الأنواء
وهو عبارة عن نسبة المطر إلى طلوع النجم أو غروبه على ما كانت الجاهلية
تعتقده من أن طلوع النجم أو سقوطه في المغيب يؤثر في إنزال المطر،
فيقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا! وهم يريدون بذلك النجم، ويعبرون عنه
بالنوء، وهو طلوع النجم، من ناء ينوء: إذا نهض وطلع، فيقولون: إذا
طلع النجم الفلاني؛ ينزل المطر. والمراد بالأنواء عندهم؛ منازل القمر
الثمانية والعشرون، في كل ثلاث عشرة ليلة؛ يغرب واحد منها عند طلوع
الفجر ويطلع مقابله وتنقضي جميعها عند انقضاء السنة القمرية، وتزعم
العرب في جاهليتها أنه عند طلوع ذلك النجم في الفجر ومغيب مقابله؛ ينزل
المطر، ويسمى ذلك الاستسقاء بالأنواء، ومعنى ذلك نسبة السقيا إلى هذه
الطوالع، وهذا من اعتقاد الجاهلية الذي جاء الإسلام بإبطاله والنهي
عنه؛ لأن نزول المطر وانحباسه يرجع إلى إرادة الله وتقديره وحكمته،
وليس لطلوع النجوم تأثير فيه.
قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ
بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا
الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ}
فقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} : معناه: نسبة المطر
الذي هو الرزق النازل من الله إلى النجم؛ بأن يقال: مطرنا بنوء كذا
وكذا، وهذا من أعظم الكذب والافتراء؛ كما روى الإمام أحمد والترمذي
وحسنه ابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في "المختارة"عن علي رضي
الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(وتجعلون رزقكم يقول شكركم تقولون
مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا)
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: "وهذا أولى ما فسرت به
الآية، وروي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني
وغيرهم، وهو قول جمهور المفسرين". انتهى.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (أربع في أمتي من أمر
الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء
بالنجوم، والنياحة) . والمراد بالجاهلية هنا: ما قبل بعثة
النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما يخالف ما جاء به الرسول صلى الله
عليه وسلم؛ فهو جاهلية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معنى الحديث: "أخبر أن بعض
أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن كل
ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم؛ فهو مذموم. في دين الإسلام، وإلا؛ لم
يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، ومعلوم أن إضافتها إلى
الجاهلية خرج مخرج الذم، وهذا كقوله تعالى: {وَلَا
تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ؛ فإن ذلك
ذم للتبرج وذم لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في
الجملة..." انتهى.
وقوله في هذا الحديث: "والاستسقاء بالنجوم": معناه نسبة المطر
إلى النوء، وهو سقوط النجم؛ بأن يقول: مطرنا بنجم كذا وكذا.
وحكم الاستسقاء بالأنواء أنه إن كان يعتقد أن له تأثيرا في إنزال
المطر؛ فهذا شرك وكفر أكبر، وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية. وإن كان
لا يعتقد للنجم تأثيرا، وأن المؤثر هو الله وحده، ولكنه أجرى العادة
بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم؛ فهذا لا يصل إلى الشرك الأكبر، ويكون
من الشرك الأصغر؛ لأنه يحرم نسبة المطر إلى النجم، ولو على سبيل
المجاز؛ سدا للذريعة.
وقد روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد رضي الله عنه؛ قال: (صلى
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء
كانت من الليل، فلما انصرف؛ أقبل على الناس، فقال هل تدرون ماذا قال
ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛
فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما
من قال مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) .
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أصبح
من عبادي مؤمن بي وكافر) وفسر المؤمن بأنه الذي ينسب المطر
إلى فضل الله ورحمته، وفسر الكافر بأنه الذي ينسب المطر إلى الكوكب،
وهذا فيه دليل على أنه لا تجوز نسبة أفعال الله إلى غيره، وأن ذلك كفر؛
فإن اعتقد أن للكوكب تأثيرا في إنزال المطر؛ فهذا كفر أكبر؛ لأنه إشراك
في الربوبية والمشرك كافر، وإن لم يعتقد أن للكواكب تأثيرا في إنزال
المطر، وإنما نسبه إليها مجازا؛ فهذا محرم، وهو من الشرك الأصغر؛ لأنه
نسب نعمة الله إلى غيره.
قال القرطبي رحمه اللة: "وكانت العرب إذا طلع نجم من المشرق وسقط
آخر من المغرب، فحدث عند ذلك مطر أو ريح؛ فمنهم من ينسبه إلى الطالع،
ومنهم من ينسبه إلى الغارب نسبة إيجاد واختراع، ويطلقون ذلك القول
المذكور في الحديث، فنهى الشارع عن إطلاق ذلك؛ لئلا يعتقد أحد اعتقادهم
ولا يتشبه بهم في نطقهم..."انتهى.
وقد روى مسلم في "صحيحه"في سبب نزول قوله تعالى: {فَلَا
أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} الآيات عن ابن عباس رضي
الله عنهما: قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا. فأنزل الله هذه
الآيات: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ
النُّجُومِ} إلى قوله: {وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} .
فإنزال المطر من الله وبحوله وقوته لا دخل لمخلوق فيه؛ كما قال
تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} ؛ فمن
نسب إنزال المطر إلى الكواكب أو إلى الظواهر الطبيعية كالانخفاض الجوي
أو المناخ؛ فقد كذب وافترى، وهذا شرك أكبر، وإن كان يعتقد أن المنزل هو
الله، ولكنه نسبه إلى هذه الأشياء من باب المجاز؛ فهذا حرام وكفر أصغر؛
لأنه نسب النعمة إلى غير الله؛ كالذي يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا.