الأصل الثالث في العقيدة
الإيمان بالكتب
الإيمان بالكتب الإلهية هو أحد أصول الإيمان
وأركانه.
والإيمان بها هو التصديق الجازم بأنها حق وصدق، وأنها
كلام الله عز وجل؛ فيها الهدى والنور والكفاية لمن أنزلت عليهم.
نؤمن بما سمى الله منها، وهي القرآن والتوراة والإنجيل
والزبور، وما لم يسم منها؛ فإن لله كتبا لا يعلمها إلا هو سبحانه.
وإنزال الكتب من رحمة الله بعباده لحاجة البشرية
إليها؛ لأن عقل الإنسان محدود، لا يدرك تفاصيل النفع والضرر، وإن كان
يدرك الفرق بين الضار والنافع إجمالا.
والعقل الإنساني أيضا تغلب عليه الشهوات، وتلعب به
الأغراض والأهواء؛ فلو وكلت البشرية إلى عقولها القاصرة؛ لضلت وتاهت،
فاقتضت حكمة الله ورحمته أن ينزل هذه الكتب على المصطفين من رسله؛
ليبينوا للناس ما تدل عليه هذه الكتب وما تتضمنه من أحكامه العادلة
ووصاياه النافعة وأوامره ونواهيه الكفيلة بإصلاح البشرية.
قال تعالى حين أهبط آدم أبي البشرية من الجنة: {فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ
عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
وقد انقسم الناس حيال الكتب السماوية إلى ثلانة
أقسام:
قسم كذب بها كلها، وهم أعداء الرسل من الكفار
والمشركين والفلاسفة.
وقسم آمن بها كلها، وهم المؤمنون الذين آمنوا بجميع
الرسل وما أنزل إليهم؛ كما قال تعالى: {آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}
.
وقسم آمن ببعض الكتب وكفر ببعضها، وهم اليهود والنصارى
ومن سار على نهجهم، الذين يقولون: {نُؤْمِنُ
بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ
الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} ، بل هؤلاء يؤمنون
ببعض كتابهم ويكفرون ببعضه؛ كما قال تعالى فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ
يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا
اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
ولا شك أن الإيمان ببعض الكتاب أو ببعض الكتب والكفر
بالبعض الآخر كفر بالجميع؛ لأنه لابد من الإيمان بجميع الكتب السماوية
وبجميع الرسل؛ لأن الإيمان لابد أن يكون مؤتلفا جامعا لا تفريق فيه ولا
تبعيض ولا اختلاف، والله تعالى ذم الذين تفرقوا واختلفوا في الكتاب؛
كما قال تعالى: {وَإِنَّ
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
.
وسبب كفر من كفر بالكتب أو كفر ببعضها أو ببعض الكتاب
الواحد هو اتباع الهوى والظنون الكاذبة، وزعمهم أن لهم العقل والرأي
والقياس العقلي، ويسمون أنفسهم بالحكماء والفلاسفة، ويسخرون من الرسل
وأتباعهم، ويصفونهم بالسفه؛ كما قال تعالى: {فَلَمَّا
جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ
مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
وأما أتباع الرسل فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله،
لا يفرقون بينها.
والإيمان بالكتب السابقة إيمان مجمل؛ يكون بالإقرار به
بالقلب واللسان، أما الإيمان بالقرآن؛ فإنه إيمان مفصل؛ يكون بالإقرار
به بالقلب واللسان، واتباع ما جاء فيه، وتحكيمه في كل كبيرة وصغيرة،
والإيمان بأنه كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
وقد اقتضت حكمة الله أن تكون الكتب السابقة لآجال
معينة ولأوقات محددة، ووكل حفظها إلى الذين استحفظوا عليها من البشر؛
كما قال تعالى: {إِنَّا
أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} ، أما القرآن
الكريم؛ فقد أنزله الله لكل الأجيال من الأمم في كل الأوطان إلى يوم
القيامة، وتولى حفظه بنفسه؛ لأن وظيفة هذا الكتاب لا تنتهي إلا بنهاية
حياة البشر على الأرض؛ قال تعالى: {إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
، وقال تعالى: {لَا
يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
ويجب تحكيم هذا القرآن في جميع الخلافات، ويجب رد جميع
النزاعات إليه.
وقد جعل الله التحاكم إلى غير كتابه تحاكما إلى
الطاغوت؛ قال تعالى: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا
إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}
، والطاغوت: فعلوت من الطغيان، وهو مجاوزة الحد.
وقد ذم الله المدعين للإيمان بالكتب كلها وهم يتركون
التحاكم إلى الكتاب والسنة ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما حكم قوم
بغير ما أنزل الله؛ إلا وقع بأسهم بينهم". وهذا من أعظم تغيير
الدول ونشوب الفتن والتناحر بين الشعوب؛ لأن الإيمان بالكتاب يوجب
التحاكم إليه؛ فمن ادعى الإيمان بالكتاب وهو يتحاكم إلى غيره؛ فهو
متناقض في دعواه، والكتاب لا يتجزأ؛ فيجب تطبيقه كله والعمل به كله في
كل المجالات؛ في العقائد والعبادات والمعاملات، وفي الأحوال الشخصية
والجنايات والحدود، وفي الآداب والسلوك.
قال تعالى: {وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ} ، {وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} ، {وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ} .
وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ؛ فنفى الإيمان نفيا
مؤكدا بالقسم عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع،
مع انشراح صدره وانقياده لحكم الله؛ كما وصف من لم يحكم بما أنزل الله
بالكفر والظلم والفسق، وإن ادعى الإيمان والعدالة والعدل.
فتبا لقوم استبدلوا كتاب الله بالقوانين الوضعية الطاغوتية وهم يدعون الإيمان؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم