أدلة عذاب القبر من السنة النبوية
إذا تأملت أحاديث عذاب القبر ونعيمه؛ وجدتها تفصيلا
وتفسيرا لما دل عليه القرآن.
وأحاديث عذاب القبر كثيرة متواترة عن النبي صلى الله
عليه وسلم، ومنها:
1. ما في "الصحيحين"عن ابن عباس: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال إنهما ليعذبان، وما يعذبان
في كبير أما أحدهما؛ فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر؛ فكان يمشي
بالنميمة ثم دعا بجريدة، فشقها نصفين، فقال لعله يخفف عنهما ما لم
ييبسا) .
2. في "صحيح مسلم"عن زيد بن ثابت؛ قال: (بينما
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلته، ونحن
معه؛ إذ حادت به، فكادت تلقيه، فإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال
من يعرف أصحاب هذه القبور؟ فقال رجل أنا قال فمتى مات هؤلاء؟ قال
في الإشراك فقال إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا؛
لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه) الحديث.
3. في "صحيح مسلم"وجميع "السنن"عن أبي
هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا
فرغ أحدكم من التشهد الأخير؛ فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم، ومن
عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)
.
4. وفي "الصحيحين"عن أبي أيوب؛ قال: (خرج
النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس، فسمع صوتا، فقال يهود تعذب
في قبورها) .
5. وفي "الصحيحين"عن عائشة رضي الله عنها؛
قالت: (دخلت عليَّ عجوز من عجائز
يهود المدينة، فقالت إن أهل القبور يعذبون في قبورهم قالت فكذبتها، ولم
أنعم أن أصدقها قالت فخرجت، ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقلت يا رسول الله! إن عجوزا من عجائز يهود أهل المدينة دخلت فزعمت
أن أهل القبور يعذبون في قبورهم؟ قال صدقت؛ إنهم يعذبون عذابا تسمعه
البهائم كلها قالت فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر)
تنبيه هام
وعذاب القبر وسؤال الملكين ينالان كل من مات، ولو لم
يدفن؛ فهو اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال
تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، وسمي عذاب القبر باعتبار الغالب؛
فالمصلوب والمحرق والمغرق وأكيل السباع والطيور له من عذاب البرزخ
ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله، وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب
وكيفياتهما.
فقد ظن بعض الأوائل أنه إذا حرق جسده بالنار وصار
رمادا وذري بعضه في البحر وبعضه في البر في يوم شديد الريح؛ أنه ينجو
من ذلك، فأوصى بنيه أن يفعلوا به ذلك، فأمر الله البحر فجمع ما فيه،
وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: قم! فإذا هو قائم بيني يدي الله،
فسأله: ما حملك على ما فعلت؟ فقال: خشيتك يا رب! وأنت أعلم.
فرحمه الله. فلم يفت عذاب البرزخ ونعيمه لهذه الأجزاء التي صارت في
هذه الحال.
حتى لو علق الميت على رءوس الأشجار في مهاب الرياح؛
لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه ونصيبه، ولو دفن الرجل الصالح في أتون
من النار؛ لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه نصيبه وحظه، فيجعل الله
النار على هذا بردا وسلاما، والهواء على ذلك نارا أو سموما.
فعناصر العالم ومواده منقادة لربها وفاطرها وخالقها؛
يصرفها كيف يشاء، ولا يستعصي منها شيء أراده، بل هي طوع أمره ومشيئته
منقادة لقدرته؛ فغير ممتنع أن ترد الروح إلى المصلوب والغريق والمحرق
ونحن لا نشعر بها؛ لأن ذلك الرد نوع آخر غير المعهود؛ فهذا المغمى عليه
والمسكور والمبهوت أحياء وأرواحهم معهم ولا تشعر بحياتهم، ومن تفرقت
أجزاؤه لا يمتنع على من هو على كل شيء قدير أن يجعل للروح اتصالا بتلك
الأجزاء على تباعد ما بينها وقربه، ويكون في تلك الأجزاء شعور بنوع من
الألم واللذة.
وإذا كان الله تعالى قد جعل في الجمادات شعورا وإدراكا
تسبح ربها به، وتسقط الحجارة من خشيته، وتسجد له الجبال والشجر، وتسبحه
الحصى والمياه والنبات؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ
مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ} ؛ فإذا كانت هذه الأجسام فيها الإحساس
والشعور؛ فالأجسام التي كانت فيها الأرواح والحياة أولى بذلك.
وقد أشهد الله سبحانه عباده في هذه الدار إعادة حياة
كاملة إلى بدن قد فارقته الروح فتكلم ومشى وأكل وشرب وتزوج وولد له:
قال سبحانه: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ
الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}
.
وقال سبحانه: {أَوْ
كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ
اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ
لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} .
وكقبيل بني إسرائيل الذين قالوا لموسى: {لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} فأماتهم الله
ثم بعثهم من بعد موتهم.
وكأصحاب الكهف.
وكقصة إبراهيم في الطيور الأربعة.
فإذا أعاد الحياة التامة إلى هذه الأجساد بعدما بردت بالموت؛ فكيف يمتنع على قدرته الباهرة أن يعيد إليها بعد موتها حياة ما غير مستقرة يقضي بها أمره فيها ويستنطقها بها ويعذبها أو ينعمها بأعمالها؟! وهل إنكار ذلك إلا مجرد تكذيب وعناد وجحود؟