على ما يقولونه فيه، وصاروا يضربون له الأمثال
فيشبهونه بمن ليس بمثله مع ظهور الفرق؛ فتارة يقولون: مجنون،
وتارة: ساحر، وكاهن، وشاعر... إلى أمثال ذلك من الأقوال التي
يعلمون هم وغيرهم من كل عاقل يسمعها أنها افتراء عليه.
فإذا كان قد تحداهم بالمعارضة مرة بعد مرة، وهي تبطل دعواهم؛ فمعلوم
أنهم لو كانوا قادرين عليها؛ لفعلوها؛ فإنه مع وجود هذا الداعي التام
المؤكد إذا كانت القدرة حاصلة؛ وجب وجود المقدور، ثم هكذا القول في
سائر أهل الأرض؛ فهذا يوجب علما مبينا لكل أحد بعجز جميع أهل الأرض عن
أن يأتوا بمثل هذا القرآن بحيلة وبغير حيلة. وهذا أبلغ من الآيات
التي تكرر جنسها؛ كإحياء الموتى؛ فإن هذا لم يأت أحد بنظيره.
فإقدامه صلى الله عليه وسلم في أول الأمر على هذا التحدي وهو بمكة
وأتباعه قليل على أن يقول خبرا يقطع به أنه لو اجتمع الإنس والجن على
أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله في ذلك العصر وفي سائر
الأعصار المتأخرة لا يكون إلا مع جزمه بذلك وتيقنه له، وإلا؛ فمع الشك
والظن لا يقول ذلك من يخاف أن يظهر كذبه فينفضح فيرجع الناس عن تصديقه،
وإذا كان جازما بذلك متيقنا له؛ لم يكن ذلك إلا عن إعلام الله تعالى له
بذلك، وليس في العلوم المعتادة أن يعلم الإنسان أن جميع الخلق لا
يقدرون أن يأتوا بمثل كلامه إلا إذا علم العالم أنه خارج عن قدرة
البشر، والعلم بهذا يستلزم كونه معجزا...".
والقرآن الكريم معجزة من وجوه متعددة؛ من جهة اللفظ، ومن جهة النظم،
ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر
بها ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته وغير
ذلك، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب المستقبل وعن الغيب
الماضي، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد، ومن جهة ما بين فيه من الدلائل
اليقينية