2-
عموم رسالة
محمد صلى الله عليه وسلم
والرد على من أنكره
يقول جماعة من اليهود والنصارى ومن قلدهم: إن محمدا
صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العرب دون أهل الكتاب! ويلبسون
بقولهم: إن كان دينه حقا؛ فديننا أيضا حق، والطرق إلى الله تعالى
متنوعة! ويشبهون ذلك بمذاهب الأئمة؛ فإنه وإن كان أحد المذاهب راجحا؛
فأهل المذاهب الأخر ليسوا كفارا.
وهذا القول ظاهر البطلان؛ لأنهم لما صدقوا برسالته؛
لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قال: إنه رسول الله إلى الناس
عامة، والرسول لا يكذب، فلزم تصديقه حتما.
وقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى
وقيصر والنجاشي والمقوقس وسائر ملوك الأطراف يدعو إلى الإسلام.
ثم مقاتلته لأهل الكتاب وسبي ذراريهم واستباحة دمائهم
وضرب الجزية عليهم أمر معلوم بالتواتر والضرورة؛ فإنه دعا المشركين إلى
الإيمان به، ودعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وجاهد أهل الكتاب كما
جاهد المشركين؛ فجاهد بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وأهل خيبر-
وكلهم يهود-، وسبى ذراريهم ونساءهم، وغنم أموالهم، وغزا النصارى عام
تبوك بنفسه وبسراياه، حتى قتل في محاربتهم زيد بن حارثة مولاه وجعفر
وغيرهما من أهله، وضرب الجزية على نصارى نجران.
وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده جاهدوا أهل الكتاب،
وقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن يد وهم
صاغرون.
وهذا القرآن الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به
مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى اتباعه وتكفير من لم يتبعه منهم ولعنه
كما جاء بتكفير من لم يتبعه من المشركين وذمه:
فقال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} الآية.
وفي القرآن من قوله: {يا
أهل الكتاب} ، {يا بني
إسرائيل} ما لا يحصى إلا بكلفة.
وقال تعالى: {لَمْ
يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
مُنْفَكِّينَ} الآية، إلى قوله: {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}
.... ومثل هذا في القرآن كثير جدا.
وقد قال تعالى: {قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
وقال تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} .
واستفاض عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (فُضِّلتُ
على الأنبياء بخمس) ذكر منها أنه: (كان
النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) .
بل تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الجن
والإنس.
فإذا علم بالاضطرار وبالنقل المتواتر الذي تواتر كما
تواتر ظهور دعوته أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنه حكم بكفر من
لم يؤمن منهم، وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون، وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه، وأنه ضرب الجزية عليهم وقتل
مقاتلتهم وسبى ذراريهم وغنم أموالهم؛ فحاصر بني قينقاع ثم أجلاهم إلى
أذرعات، وحاصر بني النضير ثم أجلاهم إلى خيبر، وفي ذلك أنزل الله سورة
الحشر، ثم حاصر بني قريظة لما نقضوا العهد وقتل رجالهم وسبى حريمهم
وأخذ أموالهم، وقد ذكره الله تعالى في سورة الأحزاب... وقاتل أهل
خيبر حتى فتحها، وقتل من قتل من رجالهم، وسبى من سبى من حريمهم، وقسم
أرضهم على المؤمنين، وقد ذكره الله تعالى في سورة الفتح، وضرب الجزية
على النصارى، وفيهم أنزل الله سورة آل عمران، وغزا النصارى عام تبوك،
وفيها أنزل الله سورة براءة، وفي عامة السور المدنية مثل البقرة وآل
عمران والنساء والمائدة وغير ذلك من السور المدنية من دعوة أهل الكتاب
وخطابهم ما لا يتسع المقام لنشره...
ثم خلفاؤه من بعده أبو بكر وعمر ومن معهما من
المهاجرين والأنصار الذين يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له وأطوعهم لأمره
وأحفظهم بعهده، وقد غزوا الروم كما غزوا فارس، وقاتلوا أهل الكتاب كما
قاتلوا المجوس؛ فقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أداها منهم عن
يد وهم صاغرون.
ومن الأحاديث الصحيحة عنه قوله صلى الله عليه وسلم:
(والذي نفسي بيده؛ لا يسمع بي من
هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي؛ إلا دخل النار)
. قال سعيد بن جبير: تصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَمَنْ
يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} ،
ومعنى الحديث متواتر عنه معلوم بالاضطرار.
فإذا كان الأمر كذلك؛ لزم أنه صلى الله عليه وسلم رسول
إلى كل الطوائف...
فإنه يقرر بأنه رسول الله إلى أهل الكتاب وغيرهم،
ورسول الله لا يكذب، ولا يقاتل الناس على طاعته بغير أمر الله، ولا
يستحل دماءهم وأموالهم وديارهم بغير إذن الله؛ فمن قال: إن الله أمره
بذلك، ولم يكن الله أمره؛ كان كاذبا مفتريا ظالما، {وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ
إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} ، وكان مع كونه ظالما
مفتريا من أعظم المريدين علوا في الأرض وفسادا، وكان شرا من الملوك
الجبابرة الظالمين، فإن الملوك الجبابرة يقاتلون الناس على طاعتهم، ولا
يقولون: إنا رسل الله إليكم، ومن أطاعنا؛ دخل الجنة، ومن عصانا؛ دخل
النار، بل فرعون وأمثاله لا يدخلون في مثل هذا، ولا يدخل في هذا إلا
نبي صادق أو متنبئ كذاب؛ كمسيلمة والأسود وأمثالهما.
فإذا علم أنه نبي؛ لزم أن يكون ما أخبر به عن الله
حقا، وإذا كان رسول الله؛ وجبت طاعته في كل ما يأمر به؛ كما قال
تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} ، وإذا أخبر أنه
رسول الله إلى أهل الكتاب وأنه تجب عليهم طاعته؛ كان ذلك حقا.
ومن أقر بأنه رسول الله وأنكر أن يكون مرسلا إلى أهل الكتاب؛ فهو بمنزلة من يقول: إن موسى كان رسولا، ولم يكن يجب أن يدخل أرض الشام، ولا يخرج بني إسرائيل من مصر، وأن الله لم يأمره بذلك، وأنه لم يأمره بالسبت، ولا أنزل عليه التوراة، ولا كلمه على الطور. ومن يقول: إن عيسى كان رسول الله، ولم يبعث إلى بني إسرائيل، ولا كان يجب على بني إسرائيل طاعته، وأنه ظلم اليهود... وأمثال ذلك من المقالات التي هي أكفر المقالات... ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}