الدركة الرابعة من الحسد محبة زوال نعمة الغير باستخدام ما في نفس الحاسد من طاقات يضر بها المحسود
خاص بالدركة الرابعة من الحسد
محبة زوال نعمة الغير باستخدام ما في نفس الحاسد من طاقات يضر بها المحسود
أصحاب هذه الدركة حساد ينطلق من نفوسهم طاقات مشعة مؤثرة عندما يشتد حسدهم ، فتؤثر بضر ما على المحسود ضمن سنن الله الكونية ، وهذا الضر منه ما يسمى بالإصابة بالعين أو الإصابة بالنفس وهي أشد وأخطر دركات الحسد
ولخطورة هذا النوع وملامسة أضراره أفردناه بمبحث خاص
وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود , فنفس حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه , وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه
الحاسد الذي يؤذي المحسود بنفسه
قال الله تعالى : { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(5) } الفلق
أي إذا تحقق الشر منه عند صدور الحسد , ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسداً إلا إذا قام به الحسد ، ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود لاهٍ عنه فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه وإن لم يكن أمامه أو حاضره ، ووجهت إليه سهام الحسد من قبله فيتأذى المحسود بمجرد ذلك فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به ، ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله ، والإقبال عليه ، بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولا بد فقوله تعالى إذا حسد ، بيان لأن شره ، إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل
الحاسد الذي يؤذي المحسود بعينه
قال النبي صلى الله عليه وسلم {العين حق } أي الإصابة بالعين حق [79]
وفي رقية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وفيها { بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك } [80]
تبين فيها الاستعاذة من شر عين الحاسد , ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها إذ لو نظر إليه نظر لاه ساهٍ عنه كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره لم يؤثر فيه شيئاً ، وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة ، واتسمت واحتدت , فصارت نفساً غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة فأثرت في المحسود تأثيراً بحسب صفة ضعفه وقوة نفس الحاسد , فربما أعطاه وأهلكه بمنزلة من فوق سهماً نحو رجل عرياناً فأصاب منه مقتلاً وربما صرعه وأمرضه والتجارب عند الخاصة والعامة بهذا أكثر من أن تذكر [81]
الفرق بين العائن والحاسد ومتى يكون الحاسد عائن والعائن حاسد
ما يفترقان فيه عند إيقاع الضرر منهما
العائن يضر بعينه عند مقابلة المعين ومعاينته
الحاسد يضر بنفسه عند غيبة المحسود وحضوره أيضاً
العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد ، أو حيوان ، أو زرع أو مال ربما أصابت عينه نفسه ، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب
الحاسد قد لا يصيب بعينه من يحسده لكنه يؤثر ويصيب بنفسه من يحسده ولو لم يشاهده كالأعمى إذا وجه نفسه
ما يشتركان فيه عند إيقاع الضرر منهما
العائن ربما تتكيف نفسه بكيفية الحسد فتؤثر في المعين كالعائن الذي استدعته قريش ليعين النبي صلى الله عليه وسلم لكن الله حفظ نبيه
فقد كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة ، ثم يرفع جانب من خبائه فتمر به النعم فيقول : ما رعى اليوم إبل ولا غنم أحسن من هذه ، فما تذهب إلا قريباً حتى يسقط منها طائفة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به مثل ذلك ، فعصم الله تعالى نبيه وأنزلَ قوله تعالى{ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ (51)} القلم
فمن يحدث منه ذلك يكون عائن حاسد
الحاسد قد يؤثر نظره في المنظور ويكون سببه شدة العداوة والحسد كحسد اليهود للمؤمنين ومن حدث منه ذلك يكون حاسد عائن
وبذلك يتضح أنه قد يكون العائن حاسد أو الحاسد عائن وهما الأشد خطورة في إيقاع الضرر لاشتراك نفسيهما في الخباثة
العائن تحدث منه الإصابة لمجرد الإضرار أو العجب أو الحسد
الحاسد تحدث منه الإصابة سواء في غيبة محسوده أوفي حضوره وسواء شاهده أو لم يشاهده وقد يصيب بعينه مع حسده إذا اشتدت معه العداوة
هذه القصة أذكرها , فقد كنت ملامساً لأحداثها , وكنت أعرف المعيون , والعائن أعرفه فقد تضررت من عينه مرة
القصة حدثت في إحدى المدن , والعائن كان من سكان البر , وكان ينزل سوق المدينة ,كل عدة أيام ليأخذ احتياجاته , وكان مشهور بعينه , ومعروف لدى أهل البلد والتجار جميعاً بشدة إيذائه , فكان إذا دخل المحل , أهتم به صاحب المحل , وترك كل المشترين من أجله , وتظهر على الزبائن في المحل علامات القلق , ويناوله التاجر ما اعتاد أن يعطيه له , أو ما يطلبه هو , دون ثمن للبضاعة , فقط مقابل اتقاء شر عينه حتى لا يؤذيه , وذلك كراهة وليس بطيب خاطر , وكل محلات السوق يحدث له فيها هذا , فمحل يعطيه السمن , ومحل يعطيه الزيت ومحل يعطيه السكر وآخر الشاي وآخر اللحم وآخر الدجاج , خوفاً أن يعينهم في بضاعتهم أو في أنفسهم , فكان يجمع كل احتياجاته , ولا يستطيع أحد أن يتأخر في إعطائه , وكان في السوق تاجر له أربع محلات , وكان قد عقد العزم على ألا يعطيه شيء من محلاته , وأمر القائمين على محلاته ألا يعطوه شيء إن أتى إليهم , وحذره أهل السوق من رفضه , خشية غضب العائن , فيبالغ في أذيته , لكنه أصر على رفضه , ولما جاء العائن ليأخذ احتياجاته , وذهب إلى إحدى محلاته , وأراد أن يأخذ منه ما أعتاد أن يأخذه , رفض القائم على المحل أن يعطيه بضاعة قبل أن يدفع ثمنها وأخبره بقول صاحب المحلات , وذهب إلى باقي محلات التاجر , فوجد منهم المثل , فذهب إلى صاحب المحلات وتوعده بالإيذاء , وقامت بينهم مشاحنة وشجار , فتجمع عليهما كل من كان في السوق , ونصح الموجودين التاجر , أن يعطيه ما يريد اتقاءً لشره , ولكن التاجر أصر على موقفه , فما كان من العائن إلا أن زاد في تهديده , وتَوعَد له الإيذاء بعينه , فما كان من التاجر إلا أن تهدده بإيذائه أيضاً بعينه , وكان أيضاً ممن يخشاه الناس , فقال له العائن لن يمر عليك اليوم حتى أصيبك بعيبي , فقال له التاجر مثل مقالته , وأنت أيضاً لن يمر عليك اليوم حتى أصيبك بعيني , وظهرت على كل منهما علامات الغضب الشديد والتحدي , وانتظرت البلدة نتائج هذا التحدي , وفي المساء اجتمع التاجر مع أصدقاؤه في منزله , يتسامرون وهو سعيد أنه استطاع أن يقف أمام هذا العائن , الذي يخشاه كل الناس , وأخذ يحدث أصدقاؤه بما سيفعله في الصباح , عندما يذهب إلى السوق وهو صحيح ,لم تؤثر فيه عين الرجل , وفجأة وهو يعد لأصحابه الشاي على الموقد , انفجر الموقد في وجهه وكان بين يديه , فأصيب بحروق بالغة الشدة في الوجه والجسم , أنتقل على أصرها إلى المستشفي لإسعافه , فأخبره أحد العاملين بالإسعاف , وكان من أهل المدينة من كبار بيوتهم وعلى دراية بهم , بأنهم في الإسعاف كانوا في انتظار مجيئه بإصابة أياً كانت , وقد حدث , فأخبر المصاب أنه لا يمنع هذا العائن شيء بعد ذلك
فهذا عائن ومع ذلك أذى معيونه بنفسه , وهو في مكان بعيد عنه , وفي توقيته الذي حدده , والذي أصيب منه أيضاً كان عائن , لكنه أقل وأضعف منه
ففي هذه القصة العائن مؤذي بما يكيف به نفسه أو عينه في توجيه الضرر للآخرين , والمعيون على شاكلته لكنه أقل تأثيراً منه , لذلك لم يستطيع دفع أذى العائن عن نفسه , لأنه اعتمد على ما في نفسه من كيفيتها الغضبية , والتي تمكن الشياطين من الإلتفاف عليه ,كالعائن , ولو أنه اعتمد على الله في دفع الأذى لكان خيراً له في عقيدته , حتى ولو أذن الله بنفاذ عين العائن , فإن إيمانه الصحيح سيدفعه لرفع الأذى بثقته في الله وأسمائه , وبما جاء في القرآن , كما حدث لأبي عبد الله الساجي وكان من كبار علماء عصره ، فقد كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة ، وكان في الرفقة رجل عائن ، قلما نظر إلى شئ إلا أتلفه ، فقيل لأبي عبد الله أحفظ ناقتك من العائن ، فقال ليس له إلى ناقتي سبيل ، فَأُخْبِر العائن بقوله ، فتحين غيبة أبي عبد الله ، فجاء إلى رحله ، فنظر إلى الناقة ، فاضطربت وسقطت ، فجاء أبو عبد الله ، فأخبر أن العائن قد عانها ، وهي كما ترى ، فقال دلوني عليه ، فدل ، فوقف عليه وقال بسم الله ، حبس حابس ، وحجر يابس ، وشهاب قابس ، رددت عين العائن عليه ، وعلى أحب الناس إليه ، فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ(3)ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ(4) } الملك
فخرجت حدقتا العائن ، وقامت الناقة لا بأس بها [82]
العين 1- هي النظر إلى الشيء على وجه الإعجاب فتصيب المعيون كما حدث من عامر ابن ر بيعة عندما نظر لسهل ابن حنيف فأصابه بصرع
2 - هي النظر إلى الشيء على وجه الإضرار به بتأثير النفس الخبيثة فتصيب المعيون بمجرد نظرة ، وأشبه الأشياء بهذا الأفعى ، فإن السم كامن فيها بالقوة ، فإذا قابلت عدوها ، انبعثت منها قوة غضبية ، وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية ، فمنها ما تشد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر بالنظرة في إسقاط الجنين ، ومنها ما تؤثر في طمس البصر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر ، وذي الطفيتين من الحيات :{ إنهما يلتمسان البصر ، ويسقطان الحبل } [83]
فكم من قتيل! وكم من معافى عاد مضني البدن على فراشه! يتحير فيه
الأطباء الذين لا يعرفون إلا أمراض الطبائع ، فإن هذا المرض من علم الأرواح ، فلا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح ، بل هو أعظم وأوسع وعجائبه أبهر ، وآياته أعجب ، فإن هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح أصبح كالخشبة ، أو القطعة من اللحم ، فالعين هي هذه الروح التي هي من أمر الله تعالى
الحسد هو خلق ذميم ، ومعناه تمني زوال النعمة عن المحسود ، والسعي في إضراره حسب الإمكان وهو داء دفين في النفس وهو الخلق الذي ذم الله به اليهود بقوله تعالى: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ (109) } البقرة
لأنهم يسعون في التشكيك وإيقاع الريب ، وإلقاء الشبهات حتى يحصلوا على ما يريدونه من صد المسلمين عن الإسلام
[79] مسلم 14/395
[80] مسلم 14/393
[81] ابن القيم في بدائع الفوائد
[82] القصة ذكرها ابن القيم الزاد4/174 , المناوي في فتح القدير 4/ 522 وعزاها لابن عساكر
[83] مسلم 14/448