علاج المؤثرات النفسية بالصلاة
الحمد
لله رب العالمين ، وأصلي واسلم على نبينا محمد خاتم النبيين ، وإمام
المتقين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد :
الصلاة : تلك العبادة العظيمة ، التي استهان بها كثير من الناس اليوم حتى
حق عليهم قول الله تعالى:(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا
الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً 59) .
وإنه ليحدث للإنسان العجب الذي لا ينقضي أن تجد بعض الناس يحرصون غاية
الحرص على الصيام ، ولكنهم لا يحرصون على الصلاة ، حتى إنه قيل لي إن بعض
الناس يصوم ولا يصلي .
وإنني أشهد الله أن هذا الذي يصوم ولا يصلي أن صومه باطل غير مقبول منه بما
أعلمه من دلالة الكتاب ، والسنة ، وأقوال الصحابة ، والنظر الصحيح من أن
تارك الصلاة كافراً مخرجاً من الملة ، وإذا كان كافراً كفراً مخرجاً من
الملة ، لم ينفعه صومه ، ولا صدقته ، ولا حجه ، ولا أي عمل صالح ، يقول
الله تبارك وتعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً 23) . ويقول تعالى ( وَمَا مَنَعَهُمْ
أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ
وَبِرَسُولِهِ ) . النفقات التي نفعها متعد ، لا تقبل إذا صدرت من كافر مع
أن نفعها متعد ،فكيف بالعبادات القاصرة كالصوم ؟ فإنه لا يقبل من باب أولى
.هذه الصلاة التي هي أعمال يسيرة ، وذات آثار حميدة لو أننا أحصينا المدة
التي يكون فيها أداء الصلاة بشرائطها وفروضها فكم تكون نسبة وقتها إلى
أوقاتنا ؟
تكون على أقصى تقدير 6.25% من اليوم ، فهذا جزء بسيط في عمل عظيم جليل له
آثار حميدة على الإنسان في حياته ، وفي قبره ، وفي حشرة ، قال النبي صلى
الله عليه وسلم : (( الصلاة نور )) . أي نور على القلب ، وإذا استنار القبل
استنار الوجه وانشرح الصدر ، ولهذا قال الله تعالى : ( وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) .
وإذا حزب الإنسان أمر وضاق عليه فإنه يفزع إلى الصلاة ،وذلك لأن القلب
يستنير بالصلاة ، فيستنير الوجه وينشرح الصدر ، ويجد الإنسان الدنيا أمامه
سعة ولا نهاية لها .
والصلاة نور في القبر ، والقبر ظلمة لا يرى الإنسان شمساً ولا قمراً ن فإذن
كان الإنسان من المصلين كان قبره نوراً ، وكذلك هي نور في الحشر ، قال
تعالى : ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ )
وكانت الصلاة نوراً ، لأن الإنسان يتصل بها بالله – عز وجل – فالإنسان
عندما يقف ليصلي ، فإنه يناجي ربه عز وجل ، وهو على عرشه يسمعه ويجيبه ،
كما قال عز وجل في الحديث القدسي " (( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ،
فإذا قال : الحمد لله رب العالمين ، قال الله حمدني عبدي . فإذا قال :
الرحمن الرحيم ، قال الله عز وجل ، أثني علي عبدي . فإذا قال مالك يوم
الدين ، قال الله : مجدني عبدي . فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين قال
الله : هذا بيني وبين عبدي نصفين . فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم . قال
الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل .
والله إن أثر هذه المناجاة عظيم لا يعدله شيء ، ولكن نشكو إلى الله – عز
وجل – ما نجده في قلوبنا من الغفلة واللهو ، ولا سيما إذا وقفنا بين يديه
في الصلاة لا نجد الوساوس والهواجس التي تعتبر لغواً من التفكيرات ، إلا
إذا دخلنا الصلاة ، لأن الشيطان في تلك الحال يحرص غاية الحرص على أن يصدنا
عن الله – عز وجل - ، وعن الصلة به ، من أجل هذه الصلة كانت الصلاة نوراً
يكتسب بها الإنسان نوراً في قلبه ، ويبدو ذلكم على وجهه ، ثم في قبره وحشرة
.
إقام الصلاة
وهو أن يأتي بها الإنسان مستقيمة على الوجه الذي جاءت به الشريعة ويدخل في
ذلك أمور :
أولاً : الصلاة على وقتها :
وأوقات الصلاة خمسة : أشار إليها الله في القرآن إجمالاً ، وجاءت بها السنة
تفصيلاً فقال تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) ، لدلوك الشمس أي
لزوالها ، (( إلى غسق الليل )) أي إلى نصف الليل ، لأن تمام الغسق – وهو
الظلمة – يكون في وسط الليل ، فهذا الوقت من نصف النهار إلى نصف الليل لا
تخلو لحظة من وقت الصلاة .
وتفصيل ذلك جاءت به السنة ، فوقت الظهر : من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء
مثله ، ووقت العصر : من هذا الوقت إلى اصفرار الشمس اختيارياً ، وإلى
الغروب اضطراراً ، ووقت المغرب : من غروب الشمس إلى مغيب الشفق ، وهو
الحمرة التي تعقب غروب الشمس ، ووقت العشاء : من مغيب الشفق إلى نصف الليل
.
وهذه الأوقات الأربعة المتصل بعضها ببعض قد دل عليها حديث عبد الله بن عمرو
بن العاص الثابت في حديث مسلم ، أما الوقت الخامس فقال الله تعالى :
(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) لكن الله – عز وجل – عبر عن الفجر بقرآنه ، لأن
القراءة تطول في صلاة الفجر .
وبهذا نعرف أن ما بين الليل إلى طلوع الفجر ليس وقتاً لصلاة مفروضة ، فلو
أن امرأة طهرت من الحيض بعد منتصف الليل فلا تلزمها صلاة العشاء ، لأنها
طهرت بعد الوقت ، كما أنها لو طهرت بعد طلوع الشمس لم تلزمها صلاة الفجر ،
لأنها طهرت بعد الوقت . هذه الأوقات الخمسة ، لو صلى الإنسان الصلاة قبل
وقتها بقدر تكبيرة الإحرام ، فلا تصح صلاته ، لأنه ابتدأها قبل دخول الوقت
، ولو أن أحداً أخر الصلاة عن وقتها بلا عذر شرعي ، فلا تصح صلاته ، كما لو
تعمد رجل أن لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس وصلى الفجر ، فإن الصلاة لا
تقبل منه ولا يشرع له قضاؤها ، لأنه لا فائدة له من القضاء ، وعليه التوبة
إلى الله ، عز وجل – فإن ا لتوبة تجب ما قبلها وهذا الكلام مبني على قاعدة
مؤسسة على دليل وهي : (( كل عبادة مؤقتة إذا فعلها الإنسان في غير وقتها
سواء قبله أو بعده فإنها لا تصح ولا تقبل منه )) ، لأن الله أمر بجعلها في
هذا الوقت – ما بين الوقتين أول الوقت وآخره ، فإذا أخرتها عن الوقت أو
قدمتها على الوقت ، فإنك حينئذ لم تكن قد فعلت ما أمرت به ، وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم:(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) . وهذا هو
اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – أن الإنسان إذا تعمد تأخير
الصلاة عن وقتها لم تقبل منه ، وإن صلاها ألف مرة .
بخلاف من أخرها عن وقتها لعذر ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من
نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك )) . ولهذا
لما نام النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح في أحد أسفاره ، فلم
يستيقظ إلا بعد ارتفاع الشمس ، أمر بلال فأذن ثم صليت النافلة ، ثم صليت
الفريضة ، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم جماعة ، لأنه إنما يقضي شيئاً
فائتاً فيقضيه على صفته .
ثانياً الطهارة لها :
ومن إقامة الصلاة أن يقوم الإنسان بما يجب لها من الطهارة ، ويدل لذلك
الكتاب ، والسنة ، والإجماع .
فمن الكتاب قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ
أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً
طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ 6) .
ومن السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يقبل الله صلاة بغير طهور
)) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى
يتوضأ )) .
وقد بين الله تعالى في الآية الكرمية أن الطهارة نوعان : أصل ، وبدل ،
فالأصل طهارة الماء ، والبدل طهارة التيمم ، وبين الله – عز وجل – أن طهارة
الماء تنقسم إلى قسمين : كبرى ، وصغرى ، أما طهارة التيمم فهي على صفة
واحدة في الكبرى والصغرى .
الطهارة الصغرى بالماء تطهير أربعة أعضاء فقط هي :
أولاً : الوجه وحده طولاً من منحنى الجبهة،إلى أسفل اللحية ، وعرضاً من
الأذن إلى الأذن .
ثانياً : اليد وقد حددها الله – عز وجل – فقال : ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ ) و(إلى ) هنا بمعنى ( مع ) مثل قوله تعالى ( وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) أي مع أموالكم ،ولا شك أن المرفق داخل
في الغسل كما بينت ذلك السنة فإن أبا هريرة – رضى الله عنه – توضأً فغسل
يديه حتى أشرع في العضد ، وغسل رجليه حتى أشرع في الساق ، قال رأيت النبي
صلى الله عليه وسلم يفعل هكذا .
وهنا أقف لأنبه على مسألة يفعلها بعض الناس ، إذا جاء يغسل يده لا يغسل إلا
الذراع ، خصوصاً إذا جعلها تحت البزبوز – أي صنبور الماء – تجده يغسل
الذراع ويدع الكف وهذا خطأ عظيم ، لأنه إذا غسل الذراع فقط دون الكف ، فإنه
لا يصدق عليه أنه غسل يده ، لأنه سبحانه وتعالى قال (وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ ) .
ثالثاً : ( وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ ) ، ومسح الرأس يعم جميع الرأس ، ولا
يمسح بعضه إلا إذا كان عليه عمامة ، فإنه يمسح العمامة وما خرج من الرأس ،
وحينئذ يكون مسح على بعض الرأس مع مسح العمامة .
رابعاً : ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) والكعبان هما العظمان
النائتان أسف الساق ، ويدخل الكعبان في الغسل مع الأرجل ، وفي الآية
الكريمة (وَأَرْجُلَكُمْ ) قراءتان الأولى بالكسر (وَأَرْجُلَكُمْ )
والثانية بالنصب (وَأَرْجُلَكُمْ ) وعلى هذه القراءة تكون الأرجل معطوفة
على ( وُجُوهَكُمْ) ولا إشكال .
أما على القراءة الأولى وهي الكسر (وَأَرْجُلَكُمْ ) فإنها تكون معطوفة على
الرأس (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ ) .
كيف يتطهر الجنب ؟
قال الله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) ولم يبين شيئاً
أكثر من قوله (فَاطَّهَّرُوا ) .
إذن فالجنب يغسل جميع جسمه ، ولو كان غير مرتب .
فإن قال قائل : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في اغتساله يبدأ فيتوضأ ،
ثم يحثو على رأيه الماء ثلاثاً ، ثم يغسل بقية بدنه ، أفلا يمكن أن يقال :
إن الآية مجملة والسنة قد فصلت ذلك ، فيحمل المجمل على الفصل .
فيجاب على ذلك : بأنه قد ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران بن الحصين في
قصة نقص الماء عليهم ، حتى وجدوا الماء مع امرأة مشركة ، وجئ به إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ومعه الصحابة ، فاستقوا وسقوا الإبل ، وكان في الصحابة
رجل ، رآه انبي صلى الله عليه وسلم معتزلاً لم يصل مع القوم ، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : (( ما منعك أن تصلي معنا ؟ فقال يا رسول الله :
أصابتني جنابة ولا ماء ، فقال : عليك بالصعيد ، فإنه يكفيك )) ولما جاء
الماء وبقي منه بقية قال صلى الله عليه وسلم للرجل : (( خذ هذا فإفرغه على
نفسك )) .
ولم يقل له أفعل كذا وكذا في اغتسالك ، فدل هذا على أن الجنب لا يلزمه
الترتيب في الغسل .كيف يتيمم مع عدم الماء ؟
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ
أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
فإذا لم يجد الإنسان الماء فإنه يتيمم .
وكيفيته : أن يضرب التراب بيديه ، أو الأرض ، وإن لم يكن تراباً ويمسح وجهه
كاملاً ويديه الكفين فقط ، لأن اليد إذا أطلقت يراد بها الكف فقط ، قال
تعالى ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) .
ومعلوم أن السارق إنما يقطع من مفصل الكف .
ولا يختلف كيفية التيمم سواء بالنسبة للحدث الأصغر أو الأكبر ، ولهذا قال
عز وجل : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) . بعد ذكر الطهارتين الصغرى
والكبرى .
وفي قوله تعالى : (مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) دليل على أن التيمم مطهر وليس
مبيحاً كما ذهب إليه بعض العلماء ، والفرق بين القولين أن الذين قالوا إنه
مبيح يقولون : إنه مقيد بالزمن والنوع ، أي إذا تيمم الإنسان للصلاة وخرج
الوقت بطل التيمم ، وإذا تيمم الإنسان للنافلة ، فلا يصلي الفريضة ، لأن
نوع الفرائض أعلى من نوع النوافل ، ولكن الصحيح أن التيمم مطهر،وعلى هذا
إذا تيممت للنافلة فصل به الفريضة ، وإذا تيممت للصلاة وخرج وقتها ولم يحدث
، فإن التيمم لا يبطل ، لهذا يمكن للإنسان أن يصلي بالتيمم الواحد جميع
الصلوات الخمس إذا لم يحدث .
لكن هذا التطهير مخصوص بما إذا لم يجد الماء فإذا وجد الماء فإنه لابد أن
يستعمله ، فإن كان تيممه عن جنابة ، ثم وجد الماء وجب عليه أن يغتسل ،
والدليل على ذلك حديث عمران بن الحصين الذي ذكرناه آنفاً فإن هذا الرجل قد
تيمم عن الجنابة ، ومع ذلك أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغتسل لما
وجد الماء ، وكذلك أيضاً حديث أبي هريرة : (( الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن
لم يجد الماء عشر سنين،فإذا وجب فليتق الله ولمسه بشرته )) .
فعلى هذا نقول : إذا وجد الماء ،أو برئ من المرض ، وجب عليه إعادة الطهارة
، لو أن مريضاً صار عليه الجنابة ، وقال له الأطباء بأن الغسل يضرك ، فإنه
يتيمم ، فإذا شفاه الله – عز وجل – من المرض ، وجب عليه أن يغتسل ، لأن هذه
الطهارة مؤقتة .
فإذا قدر أن رجلاً لم يجد ماء ولا تراباً ن مثل أن يكون محبوساً ، أو
مأسوراً على سرير وما أشبه ذلك ، فإننا نقول له صلى الله عليه وسلم على حسب
حالك ، لأن الوقت من أهم شروط الصلاة .
وهنا مسألة يجب التنبيه لها ، ولاسيما بالنسبة للمرضى حيث إن كثيراً من
المرضى لا يستطيعون الوضوء ، وليس عندهم تراب ، ولا يستطيعون التيمم ،
وربما على ثيابهم نجاسة ، فنجد الواحد منهم يقول : أصبر حتى يعافيني الله –
عز وجل – وأتوضأ وأغسل ثيابي وما أشبه ذلك .
نقول لهذا : إن تأخير الصلاة حرام عليك ، وما يدريك فلعلك تموت من هذا
المرض قبل أن تصلي ؟ فالواجب أن تصلي على حسب حالك ، ولو كان عليك نجاسة لا
تستطيع إزالتها ، ولو لم يكن عندك ماء تتوضأ به ، ولا يمكن أن تتيمم .
المحافظة على ستر العورة في الصلاة :
الواجب على الإنسان عند الصلاة أن يلبس ثيابه لقوله تعالى (: (يَا بَنِي
آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) .
وذكر ابن عبد البر – رحمه الله – أن العلماء أجمعوا على فساد من صلى
عرياناً وهو قادر على ستر عورته ، وعورة الرجل ما بين السرة والركبة ،
وكذلك الأنثى غير البالغة ، أما المرأة الحرة البالغة فكلها عورة في الصلاة
إلا وجهها ، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد عند أصحابه – إلا إذا كان
حولها رجال أجانب ، فلا يحل لها كشف الوجه ووجب عليها أن تغطيه .
وعورة الصبي من سبع سنين إلى عشر سنين الفرجان فقط ، وتصح إمامته الصبيان
مثله ، وكذلك تصح إمامته لرجال بالغين ، ففي صحيح البخاري أن عمر بن سلمة
الجرمي أم قومه وهو ابن ست،أو ابن سبع سنين ، لأنه كان أقرأهم . وتسمى هذه
العورة بالعورة المخففة .
ويجب أن تستر العورة بثوب طاهر مباح ، لا يصف البشرة ، فإذا كان الثوب
نجساً ، فلا يجوز أن تستر به العورة ، ولو صلى به الإنسان فصلاته باطلة ،
لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ذات يوم وكان عليه الصلاة
والسلام يلبس نعليه في الصلاة ، فجاءه جبريل فأخبره أن في نعليه أذى ،
فخلعهما ، وخلع الصحابة نعالهم ، فلما انصرف من صلاته قال : (( ما شأنكم ))
؟ قالوا : رأيناك خلعت نعالك فخلعنا نعالنا ، فقال : (( إن جبريل أتاني
فأخبرني أن فيها أذى فخلعتها )) .
وهذا يدل على أنه لا يجوز للإنسان إن يلبس شيئاً نجساً ، ولكن لو أن أحداً
صلى بثوب نجس وهو لا يدري أنه نجس ، فصلاته صحيحه ، مثل أن لا يعلم
بالنجاسة إلا بعد أن صلى فصلاته صحيحة ، ودليل ذلك قوله تعالى (رَبَّنَا لا
تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) .
وكذلك الحديث السابق ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستأنف الصلاة .
ولو علم الإنسان بالنجاسة وهو يصلي ، فإن كان يمكن أن يخلعه مع بقاء العورة
مستور فليفعل ، أما إذا كان لا يمكن أن يخلعه إلا بانكشاف العورة ، فيجب
عليه أن ينصرف من صلاته ، وأن يلبس ثوباً آخر .
ومن شروط الساتر أن يكون الثوب مباحاً ، فيحرم على الرجل أن يلبس ثوب حرير
، فإن الحرير محرم على الرجال ، فإذا صلى الإنسان بثوب حرير فإن صلاته لا
تصح ، لأنه غير مأذون في لبسه ، وكذلك لا تصح الصلاة في ثوب مغصوب أو مسروق
، أو ثوب فيه تصاوير .
ومن الشروط أيضاً أن لا يصف البشرة، أي لا يكون خفيفاً بحيث يرى من ورائه
لون الجلد ، وهنا أنبه على مسألة خطيرة يفعلها بعض الناس في أيام الصيف ،
يلبس ثوباً خفيفاً وسروالاً قصيراً إلى نصف الفخذ يرى من ورائه لون الجلد
،فإذا صلى الإنسان على هذا الوجه فصلاته باطلة ، لأنه لم يتم الستر ، ولا
يتم الستر إلا بثوب صفيق .
ثالثاً استقبال القبلة :
ومن إقامة الصلاة استقبال القبلة لقول الله تعالى : ( وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) .
قال أهل العلم : فمن أمكنه مشاهدة الكعبة ، وجب عليه أن يتجه إلى نفس
الكعبة ، ومن لا يمكنه وجب عليه أن يتجه إلى جهتها ، فالبعيد عن الكعبة ولو
كان في مكة فرضه أن يتجه إلى جهة الكعبة ، لأنه لا يمكنه مشاهدتها .
وهنا أنبه على ما نشاهده في المسجد الحرام : نشاهد كثيراً من المصلين في
المصابيح – أي في الجانب المسقوف بل ويصلون أحياناً في الصحن – أي الجانب
المكشوف – فتجدهم يتجهون إلى غير عين الكعبة ، وهذا يقتضي أن تكون صلاتهم
باطلة ، لأنه لابد أن يتجهوا إلى عين الكعبة – أي إلى البناية نفسها . .
وهنا سؤال هل يصح الاتجاه إلى الحجر .
قال العلماء : الحجر ليس كله من الكعبة بل الذي من الكعبة مقدار ستة أذرع
ونصف تقريباً ، الزائد ليس من الكعبة ، فإذا اتجهت إلى طرف الحجر مما يلي
البناية القائمة ، فإن اتجاهك صحيح وسليم .
هذا الحجر يسميه كثير من العوام حجر إسماعيل ، ولكن هذه التسمية خطأ ليس
لها أصل ، فإن إسماعيل لم يعلم عن هذا الحجر ، لأن سبب هذا الحجر أن قريشاً
لما بنت الكعبة ، وكانت في الأول على قواعد إبراهيم ممتدة نحو الشمال ،
فلما جمعت نفقة الكعبة وأرادت البناء ، قصرت النفقة فصارت لا تكفي لبناء
الكعبة على قواعد إبراهيم ، فقالوا نبني ما تحتمله النفقة ، والباقي نجعله
خارجاً ونحجر عليه حتى لا يطوف أحد من دونه ، ومن هنا سمى حجراً ، لأن
قريشاً حجرته حين قصرت بها النفقة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
لعائشة – رضى الله عنها - : لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على
قواعد إبراهيم ، ولجعلت لها بابين ، باب يدخل منه الناس ، وباباً يخرجون
منه )) .
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي وهي على ما كانت عليه ، لها باب مرتفع
من جانب واحد ، ولها هذا الحجر .
والحمد لله الذي كان الأمر على ما كان عليه، لأنه لو بنيت الكعبة على ما
أراده النبي صلى الله عليه وسلم – لولا المانع – لكان في هذا مشقة عظيمة
على الناس ، لاسيما في مثل زماننا هذه ، أزمان الجهل والغشم وعدم المبالاة
بعاد الله ، ولو كانت الكعبة كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم لها بابان
يدخل منه الناس وباب يخرجون منه لتقاتل الناس عند الخروج والدخول .
ولكن ما أراده النبي عليه الصلاة والسلام من كون الكعبة يكون لها بابان
أحدهما للدخول والآخر للخروج ، فإنه قد تحقق في الواقع ، فالحجر الآن له
بابان ، أحدهما للدخول والآخر للخروج ، مع أنه مكشوف واسع ، وهذا من نعمة
الله .
واستقبال القبلة شرط لصحة الصلاة ولكن بشروط :
الأول : أن يكون الإنسان قادراً عليها ، فإن كان عاجزاً لم يجب عليه
استقبال القبلة ، مثل أن يكون مريضاً وليس عنده من يوجهه إلى القبلة ،
فنقول له : اتجه حيثما كان وجهك ؟
الثاني : إذا كان الإنسان خائفاً لو استقبل القبلة ، مثل أن يكون هارباً من
عدون ، أو هارباً من سيل ، أو هارباً من نار ، فحان وقت الصلاة وهو هارب
على وجهه ، ففي هذه الحال نقول : صلى على حسب حالك ، وأتجه حيثما كان وجهك
، والسبب في ذلك أنه يعتبر عاجزاً عن القبلة في هذه الحال .
الثالث : أن يكون في تطوع في سفر ، فإن كان متطوعاً في سفر ، فإنه يصلي حيث
كان وجهه ، ولا يجب عليه استقبال القبلة .
وبناء على ذلك فإن كنت في السيارة وأردت أن تطوع ، فلك أن تصلي حيث كان
وجهك ، ولا حرج عليك سواء كنت راكباً أو سائقاً ، إلا أن السائق يخشى إذا
اشتغل بالصلاة أن يغفل عن واجب الانتباه في القيادة ، ويكون معرضاً نفسه
ومن معه للخطر .
وإذا كان الإنسان في الطائرة ، وحان وقت الفريضة ، فإن أمكن أن يأتي
بالفريضة مستقبلاً القبلة ، يقوم في القيام ، ويركع في الركوع ، ويسجد في
السجود ، فليصل في الطائرة ولا حرج ، أما إذا كان لا يمكنه الاستقبال ، ولا
يمكن القيام ، والركوع ، ولا السجود ، فإنه يصلي الفريضة ، إلا إذا خاف
الوقت ، فإذا لم يخف فوات الوقت ، فلينظر حتى يهبط ويصلي الفريضة على الأرض
.
وأما النافلة ، فله أن يصليها على الطائرة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به .
وإذا كان الإنسان في بلد وهو لا يعرف القبلة فليسأل ، ولا يجتهد كما قال
بعض العلماء ، لأن الاجتهاد إنما يصار إليه عند الحاجة إليه .
وإن صلى الإنسان باجتهاده ثم تبين الخطأ فإن المعروف عند أهل العلم أنه
يعيد ، قالوا : لأن الحضر ليس محلاً للاجتهاد ، بخلاف ما إذا كان في السفر
واجتهد متحرياً القبلة وتبين الخطأ فإنه لا يعيد لقول الله تعالى : (
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) .
رابعاً : الطمأنينة :
ومن إقامة الصلاة أن يأتي بها الإنسان مطمئناً في القيام ، والقعود والركوع
والسجود .
ومعنى الطمأنينة : التأني بحيث يستقر كل فقار في مفصله ، فإن أسرع في
الصلاة على وجه لا طمأنينة فيها ، فإن صلاته باطلة ، ودليل ذلك قول النبي
صلى الله عليه وسلم للرجل الذي صلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه
وسلم وكان الرجل لا يطمئن في صلاته قال له : ((أرجع فصل فإنك لم تصل )) .
فرجع الرجل وصلى ثم رجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، فسلم عليه فقال له
: (( أرجع فصل فإنك لم تصل )) فرجع فصلى ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم
فقال له : (( أرجع فصل فإنك لم تصل )) . فرجع الرجل فصلى ، ثم جاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني
، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( إذا قمت للصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم
استقبل القبلة فكبر ، ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم أركع حتى تطمئن
راكعاً ، ثم ارفع حتى تطمئن قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع
حتى تطمئن جالساً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها
)) .
والشاهد من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول له في كل ركن : ((
حتى تطمئن )) إذن لابد من الطمأنينة .
ونحن نشاهد كثيراً من الناس لا يطمئنون ، ولاسيما في القيام بعد الركوع ،
أو في الجلوس بين السجدتين ، هؤلاء لو صلوا ألف مرة على وجه لا طمأنينة فيه
، فإنه لا صلاة لهم ، ولذلك من حقهم علينا إذا رأيناهم أن نبين لهم ، لأنهم
قد يكونون على جهل ، فنبين لهم الحق .
ثم إن الواجب في حال الصلاة أن يتدبر الإنسان أن الرسول صلى الله عليه وسلم
لم ينف الصلاة في قوله : (( لم تصل )) إلا لأنتقاء واجب فيها ، لأن الشئ لا
يمكن أن ينفى إلا بانتفاء واجب فيه ، فلا ينفى لانتفاء مستحب )) اللهم إلا
بدليل يدل على ذلك .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث : (( أقرأ ما تيسر معك من القرآن
)) ليس معناه أن يقرأ الإنسان آية أو آيتين ، ثم يركع ، لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : (( أقرأ ما تيسر معك من القرآن )) وبين في أحاديث أخرى أنه
لابد من قراءة الفاتحة حيث قال : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن )) .
وفي حديث آخر : (( كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج )) . والخداج
: الشيء الفاسد الذي لا نفع فيه .
ولا تسقط الفاتحة إلا في صورة واحدة فقط ، وهي ما إذا جاء الإنسان إلى
المسجد ووجد الإمام راكعاً ، فإنه في هذه الحال يكبر تكبيرة الإحرام ، ثم
يركع وتسقط عنه الفاتحة في هذه الصورة .ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري
من حديث أبي بكرة – رضى الله عنه - أنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه
وسلم راكع ، فأسرع ثم ركع قبل أن يدخل في الصف ، ثم دخل في الصف ، فلما
أنصرف النبي صلى الله عليه وسلم سأل من الذي فعل ذلك ؟ فقال أبو بكرة:أنا ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (زادك الله حرصاً ولا تعد )) . والشاهد
قوله : ( لا تعد ) ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي الركعة التي
أسرع إليها ليدرك ركوعها ، ولو كان لم يدركها لبين له النبي صلى الله عليه
وسلم ذلك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة .
ولهذا لما صلى الرجل الذي لا يطمئن قال له : (( أرجع فصل فإنك لم تصل )) .
وهذا القول هو مقتضى الحديث من حيث الدلالة كما أنه مقتضى النظر من حيث
القياس ، لأن قراءة الفاتحة إنما تجب في حال القيام،والقيام في هذه الصورة
قد سقط من أجل متابعة الإمام ، فإذا سقط القيام سقط ماوجب فيه ، وهو قراءة
الفاتحة ، وهذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة .
أما إذا كان الإنسان مأموماً فهل يكتفي بقراءة الإمام ؟
الجواب : إن فيه خلافاً بين العلماء فمنهم من قال : إن قراءة الإمام تكفي
عن قراءة المأموم مطلقاً ، في السرية والجهرية ، ومنهم من قال : إنها لا
تكفي عن قراءة المأموم ،لا في السرية ولا في الجهرية ، ومنهم من قال : إنها
تكفي عن قراءة المأموم ، في الجهرية والسرية .
والذي يظهر لي من الأدلة أن قراءة الإمام لا تسقط القراءة عن المأموم لا في
السرية ولا في الجهرية ، وأن الواجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة في الصلاة
السرية والجهرية ، لعموم الأدلة الدالة على ذلك التي ذكرناها آنفاً ، مثل
حديث (( كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج )) وهذا مطلق .
فإن قال قائل : لماذا لا نختار القول الوسط في هذه المسألة ونقول إن الإمام
يتحملها في الصلاة الجهرية لقول الله تعالى : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204 ) . فإذا قرأ
الإمام فأنا مأمور بالإنصات وقراءتي على خلاف هذا الأمر ؟
فالجواب : أن هذا القول يجب المصير إليه ، لولا أن أهل السنن رووا من حديث
عبادة بن الصامت أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة الفجر ،
فلما انصرف قال : (( لعلكم تقرءون خلف إمامكم ؟ قالوا : نعم . قال : (( لا
تفعلوا إلا بأم القرآن ، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها )) .
وهذا الحديث نص في أن الإمام لا يتحمل قراءة الفاتحة عن المأموم في الصلاة
الجهرية ، ومادام الحديث قد دل على ذلك فإن الآية المشار إلها تحمل على غير
قراءة الفاتحة ، وإن الإمام إذا كان يقرأ فإنه لا يجوز للمأموم أن يقرأ سوى
الفاتحة ، كالآيات أو السور التي يقرؤها الإمام أو غيرها .
خامساً : صلاة الجماعة :
ومن إقامة الصلاة إن يصليها الإنسان في جماعة ، فإن الجماعة واجبة على
الرجال في الحضر وفي السفر ، لأن الأدلة الدالى على وجوبها لم تقيد ذلك في
الحضر ، بل إن الله أمر بإقامة الجماعة في حال القتال فقال الله تعالى
لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ ) .
ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قتاله خارج المدينة في سفر ، ولم
يسقط الله سبحانه وتعالى الجماعة عنهم في حال القتال ، فدل هذا على وجوب
الجماعة على المسافر كما تجب على المقيم .
وما نشاهده كثيراً من وجود أناس مسافرين عند المساجد في الأسواق فإذا قلت
له : هيا للصلاة قال لك إنه مسافر . يظن أن الجماعة تسقط عن المسافر ، هذا
خطأ ، بل الواجب أن يصلي المسافر وغير المسافر مع جماعة المسلمين .
حال المأموم مع الإمام
حال المأموم مع إمامه تنقسم إلى أربعة أقسام :
الأول : مسابقة .
الثاني : تخلف .
الثالث . موافقة .
الرابع . متابعة .
القسم الأول : المسابقة :
وهي أن يصل المأموم إلى الركن قبل أن يصل إليه الإمام مثل أن يركع قبل ركوع
الإمام ، أو يسجد قبل سجود الإمام ، أو يرفع من الركوع قبل رفع الإمام ، أو
يرفع من السجود قبل رفع الإمام .
وهذا الذي يسبق الإمام قد عرض نفسه للعقوبة التي حذر منها النبي صلى الله
عليه وسلم وهي : (( أن يحول الله رأسه رأس حمار ، أو يحول صورته صورة حمار
)) . وظاهر الحديث أنه حسا يعني أن يكون رأسه رأس حمار ، أو صورته صورة
حمار .
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بذلك التحويل المعنوي بأن يجعل رأسه رأس
حمار أي رأساً بليداً ، لأن الحمار من أبلد الحيوانات ، ولهذا وصف الله
اليهود الذين حملوا التوارة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً .
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب بأنه
مثل الحمار يحمل أسفاراً .
وعلى كل حال فالحديث دال على أن مسابقة الإمام محرمة بل يوشك أن تكون من
كبائر الذنوب .
ولكن هل تبطل الصلاة بذلك أو لا ؟
الصحيح أنه إذا تعمد السبق فإن صلاته تبطل سواء سبقه بركن أو سبقه إلى
الركن ، فإذا تعمد السبق مع علمه بالنهي فإن صلاته تبطل ، لأنه أتى محظوراً
من محظورات العبادات على وجه يختص بها ، والقاعدة أن من فعل محظوراً من
محظورات العبادة على وجه يختص بها فإنها تبطل .
القسم الثاني : التخلف :
يعني أن يتأخر عن إمامه ، مثل أن يركع الإمام ويبقى المأموم قائماً إلى أن
يقرب الإمام من الرفع من الركوع ، أو يسجد الإمام ويبقى المأموم قائماً إلى
أن يقرب الإمام من الرفع من السجود أو يقوم الإمام من السجود ويبقى المأموم
ساجداً حتى ربما ينتصف الإمام بقراءة الفاتحة أو يكلمها .
وحكم التخلف أنه حرام ، لأنه خلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :
(( إذا ركع فأركعوا ، وإذا سجد فأسجدوا )) . فإن الفاء في قوله (( فأركعوا
)) وقوله : (( فاسجدوا )) تدل على التعقيب ، أي على أن فعل المأموم يقع عقب
فعل الإمام لأن قوله : (( فاركعوا فاسجدوا )) جواب الشرط،وجواب الشرط يلي
المشروط مباشرة ولا يجوز أن يتخلف عنه .
القسم الثالث : الموافق :
بمعنى أن يشرع المأموم مع الإمام في أفعاله يركع معه ، ويسجد معه ويقوم معه
، وهذا أقل أحواله أن يكون مكروهاً ، وتحتمل أن يكون محرماً لقول النبي صلى
الله عليه وسلم : (( لا تركعوا حتى يركع ، ولا تسجدوا حتى يسجد )) . والأصل
في النهي والتحريم ، إلا الموافقة في تكبيرة الإحرام فإن أهل العلم يقولون
إنه إذا وافقه في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته فتكون باطلة ، بل يجب أن
ينتظر حتى يكمل الإمام تكبيرة الإحرام ، ولا يجوز أن يشرع في تكبيرة
الإحرام قبل أن يكمل الإمام تكبيرة الإحرام ، ويستثنى أيضاً التسليم فإن
بعض أهل العلم يقول إذا سلم الإمام التسليمة الأولى وهي التي على اليمين
فللمأموم أن يسلم التسليمة الأولى وإن لم يسلم الإمام التسليمة الثانية ،
ثم يتابع التسليمة الثانية .
القسم الرابع : المتابعة :
بأن يفعل المأموم ما فعله الإمام بعد الأمام مباشرة ، بدون تخلف ، وهذا هو
الموافق للسنة ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي ينبغي أن يكون
عليه المؤمن ، لأن صفة المؤمن إذا أمر الله ورسوله بأمر أن يقول سمعنا
وأطعنا .
كما قال الله تعالى ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا ) . كما قال الله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) .
بيان كيف يأتم مفترض بمتنفل :
هناك مسألة يسأل عنها الناس كثيراً وهي إذا جاء شخص والإمام يصلي صلاة
التراويح ، وهذا الشخص لم يصل صلاة العشاء فهل يدخل مع الإمام بنية صلاة
العشاء أو يصلي وحده ؟
والجواب : على ذلك أن نقول إنه يدخل مع الإمام بنية صلاة العشاء فإذا دخل
معه في أول ركعة وسلم الإمام فإن كان مسافراً سلم معه ، لأن المسافر يصلي
العشاء ركعتين ، وإن كان مقيماً فإنه إذا سلم الإمام وقد صلى معه ركعتين
يقوم فيأتي بما تبقى أي بالركعتين الباقيتين ، وقد نص الإمام أحمد رحمه
الله على هذه المسألة .
فإن قال قائل : كيف يأتم مفترض بمتنفل ؟ الفرض أعلى من النفل .
قلنا : هذا لا يؤثر إنما الذي يؤثر هو الاختلاف على الإمام في الأفعال
كالموافقة ، والتأخر والمسابقة . وأما الاختلاف في النية فلا يؤثر .
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن معاذ بن جبل – رضى الله عنه – أنه كان يصلي
مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم تلك
الصلاة فهي له نافلة ولهم فريضة وهذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وما
فعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأره الله فهو حجة .
ولا يقول قائل من الناس لعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم به ؟
فإننا نجيب على ذلك بأنه على فرض بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم به
فإن الله قد علم به فإذا لم ينكره الله علم أنه موافق لشريعة الله .
ودل على أن إقرار الله للشئ حجة أن الصحابة – رضى الله عنهم – استدلوا على
جواز العزل بأنهم كانوا يفعلونه والقرآن ينزل . ويدل على ذلك أيضاً قوله
تعالى : ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ) . فإن
هؤلاء الذين يبيتون ما لا يرضى من القول يستخفون من الناس ولا يظهرون للناس
ولا يعلم بهم الناس ولما كانوا يخفون المنكر فضحهم الله فقال تعالى (
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ
مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ
بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً 108) .
سادساً : الخشوع في الصلاة :
ومن إقامة الصلاة أن يكون الإنسان فيها خاشعاً لله تعالى بظاهره وباطنه ،
فالخشوع في الباطن حضور القلب ، والخشوع في الظاهر السكون وعدم الحركة .
أقسام الحركة في الصلاة :
وهنا نبين أن الحركة في الصلاة تنقسم إلى خمسة أقسام :
أولاً : الحركة الواجبة : وتجب الحركة إذا كان يتوقف عليها صحة الصلاة ، أي
إذا كان ترك الحركة مبطلاً للصلاة ، فإن الحركة تكون حينئذ واجبة .
مثال : رجل كان يصلي إلى غير القبلة فجاءه آخر فقال : إن القبلة على يمينك
، فهنا يجب أن ينحرف إلى اليمين ، لأنه لو بقي على اتجاهه الأول ، لكانت
صلاته باطلة ، فيجب أن يتجه إلى اليمين .
مثال آخر : رجل ذكر أن في غترته نجاسة فيجب عليه أن يتحرك لخلع الغترة ،
ونظير ذلك ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حين جاءه جبريل فأخبره أن في
نعليه أذى فخلعهما .
ثانياً : الحركة المستحبة : وهي الحركة التي يتوقف عليها فعل مستحب .
مثال : أن يتقدم الإنسان إلى الصف الذي أمامه إذا انفرج فهذه حركة مستحبة ،
لأن فيه وصلاً للصف وسداً للفرج وتقدماً إلى المكان الفاضل .
مثال آخر : كذلك أيضاً لو أن الصف قرب بعضه من بعض فإنك تقرب إلى الصف وهذه
الحركة نعتبرها مستحبة ،لأنه يتوقف عليها فعل مستحب .
ثالثاً : الحركة المكروهة : وهي الحركة اليسيرة بلا حاجة ، هي مكروهة لأنها
عبث مناف للخشوع ، كما نشاهده في كثير من الناس ينظر إلى الساعة وهو يصلي ،
أو يصلح غترته ، أو يذكره الشيطان وهو في صلاته أمراً نسيه فيخرج القلم
ويكتب الذي نسيه لئلا يضيعه بعد ذلك ، وأمثلتها كثيرة .
رابعاً : الحركة المحرمة : وهي الحركة الكثيرة المتوالية لغير ضرورة .
فقولنا ( الحركة الكثيرة ) خرج به الحركة اليسيرة ، فإنها من المكروهات .
وقولنا ( المتوالية ) خرج به الحركة المتفرقة ، فلو تحرك الإنسان في الركعة
الأولى حركة يسيرة ، وفي الثانية حركة يسيره ، وكذلك الثالثة والرابعة لو
جمعنا هذه الحركات لوجدناها كثيرة لكن لتفرقها صارت يسيرة ، فر تأخذ حكم
الحركة الكثيرة .
وقولنا ( لغير ضرورة ) احترازاً من الحركة التي للضرورة ، مثل أن يكون
الإنسان في حالة أهبة للقتال ، يحتاج إلى حركة كثيرة في حمل السلاح وتوجيهه
إلى العدو ، وما أشبه ذلك . وقد قال الله تبارك وتعالى : ( فَإِذَا
سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى
لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ ) وهذا أمر لابد منه للمجاهد في سبيل الله .
ومن ذاك لو أن عدواً لحقه وهو هارب منه ، فإن هذه الحركة الكثيرة مغتفرة ،
لأنها للضرورة .
وكذلك أيضاً لو هاجمته حية وهو يصلي ، وحاول مدافعتها عن نفسه فإن هذه
الحركة وإن كثرت فلا بأس بها ، لأنها ضرورة .
خامساً : الحركة المباحة : وهي الحركة اليسيرة للحاجة أو الحركة الكثيرة
للضرورة .
مثال : لو كانت الأم عندها صبي ويصيح ، فإذا حملته سكت ، فلا خرج عليها
حينئذ أن تحمله حال القيام ، وتضعه في حال السجود ، فهذه الحركة يسيره
ولحاجة فهي مباحة ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل
أمامه بنت زينب فإذا قام حملها ، وإذا سجد وضعها . والله أعلم وصلى الله
وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه