توبة من النفاق
إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) }
بعد
هذا الوعيد الشديد للمنافقين فتح سبحانه باب التوبة ليدخل فيه كل من
يريد أن يقلع عن ذنوبه من المنافقين وغيرهم ، حتى ينجو من عقابه سبحانه
فقال { إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ واعتصموا بالله
وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فأولئك مَعَ المؤمنين وَسَوْفَ يُؤْتِ
الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً }
أى :
هذا الجزاء الذى بيناه هو جزاء المنافقين . لكن الذين تابوا منهم عن
النفاق ، وأصلحوا ما أفسدوا من أقوالهم وأفعالهم { واعتصموا بالله } أي
تمسكوا بكتابه ، وتركوا موالاة الكافرين { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ
للَّهِ } بحيث لا يريدون بطاعتهم سوى رضاه ومثوبته ، { فأولئك } الذين
فعلوا ذلك { مَعَ المؤمنين } الصادقين الذين لم يصدر منهم نفاق . أي :
معهم في فضيلة الإِيمان الصادق ، وما يترتب على ذلك من أجر جزيل .
وثواب عظيم . { وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً } لا
يقادر قدره.
فقوله
: { إِلاَّ الذين تَابُواْ } استثناء من المنافقين في قوله { إِنَّ
المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } .
اشترط
سبحانه فى إزالة العقاب عن المنافقين أموراً أربعة :
أولها
: التوبة .
وثانيها : إصلاح العمل . فالتوبة عبارة عن ترك القبيح ، وإصلاح العمل
عبارة عن الإِقدام على الحسن .
وثالثها : الاعتصام بالله . وهو أن يكون غرضه من التوبة وإصلاح العمل
طلب مرضاة الله .
ورابعها : الإِخلاص : بأن يكون طلب مرضاة الله خالصا وأن لا يمتزج به
غرض آخر .
والإِشارة في قوله { فأولئك مَعَ المؤمنين } تعود إلى الاسم الموصول
وهو { الذين } باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة .
والمقصود بالمعية في قوله { مَعَ المؤمنين } التشريف والتكريم بصحبة
الأخيار والتعبير " بسوف " لتأكيد وقوع الأمر المبشر به في المستقبل ،
وليس لمجرد التسويف الزماني .
أي :
وسوف يؤت الله المؤمنين ما وعدهم به إيتاء لا شك في حصوله ووقوعه .
ونكر سبحانه الآجر ووصفه بالعظم ، للتنويه بشأنه
فالمنافقين ليس لهم منقذ من عذابه ولا ناصر يدفع عنهم بعض عقابه، وهذا
عام لكل منافق إلا مَنْ مَنَّ الله عليهم بالتوبة من السيئات. {
وَأَصْلَحُوا } له الظواهر والبواطن { وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ }
والتجأوا إليه في جلب منافعهم ودفع المضار عنهم. { وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ } الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان { لِلَّهِ } .
فقصدوا
وجه الله بأعمالهم الظاهرة والباطنة وسلِمُوا من الرياء والنفاق، فمن
اتصف بهذه الصفات { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } أي: في الدنيا،
والبرزخ، ويوم القيامة { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْرًا عَظِيمًا } لا يعلم كنهه إلا الله، مما لا عين رأت، ولا أذن
سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وتأمل
كيف خص الاعتصام والإخلاص بالذكر، مع دخولهما في قوله: { وَأَصْلَحُوا
} لأن الاعتصام والإخلاص من جملة الإصلاح، لشدة الحاجة إليهما خصوصا في
هذا المقام الحرج الذي يمكن من القلوب النفاق، فلا يزيله إلا شدة
الاعتصام بالله، ودوام اللجأ والافتقار إليه في دفعه، وكون الإخلاص
منافيا كل المنافاة للنفاق، فذكرهما لفضلهما وتوقفِ الأعمال الظاهرة
والباطنة عليهما، ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما.
وتأمل
كيف لما ذكر أن هؤلاء مع المؤمنين لم يقل: وسوف يؤتيهم أجرا عظيما، مع
أن السياق فيهم. بل قال: { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْرًا عَظِيمًا } لأن هذه القاعدة الشريفة لم يزل الله يبدئ فيها
ويعيد، إذا كان السياق في بعض الجزئيات، وأراد أن يرتب عليه ثوابًا أو
عقابا وكان ذلك مشتركًا بينه وبين الجنس الداخل فيه، رتب الثواب في
مقابلة الحكم العام الذي تندرج تحته تلك القضية وغيرها، ولئلا يتوهم
اختصاص الحكم بالأمر الجزئي، فهذا من أسرار القرآن البديعة، فالتائب من
المنافقين مع المؤمنين وله ثوابهم.
ثم
أخبر تعالى عن كمال غناه وسعة حلمه ورحمته وإحسانه فقال: { مَا
يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ } والحال أن
الله شاكر عليم. يعطي المتحملين لأجله الأثقال، الدائبين في الأعمال،
جزيل الثواب وواسع الإحسان. ومن ترك شيئًا لله أعطاه الله خيرًا منه.
ومع
هذا يعلم ظاهركم وباطنكم، وأعمالكم وما تصدر عنه من إخلاص وصدق، وضد
ذلك. وهو يريد منكم التوبة والإنابة والرجوع إليه، فإذا أنبتم إليه،
فأي شيء يفعل بعذابكم؟ فإنه لا يتشفى بعذابكم، ولا ينتفع بعقابكم، بل
العاصي لا يضر إلا نفسه، كما أن عمل المطيع لنفسه.
والشكر
هو خضوع القلب واعترافه بنعمة الله، وثناء اللسان على المشكور، وعمل
الجوارح بطاعته وأن لا يستعين بنعمه على معاصيه.
إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
{ الا
الذين تابوا } اي عن النفاق هو استثناء من المنافقين بل من ضميرهم في
الخبر { واصلحوا } ما افسدوا من احوالهم من حال النفاق بإتيان ما حسنه
الشرع من افعال القلوب والجوارح { واعتصموا بالله } اي وثقوا به
وتمسكوا بدينه وتوحيده { واخلصوا دينهم } اي جعلوه خالصا { لله } لا
يبتغون بطاعتهم الا وجهه { فأولئك } الموصوفون بما ذكر من الصفات
الحميدة { مع المؤمنين } اي المؤمنين المعهودين الذين لا يصدر عنهم
نفاق اصلا ولا فهم ايضا مؤمنون اي معهم في الدرجات العالية من الجنة لا
يضرهم النفاق السابق وقد بين ذلك بقوله تعالى { وسوف يؤت الله المؤمنين
اجرا عظيما } لا يقادر قدره فيشاركونهم فيه ويساهمونهم
وسوف
كلمة ترجئة واطماع وهب من الله سبحانه ايجاب لأنه أكرم الاكرمين ووعد
الكريم انجاز
{ الا
الذين تابوا } اي ندموا على ما فعلوا ورجعوا عن تلك المعاملات الرديئة
{ واصلحوا } ما افسدوا من حسن الاستعداد وصفاء الروحانية بترك الشهوات
النفسانية والحظوظ الحيوانية { واعتصموا ب } حبل { الله } استعانة على
العبودية { واخلصوا دينهم لله } في الطلب لا يطلبون منه الا هو ثم قال
من قام بهذه الشرائط { فأولئك مع المؤمنين } يعني في صف ارواحهم
{ وسوف
يؤتي الله المؤمنين } التائبين ويتقرب اليهم على قضية من تقرب الى شبرا
تقربت اليه ذراعا ومن تقرب الى ذراعا تقربت اليه باعا ومن أتأنى يمشى
اتيته اهرول وهذا هو الذى سماه { اجرا عظيما } والله العظيم
واستثنى من هذا الوعيد من آمن من المنافقين ، وأصلح حاله ، واعتصم
بالله دون الاعتزاز بالكافرين ، وأخلص دينه لله ، فلم يشبْه بتردّد ولا
تربّص بانتظار من ينتصر من الفريقين : المؤمنين والكافرين ، فأخبر أنّ
من صارت حاله إلى هذا الخير فهو مع المؤمنين .
وجيء
باسم الإشارة في قوله : { فأولئك مع المؤمنين } لزيادة تمييز هؤلاء
الذين تابوا
وقد
علم الناس ما أعدّ الله للمؤمنين بما تكرّر في القرآن ، ولكن زاده هنا
تأكيداً بقوله : { وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً } . وحرف
التنفيس هنا دلّ على أنّ المراد من الأجر أجر الدنيا وهو النصر وحسن
العاقبة وأجر الآخرة ، إذ الكلّ مستقبل ، وأن ليس المراد منه الثواب
لأنّه حصل من قبل
إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
وأعلم
أن هذه الآية فيها تغليظات عظيمة على المنافقين ، وذلك لأنه تعالى شرط
في إزالة العقاب عنهم أموراً أربعة : أولها : التوبة ، وثانيها : إصلاح
العمل ، فالتوبة عن القبيح ، وإصلاح العمل عبارة عن الإقدام على الحسن
، وثالثها : الاعتصام بالله ، وهو أن يكون غرضه من التوبة وإصلاح العمل
طلب مرضاة الله تعالى لا طلب مصلحة الوقت ، لأنه لو كان مطلوبه جلب
المنافع ودفع المضار لتغير عن التوبة وإصلاح العمل سريعاً ، أما إذا
كان مطلوبه مرضاة الله تعالى وسعادة الآخرة والاعتصام بدين الله بقي
على هذه الطريقة ولم يتغير عنها . ورابعها : الإخلاص ، والسبب فيه أنه
تعالى أمرهم أولاً : بترك القبيح ، وثانياً : بفعل الحسن ، وثالثاً :
أن يكون غرضهم في ذلك الترك والفعل طلب مرضاة الله تعالى ، ورابعاً :
أن يكون ذلك الغرض وهو طلب مرضاة الله تعالى خالصاً وأن لا يمتزج به
غرض آخر ، فإذا حصلت هذه الشرائط الأربعة فعند ذلك قال : {
فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤمنين } ولم يقل فأولئك مؤمنون ، ثم أوقع أجر
المؤمنين في التشريف لإنضمام المنافقين إليهم ، فقال : { وَسَوْفَ
يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً } وهذه القرائن دالة على أن حال
المنافق شديد عند الله تعالى .
{ مَا
يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ
اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) }
فيه
مسائل :
المسألة الأولى : أيعذبكم لأجل التشفي ، أم لطلب النفع ، أم لدفع الضرر
، كل ذلك محال في حقه لأنه تعالى غني لذاته عن الحاجات ، منزّه عن جلب
المنافع ودفع المضار ، وإنما المقصود منه حمل المكلفين على فعل الحسن
والاحتراز عن القبيح ، فإذا أتيتم بالحسن وتركتم القبيح فكيف يليق
بكرمه أن يعذبكم .
هذه
الآية دالة على أنه سبحانه ما خلق خلقاً لأجل التعذيب والعقاب ، فإن
قوله { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ
} صريح في أنه لم يخلق أحداً لغرض التعذيب
إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
{
إِلاَّ الذين تَابُواْ } عن النفاق وهو استثناء من المنافقين ، أو من
ضميرهم في الخبر ، { وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا من نياتهم وأحوالهم في
حال النفاق ، وقيل : ثبتوا على التوبة في المستقبل ، والأول أولى {
واعتصموا بالله } أي تمسكوا بكتابه ، أو وثقوا به { وَأَخْلَصُواْ
دِينَهُمْ للَّهِ } لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه ورضاه سبحانه لا رياء
الناس ، ودفع الضرر كما في النفاق ، وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن
أبي ثمامة قال : قال الحواريون لعيسى عليه السلام : يا روح الله من
المخلص لله؟ قال : الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده الناس عليه {
فَأُوْلَئِكَ }
{
وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً } لا يقادر قدره
فيساهمونهم فيه ويقاسمونهم وفسر أبو حيان الأجر العظيم بالخلود ،
والتعميم أولى ، والمراد بالمؤمنين ههنا ما أريد به فيما قبله ،
واعتبار المساهمة جرى عليه غير واحد ، ولولا تفسير الآية بذلك لم يكن
لها في ذكر أحوال من تاب من النفاق معنى ظاهر . وذهب بعضهم إلى عدم
اعتبارها ، والمراد الإخبار بزيادة ثواب من لم يسبق منه نفاق أصلاً ،
وعمم بعض المؤمنين ليشمل من لم يتقدم منه نفاق ومن تقدم منه وتاب عنه
{ إِلا
الَّذِينَ تَابُوا } مِنَ النفاق وآمنوا { وَأَصْلَحُوا } عملهم {
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ } وثقوا بالله { وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ
لِلَّهِ } أراد الإخلاص بالقلب، لأن النفاق كفر القلب، فَزَوالهُ يكون
بإخلاص القلب، { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } أي ساروا من
المؤمنين، { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ } في الآخرة {
أَجْرًا عَظِيمًا } يعني: الجنّة
وقَبِلَ ندمه إذا أخلص في توبته وأصلح عمله، واعتصم بربه في جميع أمره،
فقال: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ } أي: بَدَّلوا الرياء بالإخلاص،
فينفعهم العمل الصالح وإن قل.
{
فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } أي: في زمرتهم يوم القيامة {
وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا }
ثم قال
مخبرًا عن غناه عما سواه، وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم، فقال: { مَا
يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } أي:
أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله، { وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا
عَلِيمًا } أي: من شكر شكر له ومن آمن قلبه به علمه، وجازاه على ذلك
أوفر الجزاء