التنجيم
وهو كما عرفه بعض المحققين بأنه الاستدلال بالأحوال
الفلكية على الحوادث الأرضية؛ كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وظهور
الحر والبرد، وتغير الأسعار، أو حدوث الأمراض والوفيات، أو السعود
والنحوس. وهذا ما يسمى بعلم التأثير، وهو على نوعين:
النوع الأول: أن يدعي المنجم أن الكواكب فاعلة
مختارة، وأن الحوادث تجري بتأثيرها، وهذا كفر بإجماع المسلمين؛ لأنه
اعتقاد أن هناك خالق غير الله، وأن أحدا يتصرف في ملكه بغير مشيئته
وتقديره سبحانه وتعالى.
النوع الثاني: الاستدلال بمسير الكواكب واجتماعها
وافتراقها على حدوث الحوادث، وهذا لا شك في تحريمه؛ لأنه من ادعاء علم
الغيب، وهو من السحر أيضا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من
اقتبس شعبة من النجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السحر؛ زاد ما زاد)
. رواه أبو داود، وإسناده صحيح، وصححه النووي والذهبي، ورواه ابن
ماجه وأحمد وغيرهما.
والسحر محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
والإخبار عن الحوادث المستقبلية عن طريق الاستدلال
بالنجوم من ادعاء علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه؛ فهو ادعاء
لمشاركته سبحانه بعلمه الذي انفرد به أو تصديق لمن ادعى ذلك، وهذا
ينافي التوحيد؛ لما فيه من هذه الدعوى الباطلة.
قال الخطابي: "علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه
أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان؛
أوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وتغير الأسعار، وما في معناها من
الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بسير الكواكب في مجاريها
واجتماعها وافتراقها؛ يدعون أن لها تأثيرا في السفليات، وهذا منهم تحكم
على الغيب، وتعاط لعلم قد استأثر به الله، ولا يعلم الغيب سواه".
قال البخاري في "صحيحه": "قال قتادة: خلق
الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى
بها؛ فمن تأول فيها غير ذلك؛ أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له
به..."انتهى.
وأخرج الخطيب عنه أنه قال: "وإن أناسا جهلة بأمر
الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم كذا وكذا؛ كان كذا
وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا؛ كان كذا وكذا... ولعمري؛ ما من
نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والذميم، وما
علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن
أحدا علم الغيب؛ لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وعلمه
أسماء كل شيء..."انتهى.
أقول: ومن الخرافات الباطلة ما يروجه الدجالون في
بعض الصحف والمجلات من ذكر البخت والنحوس والسعود، ويعلقون ذلك بحسابات
البروج والنجوم، ويصدق به بعض السذج.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في "فتح
المجيد": "فإن قيل: المنجم قد يصدق. قيل: صدقه كصدق
الكاهن؛ يصدق في كلمة ويكذب في مئة، وصدقه ليس عن علم، بل قد يوافق
قدرا فيكون فتنة في حق من صدقه".
قال: "وقد جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه
وسلم بإبطال علم التنجيم؛ كقوله: (من
اقتبس شعبة من النجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السحر؛ زاد ما زاد)
. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. وعن رجاء بن حيوة: أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (إن مما
أخاف على أمتي التصديق بالنجوم والتكذيب بالقدر وحيف الأئمة)
. رواه ابن حميد.
وأما الاستدلال بالنجوم لمعرفة الاتجاه في الأسفار في
البر والبحر؛ فهذا لا بأس به، وهو من نعمة الله عز وجل؛ حيث يقول
سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ} ؛ أي: لتعرفوا بها جهة قصدكم، وليس المراد أنه
يهتدى بها في علم الغيب كما يعتقده المنجمون.
قال الخطابي: وأما ما يستدل به من النجوم على جهة
القبلة؛ فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة من الأئمة، الذين لا نشك في
عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها؛ مثل أن
يشاهدها بحضرة الكعبة، ويشاهدها على حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم
الدلالة منها بالمعاينة، وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم إذ كانوا عندنا غير
متهمين في دينهم ولا مقصرين في معرفتهم.
وقال ابن رجب: والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم
التأثير؛ فإنه -أي: علم التأثير- باطل محرم قليله وكثيره، وأما علم
التسيير؛ فيتعلم ما يحتاج إليه من الاهتداء ومعرفة القبلة والطرق، وهو
جائز عند الجمهور اهـ.
وكذلك تعلم منازل الشمس والقمر للاستدلال بذلك على
القبلة وأوقات الصلوات والفصول ومعرفة الزوال: قال الخطابي: أما
علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال
وتعلم به جهة القبلة؛ فإنه غير داخل فيما نهي عنه، وذلك أن معرفة رصد
الظل ليس شيئا أكثر من أن الظل ما دام متناقصا؛ فالشمس بعد صاعدة نحو
وسط السماء من الأفق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة؛ فالشمس هابطة من وسط
السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصلح إدراكه بالمشاهدة؛ إلا أن أهل
هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوه من الآلات التي يستغني الناظر فيها
عن مراعاة مدته ومراصدته... انتهى.
وروى ابن المنذر عن مجاهد: أنه كان لا يرى بأسا أن
يتعلم الرجل منازل القمر.
وبعد؛ فإن عقيدة المسلم هي أعز شيء عنده؛ لأن بها
نجاته وسعادته، فيجب عليه أن يحرص على تجنب ما يسيء إليها أو يمسها من
الشركيات والخرافات والبدع؛ لتبقى صافية مضيئة، وذلك بالتزام الكتاب
والسنة وما عليه السلف الصالح، ولا يتم ذلك إلا بتعلم هذه العقيدة،
ومعرفة ما يضادها من العقائد المنحرفة، لا سيما وأنه قد كثر اليوم في
صفوف المسلمين من يحترف التدجيل والشعوذة والتعلق بالقبور والأضرحة
لطلب الحاجات وتفريج الكربات كما كان عليه المشركون الأولون أو أشد،
إضافة إلى اتخاذ السادة وأصحاب الطرق الصوفية أربابا من دون الله
يشرعون لأتباعهم من الدين ما لم يأذن به الله؛ فلا حول ولا قوة إلا بال