توبة لإخفاء الشهادة
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ
الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي
الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (160) }
{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا
فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
}
{ إِلا
الَّذِينَ تَابُوا } أي رجعوا عما هم عليه من الذنوب، ندما وإقلاعا،
وعزما على عدم المعاودة { وَأَصْلَحُوا } ما فسد من أعمالهم، فلا يكفي
ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن.
ولا
يكفي ذلك في الكاتم أيضا، حتى يبين ما كتمه، ويبدي ضد ما أخفى، فهذا
يتوب الله عليه، ومن أتى بسبب التوبة، تاب الله عليه، لأنه {
التَّوَّابُ } أي: الرجاع على عباده بالعفو والصفح، بعد الذنب إذا
تابوا، وبالإحسان والنعم بعد المنع، إذا رجعوا، { الرَّحِيمُ } الذي
اتصف بالرحمة العظيمة، التي وسعت كل شيء ومن رحمته أن وفقهم للتوبة
والإنابة فتابوا وأنابوا، ثم رحمهم بأن قبل ذلك منهم، لطفا وكرما، هذا
حكم التائب من الذنب.
وأما
من كفر واستمر على كفره حتى مات ولم يرجع إلى ربه، ولم ينب إليه، ولم
يتب عن قريب فأولئك { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } لأنه لما صار كفرهم وصفا ثابتا، صارت اللعنة
عليهم وصفا ثابتا لا تزول، لأن الحكم يدور مع علته، وجودا وعدما.
و {
خَالِدِينَ فِيهَا } أي: في اللعنة، وفي العذاب
{ لا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } بل عذابهم دائم شديد مستمر { وَلا
هُمْ يُنْظَرُونَ } أي: يمهلون، لأن وقت الإمهال وهو الدنيا قد مضى،
ولم يبق لهم عذر فيعتذرون
{
إِلاَّ الذين تَابُواْ } أي : رجعوا عن الكتمان وعن سائر ما يجب أن
يتاب عنه ، وندموا على ما صدر عنهم { وَأَصْلَحُواْ } ما أفسده
بالكتمان بكل وسيلة ممكنة { وَبَيَّنُواْ } للناس حقيقة ما كتموه {
فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أي : أقبل توبتهم ، وأفيض عليهم من
رحمتي ومغفرتي ، { وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } أي : المبالغ في
قبول التوبة ونشر الرحمة .
فالآية
الكريمة قد فتحت للكاتمين لما يجب إظهاره باب التوبة وأمرتهم بولوجه ،
وأفهمتهم أنهم إذا فعلوا ما ينبغي وتركوا ما لا ينبغي وأخلصوا لله
نياتهم ، فإنه سبحانه يقبل توبتهم ، ويغسل حويتهم ، أما إذا استمروا في
ضلالهم وكفرهم ، ومضوا في هذا الطريق المظلم حتى النهاية بدون أن
يحدثوا توبة ، فقد بين القرآن مصيرهم بعد ذلك فقال : { إِن الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } أي : إن الذين كفروا وكتموا ما
من شأنه أن يظهر ، كإخفائهم النصوص المشتملة على البشارة بالنبي صلى
الله عليه وسلم واستمورا على هذا الكفر والإِخفاء حتى ماتوا .
{
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } أي
: أولئك الذين وصفوا بما ذكر عليهم اللعنة المستمرة من الله والطرد من
رحمته ، وعليهم كذلك اللعنة الدائمة من الملائكة والناس أجمعين عن طريق
الدعاء عليهم بالإِبعاد من رحمة الله .
وعبر
عن أصحاب ذلك الكتمان بالذين كفروا ، ليحضرهم في الأذهان بأشنع وصف وهو
الكفر ، وليتناول الوعيد الذي اشتملت عليه الآية الكريمة كل كافر ولو
بغير معصية الكتمان .
وجملة
{ وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } حالية ، { أَجْمَعِينَ } تأكيد بالنسبة
إلى الكل لا للناس فقط
إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
اعلم
أنه تعالى لما بين عظيم الوعيد في الذين يكتمون ما أنزل الله كان يجوز
أن يتوهم أن الوعيد يلحقهم على كل حال ، فبين تعالى أنهم إذا تابوا
تغير حكمهم ، ودخلوا في أهل الوعود ، وقد ذكر أن التوبة عبارة عن الندم
على فعل القبيح لا لغرض سواه ، لأن من ترك ليمدح بالثناء عليه لم يكن
تائباً ، وهذا معنى الإخلاص في التوبة ثم بين تعالى أنه لا بد له بعد
التوبة من إصلاح ما أفسده مثلاً لو أفسد على غيره دينه بإيراد شبهة
عليه يلزمه إزالة تلك الشبهة ، ثم بين ثالثاً أنه بعد ذلك يجب عليه فعل
ضد الكتمان ، وهو البيان وهو المراد بقوله : { وَبَيَّنُواْ } فدلت هذه
الآية على أن التوبة لا تحصل إلا بترك كل ما لا ينبغي وبفعل كل ما
ينبغي ، ومعنى : { أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أقبل توبتهم وقبول التوبة
يتضمن إزالة عقاب ما تاب منها فإن قيل : هلا قلتم أن معنى { فأولئك
أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } هو قبول التوبة بمعنى المجازاة والثواب كما
تقولون في قبول الطاعة قلنا : الطاعة إنما أفاد قبولها استحقاق الثواب
، لأنه لا يستحق بها سواه وهو الغرض بفعلها وليس كذلك التوبة لأنها
موضوعة لاسقاط العقاب ، وهو الغرض بفعلها ، وإن كان لا بد من أن يستحق
بها الثواب إذا لم يكن مخطئاً ، ومعنى قوله : { وَأَنَا التواب }
القابل لتوبة كل ذي توبة فهو مبالغة في هذا الباب ، ومعنى الرحيم عقيب
ذلك : التنبيه على أنه لرحمته بالمكلفين من عباده ، يقبل توبتهم بعد
التفريط العظيم منهم .
{
إِلاَّ الذين تَابُواْ } أي رجعوا عن الكتمان أو عنه وعن سائر ما يجب
أن يتاب عنه ، وفيه إشارة إلى أن التوبة عن الكتمان فقط لا يوجب صرف
اللعن عنهم ما لم يتوبوا عن الجميع فإن للعنهم أسباباً جمة {
وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا بالتدارك فيما يتعلق بحقوق الحق والخلق ومن
ذلك أن يصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال وأن يزيلوا
الكلام المحرف ويكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف {
وَبَيَّنُواْ } أي أظهروا ما بينه الله تعالى للناس معاينة وبهذين
الأمرين تتم التوبة ، وقيل : أظهروا ما أحدثوه من التوبة ليمحوا سمة
الكفر عن أنفسهم ويقتدى بهم أضرابهم فإن إظهار التوبة ممن يقتدي به شرط
فيها على ما يشير إليه بعض الآثار ، وفيه أن الصحيح إظهار التوبة إنما
هو لدفع معصية المتابعة وليس شرطاً في التوبة عن أصل المعصية فهو داخل
في قوله تعالى : ( وأصلحوا ) { فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ }
بالقبول وإفاضة المغفرة والرحمة { هُوَ التواب الرحيم } عطف على ما
قبله
{ إِلا
الَّذِينَ تَابُوا } من الكفر { وَأَصْلَحُوا } أسلموا وأصلحوا الأعمال
فيما بينهم وبين ربهم { وَبَيَّنُوا } ما كتموا { فَأُولَئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ } أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم { وَأَنَا التَّوَّابُ } الرجاع
بقلوب عبادي المنصرفة عني إلي { الرَّحِيمُ } بهم بعد إقبالهم علي.
{ إِلا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا } أي: رجعوا عما كانوا فيه
وأصلحوا أعمالهم وأحوالهم وبينوا للناس ما كانوا كتموه { فَأُولَئِكَ
أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وفي هذا دلالة
على أن الداعية إلى كفر، أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه.
وقد
ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل من مثل هؤلاء منهم، ولكن هذا
من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه.
{
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ
أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) }
قوله :
{ إلا الذين تابوا } استثناء من { الذين يكتمون } أي فهم لا تلحقهم
اللعنة
وشُرط
للتوبة أن يصلحوا ما كانوا أفسدوا وهو بإظهار ما كتموه وأن يبينوه
للناس فلا يكفي اعترافهم وحدهم أو في خلواتهم
فالتوبة هنا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه رجوع عن كتمانهم
الشهادة له الواردة في كتبهم وإطلاق التوبة على الإيمان بعد الكفر وارد
كثيراً لأن الإيمان هو توبة الكافر من كفره ، وإنما زاد بعده { وأصلحوا
وبينوا } لأن شرط كل توبة أن يتدارك التائب ما يمكن تداركه مما أضاعه
بفعله الذي تاب عنه
وقوله
: { فأولئك أتوب عليهم }
فقد تم
الكلام وعلم السامع أن من تابوا من الكاتمين لا يلعنهم الله ولا يلعنهم
اللاعنون
وقرنت
الجملة بالفاء للدلالة على شيء زائد على مفاد الاستثناء وهو أن توبتهم
يعقبها رضى الله عنهم .
وفي
«صحيح البحاري» عن ابن مسعود قال رسول الله : " للَّهُ أَفْرَحُ بتوبة
عبده من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع
رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو
ما شاء الله ، قال أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا
راحلته عنده "
فجاء
في الآية نظم بديع تقديره إلاّ الذين تابوا انقطعت عنهم اللعنة فأتوب
عليهم ، أي أرضى
و {
أصلحوا } أي في أعمالهم وأقوالهم ، و { بينوا } قال من فسر الآية على
العموم : معناه بينوا توبتهم بمبرز العمل والبروع فيه ، ومن فسرها على
أنها في كاتمي أمر محمد قال : المعنى بينوا أمر محمد صلى الله عليه
وسلم فتجيء الآية فيمن أسلم من اليهود والنصارى