دفع شر الحاسد أو العائن أو غيره عن المتعرض لأذاهم
ندفع شر هؤلاء عن المتعرض لأذاهم بعشرة أسباب
السبب الأول : التعوذ بالله من شره والتحصن به واللجوء إليه
وهو المقصود بقول الله تعالى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَـٰتِ فِى ٱلْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } الفلق
والله تعالى سميع لاستعاذته عليم بما يستعيذ منه ، فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه ، ويعلم كيده وشره
وعلى المستعيذ أن يقبل بقلبه على الدعاء
السبب الثاني : تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه
فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إلى غيره قال تعالى :
{ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا (120) } آل عمران
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس
{ احفظ الله يحفظك , احفظ الله تجده تجاهك }[151]
فمن حفظ الله حفظه الله ووجده أمامه أينما توجه , ومن كان الله حافظه وأمامه فممن يخاف ولمن يحذر
فلا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً فما نصره على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه , فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جنداً وقوة للمبغي عليه المحسود , لأنه ما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي
السبب الرابع : التوكل على الله
فمن يتوكل على الله فهو حسبه , والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم وهو من أقوى الأسباب في ذلك ، فإن الله حسبه أي كافيه ، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش ، وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبداً , وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له , وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه ، وبين الضرر الذي يتشفى به منه ، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجاً من ذلك وكفاه
السبب الخامس : فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه
أن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له فلا يلتفت إليه ، ولا يخافه ولا يملأ قلبه بالفكر فيه , وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره ، فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به , وبقى الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضاً , فإن الحسد كالنار ، فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضاً وهذا باب عظيم النفع لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العالية ، فإنه يرى من أعظم عذاب القلب والروح اشتغاله بعدوه ، وتعلق روحه به ، ولا يرى شيئاً أشد ألماً لروحه من ذلك ، ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة الوادعة اللينة التي رضيت بوكالة الله لها ، وعلمت أن نصره لها خير من انتصارها هي لنفسها فوثقت بالله ، وسكنت إليه ، واطمأنت به وعلمت أن ضمانه حق ووعده صدق وإنه لا أوفى بعهده من الله ، ولا أصدق منه قيلاً فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها ، أو نصر مخلوق مثلها لها
السبب السادس : وهو الإقبال على الله والإخلاص له
وجعل محبته وترضيه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه
قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس أنه قال { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ(83) } ص
قال تعالى { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ (42) } الحجر
وقال { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99)إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ(100) } النحل وقال في حق الصديق يوسف عليه السلام : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ(24) } يوسف فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن , لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصن به ، ولا ضيعة على من آوى إليه ، ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(4)}الجمعة
السبب السابع : تجريد التوبة إلى الله من الذنوب
على العبد التوبة من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه ، فإن الله تعالى يقول { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ(30) } الشورى وقال لخير الخلق وهم أصحاب نبيه دونه صلى الله عليه وسلم :{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (165) }آل عمران فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه ، أو لا يعلمه وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره , وفي الدعاء المشهور :
{ اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم }[152]
فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه فما سلط عليه مؤذٍ إلا بذنب
فليس للعبد إذا بغى عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح ، وعلامة سعادته أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه
السبب الثامن : الصدقة والإحسان ما أمكنه
فإن لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد , فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق , وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد , وكانت له فيه العاقبة الحميدة
فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته عليه من الله جُنة واقية وحصن حصين ، فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سبباً لزوالها , ومن أقوى الأسباب حسد الحاسد والعائن فإنه لا يفتر ولا يني ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود , فحينئذ يبرد أنينه وتنطفي ناره , فما حرس العبد نعمة الله عليه بمثل شكرها ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله وهو كفران النعمة وهو باب إلى كفران المنعم . فالمحسن المتصدق يستخدم جنداً وعسكراً يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه
السبب التاسع : الإحسان إلى الحاسد
وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها ، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله وهو طفي نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه , فكلما ازداد أذى وشراً وبغياً وحسداً ازددت إليه إحساناً ، وله نصيحة وعليه شفقة قال عز وجل { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35) }فصلت { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ(199)وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(200) } الأعراف وقال { أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(54) } القصص وتأمل حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي حكى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ضربه قومه حتى أدموه ، فجعل يسلت الدم عنه ويقول
{ اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون }[153]
كيف جمع في هذه الكلمات من الإحسان , قابل بها إساءتهم العظيمة إليه , أحدها عفوه عنهم والثاني استغفاره لهم والثالث اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون الرابع استعطافه لهم بإضافتهم إليه فقال{اغفر لقومي }
والذي يسهل هذا على النفس ويطيبه إليها وينعمها به , معرفة أن لك ذنوباً بينك وبين الله تخاف عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك, ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله ، فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك , فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله هذه المعاملة , فإن الجزاء من جنس العمل فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقاً , فانتقم بعد ذلك أو اعف وأحسن ، أو اترك فكما تدين تدان , وكما تفعل مع عباده يفعل معك , فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه
السبب العاشر : التوحيد والفكر في مسبب الأسباب
وهو الجامع لذلك كله وعليه مدار هذه الأسباب وهو تجريد التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم القائل { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ (17) } الأنعام
{ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ (107) } يونس وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما { واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك }[154]
فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه , وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله , فإذا أفرد العبد الله بالمخافة أمنه الله من غيره , وخرَّج من قلبه اهتمامه بغيره واشتغاله به وفكره فيه , وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلاً واشتغالاً به عن غيره , والله يتولى حفظه والدفع عنه , فإن الله يدافع عن الذين آمنوا فإن كان مؤمناً فالله يدافع عنه ولا بد وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه , فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع ، وإن مَزج , مُزج له وإن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة كما قال بعض السلف من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة ، ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة ، ومن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة , فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين قال بعض السلف , من خاف الله خافه كل شيء ، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء
فهذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر وليس له أنفع من التوجه إلى الله وإقباله عليه والخوف منه , ومن خاف غير الله ، وكل إليه وخذل من جهته فمن خاف شيئاً غير الله سلط عليه , فعلى العبد ألا يخاف مع الله غيره ، بل يكون خوفه منه وحده ولا يرجو سواه , بل يرجوه وحده فلا يعلق قلبه بغيره ، ولا يستغيث بسواه ، ولا يرجو إلا إياه ، ومتى علق قلبه بغيره ورجاه خذل من جهته وحرم خيره , هذه سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً [155]
[151] الترمذي 2 /309 , صححه الألباني في صحيح الترمذي 2043
[152] صحيح الأدب 551 , البخاري في الأدب المفرد 1/250 , أبو يعلى 1/60 , صححه الألباني في صحيح الجامع 3731
[153] البخاري 3477 , مسلم 12/361
[154] الترمذي 2 /309 , صححه الألباني في صحيح الترمذي 2043
[155] ابن القيم بدائع الفوائد374 /2