الطيرة
تعريف التطير :
في اللغة : مأخوذ من الطير؛ لأن العرب
يتشاءمون أو يتفاءلون بالطيور على الطريقة المعروفة عندهم بزجر الطير،
ثم ينظر: هل يذهب يميناً أو شمالاً أو ما أشبه ذلك، فإن ذهب إلى الجهة
التي فيها التيامن؛ أقدم، أو فيها التشاؤم؛ أحجم.
أما في الاصطلاح؛ فهي التشاؤم بمرئي أو
مسموع أو معلوم.
بمرئي مثل: لو رأى طيراً فتشاءم لكونه
موحشاً.
أو مسموع مثل: من هم بأمر فسمع أحداً
يقول لآخر: يا خسران، أو يا خائب؛ فيتشاءم.
أو معلوم؛ كالتشاؤم ببعض الأيام أو بعض
الشهور أو بعض السنوات؛ فهذه لا تُرى ولا تسمع.
واعلم أن التطير ينافي التوحيد، ووجه
منافاته له من وجهين:
الأول: أن المتطير قطع توكله على الله
واعتمد على غير الله .
الثاني: أنه تعلق بأمر لا حقيقة له، بل
هو وهم وتخييل؛ فأي رابطة بين هذا الأمر، وبين ما يحل له، وهذا لا شك
أنه يخل بالتوحيد ؛ لأن التوحيـد عبادة
واستعانة، قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5)
، وقال تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ
عَلَيْهِ)(هود: من الآية123) .
فالطيرة محرمة، وهي منافية للتوحيد كما
سبق، والمتطير لا يخلو من حالين:
الأول: أن يحجم ويستجيب لهذه الطيرة ويدع
العمل، وهذا من اعظم التطير والتشاؤم.
الثاني: أن يمضي لكن في قلق وهم وغم يخشى
من تأثير هذا المتطير به، وهذا أوهن.
وكلا الأمرين نقص في التوحيد وضرر على
العبيد، بل انطلق إلى ما تريد بانشراح صدر وتيسير واعتماد على الله عز
وجل ، ولا تسيء الظن بالله عز وجل .
التعريف بالعدوى والطيرة والهامة، الصفر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(لا
عدوى ولا طيرة ولا هامة، ولا صفر) .
رواه البخاري، وزاد مسلم : (ولا
نوء ، ولا غول).
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى). لا
نافية للجنس
والعدوى: انتقال المرض من المريض إلى
الصحيح، وكما يكون في الأمراض الحسية يكون أيضاً في الأمراض المعنوية
الخلقية، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جليس السوء كنافخ
الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة .
فقوله: (لا عدوى) يشمل الحسية والمعنوية،
وإن كانت في الحسية أظهر.
قوله: (ولا طيرة) . الطيرة هي التشاؤم
بمرئي أو مسموع أو معلوم .
قوله: (ولا هامة). الهامة؛ فسرت بتفسيرين:
الأول: أنها البومة الطير المعروف،
تزعم العرب أنه إذا قُتل القتيل؛ صارت عظامة هامة تطير وتصرخ حتى يؤخذ
بثأره، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه.
التفسير الثاني: أن بعض العرب يقولون:
الهامة هي الطير المعروف، لكنهم يتشاءمون بها، فإذا وقعت على بيت أحدهم
ونعقت؛ قالوا: إنها تنعق به ليموت، ويعتقدون أن هذا دليل قرب أجله،
وهذا كله بلا شك عقيدة باطلة.
قوله: (ولا صفر) إنه شهر صفر، كانت العرب
يتشاءمون به ولاسيما في النكاح.
وقيل: إنه داء في البطن يصيب الإبل
وينتقل من بعير إلى آخر .
وليس في سياق التغيير، والأقرب أن صفر
يعني الشهر، وأن المراد نفي كونه مشؤوماً؛ أيك لا شؤم فيه، وهو كغيره
من الأزمان يقدر فيه الخير ويقدر فيه الشر.
وهذا النفي في هذه الأمور الأربعة ليس
نفياً للوجود؛ لأنها موجودة، ولكنه نفي للتأثير؛ فالمؤثر هو الله، فما
كان منها سبباً معلوماً؛ فهو سبب صحيح، وما كان منها سبباً موهوماً؛
فهو سبب باطل، ويكون نفياً لتأثيره بنفسه إن كان صحيحاً، ولكونه سبباً
إن كان باطلاً.
العدوى
فقوله: (لا عدوى): العدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله
صلى الله عليه وسلم: (لا يورد ممرض على مصح) ؛ أي: لا يورد صاحب الإبل
المريضة على صاحب الإبل الصحيحة؛ لئلا تنتقل العدوى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فر من
المجذوم فرارك من الأسد) .
الجذام مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه؛
فالأمر بالفرار من المجذوم لكي لا تقع العدوى منه إليك، وفيه إثبات
لتأثير العدوى، لكن تأثيرها ليس أمراً حتمياً، بحيث تكون علة فاعله،
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار، وأن لا يورد ممرض على مصح من
باب تجنب الأسباب لا من باب تأثير الأسباب نفسها؛ فالأسباب لا تؤثر
بنفسها، لكن ينبغي لنا أن نتجنب الأسباب التي تكون سبباً للبلاء؛ لقوله
تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(البقرة: من
الآية195)، ولا يمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر تأثير
العدوى؛ لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى.
فإن قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم
لما قال: (لا عدوى. قال رجل: يا رسول الله !
الإبل تكون صحيحة مثل الظباء، فيدخلها
الجمل الأجرب فتجرب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن أعدى الأول؟)
يعني أن المرض نزل على الأول بدون عدوى، بل نزل من عند الله عز وجل,
فكذلك إذا انتقل بالعدوى؛ فقد أنتقل بأمر
الله، والشيء قد يكون له سبب معلوم وقد لا يكون له سبب معلوم، فجرب
الأول ليس سببه معلوماً, إلا أنه
بتقدير الله تعالى، وجرب الذي بعده له سبب معلوم ، لكن لو شاء الله
تعالى لم يجرب، ولهذا أحياناً تُصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت،
وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية، وقد تدخل البيت فتصيب البعض
فيموتون ويسلم آخرون ولا يصابون.
فعلى الإنسان أن يعتمد على الله، ويتوكل
عليه، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل مجذوم، فأخذ بيده
وقال له: (كل) يعني من الطعام الذي كان يأمل منه الرسول صلى الله عليه
وسلم ) ؛ لقوة توكله صلى الله عليه وسلم ؛ فهذا التوكل مقاوم لهذا
السبب المعدي.
الصفر
وقوله: (لا صفر). الأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي
تقدير الله عز وجل ؛ فصفر كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر
وهو ليس شهر خير ولا شهر شر.
فهذه الأربعة التي نفاها الرسول صلى الله
عليه وسلم تُبين وجوب التوكل على الله وصدق العزيمة، ولا يضعف المسلم
أمام هذه الأشياء؛ لأن الإنسان لا يخلو من حالين:
إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم أو
ما أشبه ذلك؛ فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له ولا أصل له،
وهو نوع من الشرك.
وإما أن لا يستجيب بأن يكون عنده نوع من
التوكل ويقدم ولا يبالي، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم، وهذا
وإن كان أهون من الأول، لكن يجب ألا يستجيب لداعي هذه الأشياء التي
نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً، وأن يكون معتمداً على الله عز
وجل .
وبعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل،
فإذا نظر ذكر النار تشاءم، وإذا نظر ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب؛ فهذا
مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام.
فالحاصل أنك لا تجعل على بالك مثل هذه
الأمور إطلاقاً؛ فالأسباب المعلومة الظاهرة تقي أسباب الشر، وأما
الأسباب الموهومة التي لم يجعلها الشرع سبباً بل نفاها؛ فلا يجوز لك أن
تتعلق بها، بل احمد الله على العافية، وقل:
ربنا عليك توكلنا.
الأنواء
قوله: (لا نوء) . واحد الأنواء، والأنواء: هي منازل
القمر، وهي ثمان وعشرون منزلة، كل منزلة لها نجم تدوم بمدار السنة.
وهذه النجوم بعضها يسمى النجوم الشمالية،
وهي لأيام الصيف، وبعضها يسمى النجوم الجنوبية، وهي لأيام الشتاء،
وأجرى الله العادة أن المطر في وسط الجزيرة العربية يكون أيام الشتاء،
أما أيام الصيف؛ فلا مطر.
فالعرب كانوا يتشاءمون بالأنواء،
ويتفاءلون بها؛ فبعض النجوم يقولون: هذا نجم نحس لا خير فيه، وبعضها
بالعكس يتفاءلون به فيقولون: هذا نجم سعود وخير، ولهذا إذا أُمطروا
قالوا: مُطرنا بنوء كذا، ولا يقولون: مُطرنا بفضل الله ورحمته، ولا شك
أن هذا غاية الجهل.
ألسنا أدركنا هذا النوء بعينه في سنة
يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر ؟
ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود
النجوم الموسمية التي كانت كثيراً ما يكون في زمنها الأمطار.
فالنوء لا تأثير له؛ فقولنا: طلع هذا
النجم، كقولنا: طلعت الشمس؛ فليس له إلا طلوع وغروب، والنوء وقت تقدير،
وهو يدل على دخول الفصول فقط.
وفي عصرنا الحاضر يعلق المطر بالضغط
الجوي والمنخفض الجوي، وهذا وإن كان قد يكون سبباً حقيقياً ، ولكن لا
يفتح هذا الباب للناس، بل الواجب أن يُقال: هذا من رحمة الله، هذا من
فضله ونعمه، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً
ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ
يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ )(النور: من الآية43)، وقال تعالى: (اللَّهُ
الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي
السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ
يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ )(الروم: من الآية48).
فتعليق المطر بالمنخفضات الجوية من
الأمور الجاهلية التي تصرف الإنسان عن تعلقه بربه.
فذهبت أنواء الجاهلية، وجاءت المنخفضات
الجوية، وما أشبه ذلك من الأقوال التي تصرف الإنسان عن ربه
سبحانه وتعالى .
نعم، المنخفضات الجوية قد تكون سبباً
لنزول المطر، لكن ليست هي المؤثر بنفسها؛ فتنبه.
الغول
قوله: (ولا غول). جمع غولة أو غولة، ونحن نسميها
باللغة العامية: (الهولة)؛ لأنها تهول الإنسان.
والعرب كانوا إذا سافروا أو ذهبوا يميناً
وشمالاً تلونت لهم الشياطين بألوان مفزعة مخيفة، فتدخل في قلوبهم الرعب
والخوف، فتجدهم يكتئبون ويستحسرون عن الذهاب إلى هذا الوجه الذي
أرادوا، وهذا لا شك أنه يضعف التوكل على الله، والشيطان حريص على إدخال
القلق والحزن على الإنسان بقدر ما يستطيع، قال تعالى: (إِنَّمَا
النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ
بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)(المجادلة: من الآية10).
وهذا الذي نفاه الرسول صلى الله عليه
وسلم هو تأثيرها؛ وليس المقصود بالنفي نفي الوجود، وأكثر ما يبتلى
الإنسان بهذه الأمور إذا كان قلبه معلقاً بها، أما إن كان معتمداً على
الله غير مبال بها؛ فلا تضره ولا تمنعه عن جهة قصدة.
الفأل
قوله في حديث أنس: (لا عدوى، ولا طيرة ويعجبني الفأل)
. قالوا : وما الفأل ؟ قال : (الكلمة الطيبة) .
قوله: (ويعجبني الفأل). أي: يسرني،
والفأل بينه بقوله : (الكلمة الطيبة). فـ (الكلمة
الطيبة) تعجبه صلى الله عليه وسلم ؛ لما فيها من إدخال السرور على
النفس والانبساط ، والمضي قدماً لما يسعى إليه الإنسان، وليس هذا من
الطيرة، بل هذا مما يشجع الإنسان؛ لأنها لا تؤثر عليه، بل تزيده
طمأنينة وإقداماً وإقبالاً.
وظاهر الحديث: الكلمة الطيبة في كل شيء؛
لأن الكلمة الطيبة في الحقيقة تفتح القلب وتكون سبباً لخيرات كثيرة،
حتى إنها تُدخل المرء في جملة ذوي الأخلاق الحسنة.
عن عقبة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً،
فإذا رأى أحدكم ما يكره؛ فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا
يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك) .
قوله: (أحسنها الفأل) . سبق أن الفأل ليس
من الطيرة ، لكنه شبيه بالطيرة من حيث الإقدام؛ فإنه يزيد الإنسان
نشاطاً وإقداماً فيما توجه إليه؛ فهو يشبه الطيرة من هذا الوجه، وإلا؛
فبينهما فرق لأن الطيرة توجب تعلق الإنسان بالمتطير به، وضعف توكله على
الله، ورجوعه عما هم به من أجل ما رأى، لكن الفأل يزيده قوة وثباتاً
ونشاطاً؛ فالشبه بينهما هو التأثير في كل منهما.
دفع الطيرة إذا خطرت على القلب
قوله: (ولا ترد مسلماً) . يفهم منه أن من ردته الطيرة
عن حاجته؛ فليس بمسلم.
قوله: (فإذا رأى أحدكم ما يكره) . فحينئذ
قد ترد على قلبه الطيرة، ويبتعد عما يريدن ولا يقدم عليه، وقد ذكر
النبي صلى الله عليه وسلم دواء لذلك وقال: (فليقل:
اللهم لا يأتيي بالحسنات …) إلخ.
قوله: ( اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت
) . وهذا هو حقيقة التوكل، أي: لا يقدرها ولا يخلقها ولا يوجدها للعبد
إلا الله وحده لا شريك له، وهذا لا ينافي أن تكون الحسنات بأسباب خلقها
الله؛ صار الموجد حقيقة هو الله.
والمراد بالحسنات: ما يستحسن المرء
وقوعه، ويحسن في عينه.
ويشمل ذلك الحسنات الشرعية؛ كالصلاة
والزكاة وغيرها؛ لأنها تسر المؤمن ، ويشمل الحسنات الدنيوية؛ كالمال
والولد ونحوها
وقوله: (ولا يدفع السيئات إلا أنت) .
السيئات: ما يسوء المرء وقوعه وينفر منه حالاً أو مآلاً ، ولا يدفعها
إلا الله، ولهذا إذا أصيب الإنسان بمصيبة التجأ إلى ربه تعالى، حتى
المشركون إذا ركبوا في الفلك ، وشاهدوا الغرق؛ دعوا الله مخلصين له
الدين.
ولا ينافي هذا أن يكون دفعها بأسباب ؛
فمثلاً لو رأى رجلاً غريقاً، فأنقذه؛ فإنما أنقذه بمشيئة الله، ولو شاء
الله لم ينقذه؛ فالسبب من الله.
فعقيدة كل مسلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا
لله، ولا يدفع السيئات إلا الله، هكذا يجب أن يكون المؤمن .
قوله : ( ولا حول ولا قوة إلا بك ) . في
معناها وجهان:
الأول : أنه لا يوجد حول ولا قوة إلا
بالله وحده، ومن سواه ليس لهم حول ولا قوة، ويكون الحول والقوة
المنفيان عن غير الله هما الحول المطلق والقوة المطلقة؛ لأن غير الله
فيه حول وقوة، لكنها نسبية ليست بكاملة؛ فالحول الكامل والقوة الكاملة
في الله وحده.
الثاني : أنه لا يوجد لنا حول ولا قوة
إلا بالله؛ والمعنى وهو إننا لا نتحول من حال إلى حال، ولا نقوى على
ذلك إلا بالله ؛ فيكون في هذه الجملة كمال التفويض إلى الله، وأن
الإنسان يبرأ من حوله وقوته إلا بما أعطاه الله من الحول والقوة
.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إذا
رأينا ما نكره مما يتشاءم به المتشائم أن نقول : ( اللهم لا يأتي
بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك
) .
توضيح الفرق بين لفظة شرك ولفظة الشرك لتفريق
بين الشرك الأكبر والأصغر
وعن ابن مسعود مرفوعا : ( الطيرة شرك ، الطيرة شرك
)
قوله : ( الطيرة شرك ، الطيرة شرك
) هذا توكيد لفظي.
وقوله : ( شرك ) . أي : إنها من أنواع
الشرك، وليست الشرك كله، وإلا؛ لقال : الطيرة شرك .
وهل المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر
المخرج من الملة ، أو أنها نوع من أنواع الشرك ؟
هي نوع من أنواع الشرك؛ كقوله صلى الله
عليه وسلم : ( اثنتان في الناس هما بهم كفر )
؛ أي : ليس الكفر المخرج عن الملة ، وإلا
، لقال : ( هما بهم الكفر ) ، بل هما نوعان من الكفر .
لكن في ترك الصلاة قال : ( بين الرجل و
بين الشرك والكفر ترك الصلاة) ، فقال : (
الكفر ) ؛ فيجب أن نعرف الفرق بين ( أل )
المعرفة أو الدالة على الاستغراق ، وبين خلو اللفظ منها، فإذا قيل :
هذا كفر؛ فالمراد أنه نوع من الكفر لا يخرج من الملة، وإذا قيل: هذا
الكفر ؛ فهو المخرج من الملة.
فإذا تطير إنسان بشيء رآه أو سمعه؛ فإنه
لا يعد مشركا شركا يخرجه من الملة، لكنه أشرك من حيث إنه اعتمد على هذا
السبب الذي لم يجعله الله سببا، وهذا يضعف التوكل على الله ويوهن
العزيمة ، وبذلك يعتبر شركا من هذه الناحية، والقاعدة : ( إن كل إنسان
اعتمد على سبب لم يجعله الشرع سببا؛ فإنه مشركا شركا أصغر
.
وهذا نوع من الإشراك مع الله ؛ إما في
التشريع إن كان هذا السبب شرعيا، وإما في التقدير إن كان هذا السبب
كونيا، لكن لو اعتقد هذا المتشائم المتطير أن هذا فاعل بنفسه دون الله
؛ فهو مشركا شركا أكبر؛ لأنه جعل لله شريكا في الخلق والإيجاد .
فمتى يتبين لنا أن المتطير قد وقع في
الشرك الأكبر المخرج من الملة ومتى يكون وقع في الشرك الأصغر
يكون مشركاً شركا أكبر إن اعتقد أن هذا
المتشاءم به يفعل ويحدث الشر بنفسه، وإن اعتقده سببا فقط فهو أصغر؛
لأنه سبق ذكر القاعدة المفيدة في هذا الباب وهي: ( إن كل من اعتقد في
شيء أنه سبب ولم يثبت أنه سبب لا كونا و لا شرعا؛ فشركه شرك أصغر؛ لأنه
ليس لنا أن يثبت أن هذا سبب إلا إذا كان الله قد جعله سببا كونيا أو
شرعيا؛ فالشرعي: كالقراءة و الدعاء، والكوني: كالأدوية التي جرب نفعها)
.
علاج الطيرة
( الطيرة شرك ، الطيرة شرك ، وما منا إلا،
ولكن الله يذهبه بالتوكل )
قوله : ( وما منا إلا) المعنى : ما منا
إنسان يسلم من التطير؛ فالإنسان يسمع شيئا فيتشاءم، أو يبدأ في فعل؛
فيجد أو له ليس بالسهل فيتشاءم و يتركه .
والتوكل : صدق الاعتماد على الله في حلب
النافع ودفع المضار مع الثقة بالله ، وفعل الأسباب التي جعلها الله
تعالى أسبابا .
فلا يكفي صدق الاعتماد فقط ، بل لابد أن
تثق به؛ لأنه سبحانه يقول: ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه )
وقال : ( من ردته الطيرة عن حاجته فقد
أشرك ) قالوا : فما كفارة
ذلك ؟ قال : ( أن تقولوا: اللهم
لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك) .
قوله : ( فما كفارة ذلك ) . أي: ما كفارة
هذا الشرك، أو ما هو الدواء الذي يزيل هذا الشرك؟ وهو الستر، والستر
واق؛ فكفارة ذلك إن وقع أن يقول: ( اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير
إلا طيرك ) .
وهذا الحصر حقيقي؛ فالخير كله من الله، سواء كان بسبب
معلوم أو بغيره .
وقوله : ( لا طير إلا طيرك ) . أي :
الطيور كلها ملكك ؛ فهي لا تفعل شيئا ، وإنما هي مسخرة، قال تعالى :
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ
مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ) (النحل:79) فالطير مسخرة بإذن الله ؛ فالله تعالى هو الذي
يدبرها و يصرفها و يسخرها تذهب يمينا وشمالا ، ولا علاقة لها بالحوادث.
قوله : ( ولا إله غيرك )
وهذا فيه النفي أن تكون هناك آلهة حقا
تستحق أن تعبد؛ وإثبات أن الله وحده هو الإله الحق المستحق للعبادة
والخلاصة في علاج النفس مع
الطيرة في ثلاثة أمور
الأول : أن من طرأ أو خطر على قلبه التطير ولم ترده
الطيرة؛ فإن ذلك لا يضر لكن يدفعه والدواء الذي يدفعه به أي الوقاية من
التطير أن يأتي بهذا الدعاء ( اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا
يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك ) .
الأمر الثاني أن وقع في الطيرة التي بينها الشرع (
إنما الطيرة ما أمضاك أوردك ) فهل يتركها في نفسه لا بل يذهبها من
نفسه, وهذا الدواء الذي يذهب به الطيرة هو التوكل على الله