قصة أبو محجن الثقفي
أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي كان يدمن الخمر وكان يجلد عليها , و قد حده عمر بن الخطاب في الخمر سبع مرات , فلما أكثر عليهم سجنوه وأوثقوه
وقيل دخل أبو محجن على عمر فظنه قد شرب فقال استنكهوه ([1]) فقال أبو محجن هذا التجسس الذي نهيت عنه فتركه
وكان قد هوى امرأة من الأنصار يقال لها شموس , فحاول النظر إليها فلم يقدر , فآجر نفسه من بناء يبني بيتا بجانب منزلها , فأشرف عليها من كوة , فأنشد ولقد نظرت إلى الشموس ودونها حرج من الرحمن غير قليل , فاستعدى زوجها عمر , فنفاه وبعث معه رجلا يقال له أبو جهراء البصري كان أبو بكر يستعين به فأمر أبا جهراء البصري ورجلا آخر أن يحملاه في البحر
رأى أبو جهراء من أبي محجن سيف فهرب منهما وأتى العراق أيام القادسية , فكتب أبو جهراء إلى عمر بهروب أبو محجن , فكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص يأمره بسجنه , ولما كان يوم القادسية وسعد يتخلل الصفوف ويعظهم ويوصيهم أي الامراء , وكان في الليل قد طاف على العسكر فرأى أبا محجن الثقفي يشرب الخمر فقال له يا عدو نفسه لقد محوت أجر جهادك وعبادتك , والله لآخذن منك حق الله, وجلده الحد وقيده في القصر , وكان بسعد جراحة فاستعمل على الخيل خالد بن عرفطة وصعد سعد فوق البيت لينظر ما يصنع الناس في المعركة , فلما رأى أبو محجن قتال الفرس للمسلمين قال لامرأة سعد وهي بنت خصفة واسمها سلمى يا سلمى يا بنت آل خصفة هل لك إلى خير , قالت وما ذاك , قال تخلين عني وتعيرينني البلقاء , فلله علي إن سلمني الله , أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي , وإن قتلت استرحتم مني , فقالت وما أنا وذاك , فرجع يرسف في قيوده يقول
كفى حزنا أن تردي الخيل بالقنا وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت مصاريع دوني , قد تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة فقد تركوني واحدا , لا أخا ليا
ولله عهد لا أخيس بعهده لئن فرجت ألا أزور الحوانيا
فقالت سلمى إني استخرت الله ورضيت بعهدك فأطلقته , ووثب على فرس لسعد يقال لها البلقاء , ثم أخذ الرمح وانطلق حتى أتى الناس , فقاتل قتالا عظيما , وكان يكبر ويلعب بين الصفين برمحه وسلاحه , فجعل لا يحمل في ناحية إلا هزمهم الله فلا يقف بين يديه أحد , وكان يقصف قصفا منكرا , فعجب الناس منه وهم لا يعرفونه فجعل الناس يقولون هذا ملك , ظنوه ملكا من الملائكة , وسعد ينظر وهو مشرف على الناس من فوق القصر , فجعل يقول والله لولا محبس أبي محجن , وأني تركته في القيد لظننتها بعض شمائله , ولقلت هذا أبو محجن وهذه البلقاء
فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجله في القيد , فأخبرت بنت خصفة سعدا الذي كان من أمره , فقال لا والله لا أحد اليوم رجلا أبلى الله المسلمين على يديه ما أبلاهم , فخلى سبيله
وقال له سعد لا أجلدك في الخمر أبدا , فقال أبو محجن وأنا والله لا أشربها أبدا , قد كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم , لقد كنت أشربها , إذ كان يقام علي الحد أطهر منها , فأما إذا بهرجتني , فو الله لا أشربها أبدا , فلم يشربها بعد
فوفقه الله أن تاب توبة نصوحا فلم يعد إليها إلى أن مات بأذربيجان وقيل بجرجان ([2])
قال أبو محجن في تركه شرب الخمر
رأيت الخمر صالحة وفيها مناقب تهلك الرجل الحليما
فلا والله لا اشربها حياتي ولا أشفي بها أبدا سقيما
هذه توبته بعد أن كان وقت تعاطيه من حبه للخمر , كان ينشد فيها ما أخبر به عبد الملك بن مروان لعبيد بن أبي محجن عندما دخل عليه , فقال أبوك الذي يقول
إذا مُتُّ فٱدِفنّي إلى جَنْب كَرْمةٍ تروّي عظامِي بعد موتي عُروقُها
ولا تَدْفِنَنِّي بالفَلاَة فإنّني أخاف إذا ما مِتُّ أنْ لا أذُوقُها
ليروى بخمر الحص ([3]) لحدي فإنني أسير لها من بعد ما قد أُسقها
وبعد هذه القصة يتبين للمدمن من شعر أبو محجن مدى كان عشقه للخمر, ومع ذلك كان أشجع من بطولته قرار توبته , والاستمرار عليها حتى الممات , وفي إخباره كيف كان مخدوع في الخمر وهو يظن أنها صالحة , وهي تهلك الرجال , لينظر المدمن في قصته هذه وفي حاله ومدى الإهانة التي تعرض لها بسبب المخدرات من إقامة حد بجلد وحبس بل إن أبو محجن في جهالة الخمر وفي تغريبه كان أهون من تغريب مدمن اليوم لأنه بين أظهر أهله وناسه ويشعر بنفورهم منه
فعلى المدمن أن يقتاد بمثل قصة أبو محجن هذه كيف كان الشرب يضيع فروسيته وكان سيحرمه من جلب النصر لدينه وأمته , فإن في المدمنين ما عنده مواهب عظيمة في مجالات كثيرة تفيد الأمة والدين , وتجعل له كيان عظيم , لكن التعاطي يهينه ويخفي هذه المواهب , فلا بد للمدمن أن لا تقل شجاعته عن أبي محجن ويسطر ختاماً لقصته في الإدمان بتوبة نصوحة يتبعها بعمل صالح حتى الممات
[1] اسْتَنْكِهُوهُ أَي شُمُّوا نَكْهَتَهُ ورائحةَ فَمِه هل شَرِبَ الـخمر أَم لا
[2] الإصابة 7/362 , تاريخ الطبري 2/216 , فتوح البلدان 1/258 , فتوح الشام 1/190 , الفائق 2/329
[3] الحص موضع بنواحي حمص يكثر فيه مزارع العنب, وذكر القرطبي عند شرح الآية 219 من سورة البقرة أن الهيثم بن عدِيّ أخبره من رأى قبر أبي مِحجن بأذرَبيجان، أو قال: في نواحي جُرْجان، وقد نبتت عليه ثلاث أُصول كَرْم وقد طالت وأثمرت، وهي معروشة على قبره, ومكتوب على القبر هذا قبر أبي مِحجن قال: فجعلت أتعجب وأذكر قوله