التوبة من السرقة
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا
كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ
تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ
عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
السارق: هو من أخذ مال غيره المحترم خفية، بغير رضاه. وهو من كبائر
الذنوب الموجبة لترتب العقوبة الشنيعة، وهو قطع اليد اليمنى
وحد
اليد عند الإطلاق من الكوع، فإذا سرق قطعت يده من الكوع، وحسمت في زيت
لتنسد العروق فيقف الدم
فتح
سبحانه لعباده باب التوبة فقال تعالى : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ
ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ } .
أي :
فمن تاب إلى الله تعالى توبة صادقة من بعد ظلمه لنفسه بسبب إيقاعها في
المعاصي التي من أكبرها السرقة وأصلح عمله بالطاعات التي تمحو السيئات
{ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ }
فيغفر
لمن تاب فترك الذنوب، وأصلح الأعمال والعيوب
أي :
يقبل توبته ، ويغسل حوبته ، إن الله واسع المغفرة والرحمة ومن مظاهر
ذلك أنه سبحانه فتح لعباده باب التوبة والإِنابة .
فالآية
الكريمة ترغب العصاة من السراق وغيرهم في التوبة إلى الله ، وفي الرجوع
إلى طاعته حتى ينالوا مغفرته ورحمته .
{
فَمَن تَابَ } من السرّاق إلى الله تعالى { مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } الذي
هو سرقته ، والتصريح بذلك لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته {
وَأَصْلَحَ } أمره بالتقصي عن التبعات بأن يرد مال السرقة إن أمكن . أو
يستحل لنفسه من مالكه أو ينفقه في سبيل الله تعالى إن جهله ،
وقيل :
المعنى وفعل الفعل الصالح الجميل بأن استقام على التوبة كما هو المطلوب
منه { فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ } يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة
، وأما القطع فلا يسقطه التوبة لأن فيه حق المسروق منه ،
ولا
يخفى ما في هذه الجملة من ترغيب العاصي بالتوبة ، وأكد ذلك بقوله
سبحانه : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيه إشارة إلى أن قبول
التوبة تفضل منه تعالى
{ فمن
تاب } من السراق الى الله تعالى { من بعد ظلمه } اي من بعد ان ظلم غيره
بأخذ ماله { واصلح } اي امره بالتفصيل عن تبعات ما باشره والعزم على ان
لا يعود الى السرقة { فان الله يتوب عليه } اي يقبل توبته فلا يعذبه في
الآخرة واما القطع فلا تسقطه التوبة
ولا
تقطع يده اذا رد المال قبل المرافعة الى الحاكم
واما
اذا رفع الى الحاكم ثم تاب فالقطع واجب فان كانت توبته حقيقة كان ذلك
زيادة درجات له كما ان الله تعالى ابتلى الصالحين والانبياء بالبلايا
والمحن والامراض زيادة لهم في درجاتهم وان لم تكن توبته حقيقة كان الحد
عقوبة له على ذنبه وهو مؤاخذ في الآخرة ان لم يتب { ان الله غفور رحيم
} مبالغ في المغفرة والرحمة ولذلك يقبل التوبة
المعنى
عند جمهور أهل العلم أن من { تاب } من السرقة فندم على ما مضى وأقلع في
المستأنف وأصلح برد الظلامة إن أمكنه ذلك وإلا فبإنفاقها في سبيل الله
{ وأصلح } أيضاً في سائر أعماله { فإن الله يتوب عليه } ويذهب عنه حكم
السرقة فيما بينه وبين الله تعالى ، وهو في المشيئة مرجو له الوعد وليس
تسقط عنه التوبة حكم الدنيا من القطع إن اعترف أو شهد عليه
فالتوبة والإصلاح هي أن يقام عليه الحد .
قد جعل
الله للخروج من الذنوب بابين أحدهما الحد والآخر التوبة
وليس
في الآية ما يدلّ على إسقاط عقوبة السرقة عن السارق إن تاب قبل عقابه ،
لأنّ ظاهر ( تاب وتاب الله عليْه ) أنّه فيما بين العبد وبين ربّه في
جزاء الآخرة؛ فقوله : فمن تاب من بعد ظلمه } ترغيب لهؤلاء العصاة في
التّوبة وبشارة لهم . ولا دليل في الآية على إبطال حكم العقوبة في بعض
الأحوال
قال
تعالى: { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ
فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ } أي: من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله، أي يتوب بنية
صالحة صادقة وعزيمة صحيحة خالية عن سائر الأغراض فإن الله يتوب
عليه فيما بينه وبينه
فأما
أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور
أما
إذا قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها.
روى أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي له بسارق قد سرق شملة فقال:
"ما إخَاله سرق"! ( أي ما أظن سرق ) فقال السارق: بلى يا رسول
الله. قال: "اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به".
فقطع فأتي به، فقال: "تب إلى الله". فقال: تبت إلى الله. فقال:
"تاب الله عليك". (1)
وقد
روي آخر مرسلا عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه؛ أن
عَمْرو بن سَمُرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني!
فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا افتقدنا
جملا لنا. فأمر به فقطعت يده. قال ثعلبة: أنا أنظر إليه حين
وقعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك، أردت أن تدخلي
جسدي النار.
وعن
عبد الله بن عمرو قال: سرقت امرأة حُليًّا، فجاء الذين سرقتهم
فقالوا: يا رسول الله، سرقتنا هذه المرأة، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "اقطعوا يدها اليمنى". فقالت المرأة: هل من
توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت اليوم من
خطيئتك كيوم ولدتك أمك"! قال: فأنزل الله عز وجل: { فَمَنْ
تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ
يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقد
رواه الإمام أحمد بأبسط عن عبد الله بن عمرو؛ أن امرأة سرقت
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها الذين سرقتهم
فقالوا: يا رسول الله، إن هذه المرأة سرقتنا! قال قومها: فنحن
نفديها، فقال رسول الله: "اقطعوا يدها" فقالوا: نحن نفديها
بخمسمائة دينار. قال: "اقطعوا يدها". قال: فقطعت يدها اليمنى.
فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: "نعم، أنت
اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك". فأنزل الله في سورة المائدة:
{ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ
اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وهذه
المرأة هي المخزومية التي سرقت، وحديثها ثابت في الصحيحين، عن
عائشة؛ أن قريشا أهمهم شأنُ المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى
الله عليه وسلم، في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يَجْتَرِئ عليه إلا
أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأتي بها
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أسامة بن زيد،
فتلوّن وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتشفع في
حَدٍّ من حدود الله، عز وجل؟" فقال له أسامة: استغفر لي يا
رسول الله.
فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهين