سؤال الملكين
ويسمى بفتنة القبر، وهي الامتحان والاختبار للميت حين
يسأله الملكان.
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في
هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب وأنس بن مالك وأبي هريرة وغيرهم رضي
الله عنهم.
وهي عامة للمكلفين إلا النبيين فقد اختلف فيهم، وكذلك
اختلف في غير المكلفين كالصبيان والمجانين: فقيل: لا يفتنون لأن
المحنة إنما تكون للمكلفين. وقيل: يفتنون.
وحجة من قال: إنهم يسألون: أنه يشرع الصلاة عليهم
والدعاء لهم وسؤال الله أن يقيهم عذاب القبر وفتنة القبر:
كما ذكر مالك في "موطئه"عن أبي هريرة رضي الله
عنه: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى
على جنازة صبي، فسمع من دعائه اللهم! قِهِ عذاب القبر) .
واحتجوا بما رواه علي بن معبد، عن عائشة رضي الله
عنها: أنه مر عليها بجنازة صبي صغير، فبكت، فقيل لها: ما يبكيك يا
أم المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر.
قالوا: والله سبحانه يكمل لهم عقولهم؛ ليعرفوا بذلك
منزلتهم، ويلهمون الجواب عما يسألون عنه.
قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الكثيرة التي فيها
أنهم يمتحنون في الآخرة، وحكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث؛ فإذا
امتحنوا في الآخرة؛ لم يمتنع امتحانهم في القبور.
واحتج من قال: إنهم لا يسألون: بأن السؤال إنما
يكون لمن عقل الرسول والمرسل، فيسأل: هل آمن بالرسول وأطاعه أم لا؟
فأما الطفل الذي لا تمييز له بوجه ما؛ فكيف يقال له: ما كنت تقول في
هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ولو رد إليه عقله في القبر؛ فإنه لا يسأل
عما لم يتمكن من معرفته والعلم به، ولا فائدة في هذا السؤال. وهذا
بخلاف امتحانهم في الآخرة؛ فإن الله سبحانه يرسل إليهم رسولا ويأمرهم
بطاعته وعقولهم معهم؛ فمن أطاعه منهم؛ نجا، ومن عصاه؛ أدخله النار.
فذلك امتحان بأمر يأمرهم به يفعلونه ذلك الوقت، لا أنه سؤال عن أمر مضى
لهم في الدنيا من طاعة أو عصيان كسؤال الملكين في القبر.
وأجابوا عن أدلة الأولين:
أما حديث أبي هريرة؛ فليس المراد بعذاب القبر فيه
عقوبة الطفل على ترك طاعة أو فعل معصية قطعا؛ فإن الله لا يعذب أحدا
بلا ذنب عمله، بل عذاب القبر قد يراد به الألم الذي يحصل للميت بسبب
غيره، وإن لم يكن عقوبة على عمله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن
الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) ؛ أي: يتألم بذلك ويتوجع منه
لا أنه يعاقب بذنب الحي، {وَلَا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، وهذا كقول النبي صلى الله عليه
وسلم: (السفر قطعة من العذاب)
، فالعذاب أعم من العقوبة، ولا ريب أن في القبر من الآلام والهموم
والحسرات ما قد يسري أثره إلى الطفل فيتألم، فيشرع للمصلي عليه أن يسأل
الله تعالى له أن يقيه ذلك العذاب. والله أعلم.
واختلفوا: هل السؤال في القبر عام في حق المسلمين
والمنافقين والكفار أو يختص بالمسلم والمنافق؟
فقيل: يختص ذلك بالمسلم والمنافق دون الكافر الجاحد
المبطل.
وقيل: السؤال في القبر عام للكافر والمسلم، وهذا هو
الذي يدل عليه الكتاب والسنة، واستثناء الكافر من هذا لا وجه له.
واختلفوا: هل السؤال في القبر مختص بهذه الأمة، أو
يكون لها ولغيرها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه خاص بهذه الأمة؛ لأن الأمم قبلنا
كانت الرسل تأتيهم بالرسالة؛ فإذا أبوا؛ كفت الرسل، واعتزلوهم، وعوجلوا
بالعذاب، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالرحمة إماما للخلق؛ كما
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ؛ أمسك عنهم العذاب، وأعطي
السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف ثم يرسخ الإيمان في
قلبه، فأمهلوا فمن ثم ظهر أمر النفاق، وكانوا يسرون الكفر ويعلنون
الإيمان، فكانوا بين المسلمين في ستر، فلما ماتوا؛ قيض الله لهم
فتَّاني القبر ليستخرجا سرهم بالسؤال.
واحتج أهل هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن
هذه الأمة تبتلى في قبورها) ، وبقوله: (أوحي
إلي أنكم تفتنون في قبوركم) ؛ وهذا ظاهر في الاختصاص بهذه
الأمة، ويدل عليه قول الملكين: "ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث
فيكم؟".
القول الثاني: أن السؤال في القبر لهذه الأمة
ولغيرها، وأجاب أصحاب هذا القول عن أدلة القول الأول بأنها لا تدل على
الاختصاص بالسؤال لهذه الأمة دون سائر الأمم.
وقوله: "هذه الأمة": إما أن يراد به أمة
الناس؛ أي: بني آدم؛ كما في قوله تعالى: {وَمَا
مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ
إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ، وكل جنس من أجناس الحيوان
يسمى أمة. وإن كان المراد أمته صلى الله عليه وسلم؛ لم يكن فيه ما
ينفي سؤال غيرهم من الأمم؛ لأنه إخبار لهم بأنهم يسألون في قبورهم.
وكذلك حديث: (أوحي إلي أنكم
تفتنون في قبوركم) ؛ مجرد إخبار لا ينفي سؤال غيرهم.
القول الثالث: التوقف في هذه المسألة؛ لأن الأدلة في ذلك محتملة وليست قاطعة في الاختصاص. والله أعلم.