قصة أصحاب الكهف
الإيذاء الذي تعرض له أصحاب الكهف
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13)} الكهف
هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار
أما الكهف فهو غار في الجبل, الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون, وهو في الرقيم أي لوادي الذي هو فيه كهفهم
يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه أنهم هربوا منهم ولجأوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم, وقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم , ربنا هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا , واجعل عاقبتنا رشداً
فألقى الله تعالى عليهم النوم حين دخلوا الكهف فناموا سنين كثيرة, ثم بعثهم من رقدتهم تلك, وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه وإليك قصتهم التي ذكرها الله في سورة الكهف
من هم هؤلاء الشباب أصحاب هذه القصة ؟ وما هي قصتهم التي قصها علينا ربنا ؟
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13) } الكهف
شرع الله تعالى في بسط القصة وشرحها, فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب, وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل, ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً
ألهم الله هؤلاء الفتية رشدهم وآتاهم تقواهم, فآمنوا بربهم أي اعترفوا له بالوحدانية, وشهدوا أنه لا إله إلا هو فزادهم هدى
صبرهم الله على مخالفة قومهم ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة, فإنه ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم, وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد, وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت, ويذبحون لها, وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له دقيانوس,. وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه, فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك, وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم, ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم, عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض
{ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا(14) } الكهف
فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية, فكان أول من جلس منهم وحده أحدهم, جلس تحت ظل شجرة فجاء الأخر فجلس إليها عنده, وجاء الأخر فجلس إليهما, وجاء الأخر فجلس إليهم, وجاء الأخر وجاء الأخر, ولا يعرف واحد منهم الأخر, وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان.
وكان كل واحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفاً منهم, ولا يدري أنهم مثله حتى قال أحدهم: تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء, فليظهر كل واحد منكم بأمره, فقال آخر: أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه باطل, وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما, وقال الأخر: وأنا والله وقع لي كذلك, وقال الأخر كذلك, حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة, فصاروا يداً واحدة, وإخوان صدق, فاتخذوا لهم معبداً يعبدون الله فيه, فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه, فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عز وجل, وقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً, وقالوا إن قومهم اتخذوا من دون الله آلهة وليس على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك
{ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا(15) } الكهف
يقال إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم, وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم, وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه, وكان هذا من لطف الله بهم, فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة
{وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا(16)} الكهف
وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه, ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ولا تشرع فيما عداها, لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع,
ولما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم, واختار الله تعالى لهم ذلك وأخبر عنهم وقال لهم كما فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله, ففارقوهم أيضاً بأبدانكم, فأووا إلى الكهف يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم ويهيئ لكم من أمركم, فعند ذلك خرجوا هراباً إلى الكهف فأووا إليه, ففقدهم قومهم من بين أظهرهم وتطلبهم الملك, فيقال أنه لم يظفر بهم وعمى الله عليه خبرهم
{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَتَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ (17) } الكهف
هذا الكهف كان من نحو الشمال, لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه "ذات اليمين" أي يتقلص الفيء يمنة, أي تميل, وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان, وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه, وهو من ناحية المشرق, فلو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب, ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب, ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً, ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال, ولم تزل فيه إلى الغروب.
والشمس تقرضهم أي تتركهم, وهم في فجوة من الغار أي في متسع منه داخلاً بحيث لا تصبيهم, إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم
وقد أخبر الله تعالى بذلك, وأراد منا فهمه وتدبره, ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض, إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي, وقد قيل هو قريب من أيلة والله أعلم بأي بلاد الله هو, ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه
فأعلمنا تعالى بصفته, ولم يعلمنا بمكانه
وذلك من آيات الله حيث أرشد الفتية إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم, كما أرشدهم إلى الهداية من بين قومهم
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ (18) } الكهف
وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ويقلبهم الله ذات اليمين وذات الشمال
لما ضرب الله على آذانهم بالنوم, لم تنطبق لئلا يسرع إليها البلى, فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها, ولهذا قال تعالى: "وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود"
يقلبون في العام مرتين. لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض.
وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ (18) } الكهف
أي بالفناء وهو الباب, ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب, يحرس عليهم الباب, وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم, وكان جلوسه خارج الباب, لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب
وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال, وهذا فائدة صحبة الأخيار, فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن
{ لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا(18) } الكهف
فالله تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر, لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس, حتى يبلغ الكتاب أجله, وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم, لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة
ثم بعثهم الله تعالى كما أرقدهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبصارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئاً , وذلك بعد ثلثمائة سنة وتسع سنين
{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ (19) } الكهف
ولهذا تساءلوا بينهم كم لبثتم أي كم رقدتم ؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار, واستيقاظهم كان في آخر نهار, ولهذا استدركوا فقالوا: أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم أي الله أعلم بأمركم, وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم, ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك, وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب, فقالوا ابعثوا أحدكم بفضة
{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ (19) } الكهف
أي فضتكم هذه, وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها, فتصدقوا منها وبقي منها, فلهذا قالوا: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة أي مدينتكم التي خرجتم منها
{ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا(19)} الكهف
أي الطعام الطيب الحلال , وليتلطف في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه, ولا يشعرن أي ولا يعلمن بكم أحداً
{ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا(20) } الكهف
إنهم إن علموا بمكانكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم, فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها, أو يموتوا, وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة
وقد أطلع الله تعالى عليهم الناس ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها
{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ا(21) } الكهف
فإنه قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة وكان منهم طائفة قد قالوا تبعث الأجساد, فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك, وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء لهم ليأكلوه, تنكر وخرج يمشي في غير الجادة حتى انتهى إلى المدينة, وذكروا أن اسمها دقسوس, وهو يظن أنه قريب العهد بها, وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل وأمة بعد أمة, وتغيرت البلاد ومن عليها , فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها, ولا يعرف أحداً من أهلها: لا خواصها ولا عوامها, فجعل يتحير في نفسه ويقول: لعل بي جنوناً أو مساً أو أنا حالم, ويقول: والله ما بي شيء من ذلك, وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة. ثم قال: إن تعجيل الخروج من ههنا لأولى لي, ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام, فدفع إليه ما معه من النفقة, وسأله أن يبيعه بها طعاماً, فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها, فدفعها إلى جاره, وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون: لعل هذا وجد كنزاً, فسألوه عن أمره ومن أين له هذه النفقة, لعله وجدها من كنز وممن أنت ؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة, وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس, فنسبوه إلى الجنون, فحملوه إلى ولي أمرهم فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره, وهو متحير في حاله وما هو فيه, فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف , ملك البلد وأهلها , حتى انتهى بهم إلى الكهف فقال لهم: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي فدخل, ودخلوا عليهم ورأوهم, وسلم عليهم الملك واعتنقهم, وكان مسلماً فيما قيل, واسمه تيدوسيس, ففرحوا به وآنسوه بالكلام, ثم ودعوه وسلموا عليه, وعادوا إلى مضاجعهم, وتوفاهم الله عز وجل, فالله أعلم.
وكما أرقدهم الله وأيقظهم بهيآتهم, أطلع عليهم أهل ذلك الزمان ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم في أمر القيامة, فمن مثبت لها ومن منكر, فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم
{ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ (21)} الكهف
قالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم أي سدوا عليهم باب كهفهم, وذروهم على حالهم { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا(21)} الكهف
والذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ
وأخبر تعالى عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف,
{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ا(22)} الكهف
فحكى الله ثلاثة أقوال, فدل على أنه لا قائل برابع, ولما ضعف القولين الأولين بقوله: "رجماً بالغيب" أي قولاً بلا علم, كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه, فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد. ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: "وثامنهم كلبهم" فدل على صحته, وأنه هو الواقع في نفس الأمر. وقوله: "قل ربي أعلم بعدتهم" إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى, إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم, لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا.
وبين تعالى أنه ما يعلمهم إلا قليل من الناس
قال ابن عباس : أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل, كانوا سبعة.
وكان هؤلاء الفتية قبل ملة النصرانية وسبب قص الله علينا قصتهم كما قال ابن عباس أن قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء, وعن خبر ذي القرنين, وعن الروح
بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة, فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله, فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء, فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووصفوا لهم أمره وبعض قوله, وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا, قال: فقالوا لهم سلوه عن ثلاث نأمركم بهن, فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل, وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم, فإنهم قد كان لهم حديث عجيب ؟ وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه, وسلوه عن الروح ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه, وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم, فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد, قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها, فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا, فسألوه عما أمروهم به, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبركم غدا عما سألتم عنه" ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً, ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غداً, واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها, لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة, ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف, فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف, وقول الله عز وجل "ويسألونك عن الروح ؟ قل الروح" الاية.
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا(9)إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا(10)فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا(11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا(12)نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13)وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا(14)هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا(15) وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا(16)وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَتَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا(17)وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا(18)وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا(19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا(20)وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا(21)سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا(22)} الكهف