الدركة الثالثة من الحسد محبة زوال نعمة الغير باستخدام القوة في زوالها
هذه الدركة أخس وأحقر وأخبث الدركات وأكثرها لؤماَ وشراً، وهي دركة لا تقف عند حدود تمني القلب ولكنها تزيد عليه باتخاذ الوسائل والأسباب لإزالة النعمة عن صاحبها ، أو طمس مظاهرها بالدسائس والمكايد ، والمجاهرة بالعداوة ، والجحود
فالحاسد يستخدم فيها قدراته المختلفة في التخلص من النعمة بالبغي والعدوان كما فعل اخوة يوسف بيوسف وقد تصل إلى القتل كما فعل قابيل مع أخيه هابيل ونعرض هذه الأخيرة لخطورتها وقصة حسد يوسف سنستشهد بها في موضع أخر
قصة حسد قابيل لأخيه هابيل
هابيل وقابيل من أبناء آدم عليه السلام وكانت حواء تلد لآدم عليه السلام في كل بطن توأمين غلاما وجارية أولهم قابيل وتوأمته أقليما , ثم بارك الله عز وجل في نسل آدم عليه السلام
وكان آدم إذا شب أولاده يزوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى فكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء إلا توأمته التي ولدت معه فكان يفصل بين التوأم وهذه شريعة الله فيهم في ذلك الوقت , لأنه لم يكن يومئذ نساء غير أخواتهم, فلما ولد قابيل وتوأمته أقليما ثم هابيل وتوأمته لبودا وأدركوا أمر الله تعالى لآدم عليه السلام أن ينكح قابيل لبودا أخت هابيل وينكح هابيل أقليما أخت قابيل وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل فذكر ذلك آدم لولده فرضي هابيل وسخط قابيل وقال هي أختي أنا أحق بها فقال له أبوه إنها لا تحل لك فأبى أن يقبل ذلك وقال إن الله لم يأمره بهذا وإنما هو من رأيه فقال لهما آدم عليه السلام فقربا قرباناً فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء بيضاء فأكلتها وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلته الطير والسباع فخرجا ليقربا قربانا وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من طعام من أردأ زرعه وأضمر في نفسه ما أبالي يقبل مني أو لا , لا يتزوج أختي أبداً وكان هابيل صاحب غنم فعمد إلى أحسن كبش في غنمه فقرب به وأضمر في نفسه رضا الله عز وجل فوضعا قربانهما على الجبل ثم دعا آدم عليه السلام فنزلت نار من السماء وأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل فتقبل هابيل ولم يتقبل قابيل فنزلوا على الجبل وقد غضب قابيل لرد قربانه وكان يضمر الحسد في نفسه إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت فلما غاب آدم أتى قابيل هابيل وهو في غنمه قال لأقتلنك لأن الله تعالى قبل قربانك ورد قرباني وتنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة فيتحدث أنك خير مني ويفتخر ولدك على ولدي قال هابيل وما ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين
أراد بذلك الأخ الصالح أن يعلم أخاه معنى الخير ويشعره بفضل المتقين ويبعده عن الغل والحقد والحسد وكان يستبعد جداً أن يكون منه القتل لذا قال له , لأن مددت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين
وكان المقتول لأشد الرجلين ولكن لم يبسط إلى أخيه يده دفاعاً وهذا في الشرع جائز لمن أريد قتله أن ينقاد ويستسلم طلباً للأجر
وأراد أن يحول داء الحسد لدى أخيه لما أعده الله للمتقين في جنات النعيم ويكون قد صرفه عن الجريمة فقال إني أريد أن ترجع بإثم قتلي وإثم معصيتك التي لم يتقبل لأجلها قربانك وإثم حسدك وبالرغم من أن هذا أفضل علاج للحسد وهو السعي لتحويله من الشر للخير , لكن هذا لم ينفع لإصراره على القتل
فلما علم أنه يقتله لا محالة وطن نفسه على الاستسلام طلبا للثواب
وقال ستكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين
فطوعت له نفسه , طاوعته وعاونته في قتل أخيه وشجعته , وزينت له نفسه أن قُتل أخيه سهل عليه فقتله فلما قصد قابيل قتله لم يدر كيف يقتله , فتمثل له إبليس وأخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ثم شدخ رأسه بحجر آخر وقابيل ينظر إليه فعلمه القتل فرضخ قابيل رأس هابيل بين حجرين قيل قتل وهو مستسلم وقيل في النوم فشدخ رأسه فقتله فأصبح من الخاسرين ومثالاً لذوي النفوس الشريرة وهابيل مثالاً لذوي النفوس الخيرة المسالمة , فلما قتله تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم وقصدته السباع فحمله على ظهره ينتقل به من مكان إلى مكان أخر يخشى افتضاح أمره وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمى به فتأكله فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم ألقاه في الحفرة وواراه وقابيل ينظر إليه
فلما رأى قابيل ذلك قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي أي جيفته فأصبح من النادمين , ندم لقلة النفع بقتله فإنه أسخط والديه وما انتفع بقتله شيئا ولم يكن ندمه على القتل وركوب الذنب
لما قتل ابن آدم أخاه وآدم عليه السلام بمكة اشتاك الشجر وتغيرت
الأطعمة وحمضت الفواكه وأمر الماء واغبرت الأرض فقال آدم عليه السلام قد حدث في الأرض حدث فأتى فإذا قابيل قد قتل هابيل
لقد جره الحسد المنهي عنه , إذا صحبه السعي في زوال تلك النعمة عن أخيه حتى ركب مركب الجريمة الكبرى فقتل أخوه وعصى ربه وهذه أشد دركات الحسد [33]
وهذا القصة التي أخبرنا بها الله تعالى بقوله
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ(30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ(31) } المائدة
وجاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن هذا القاتل الأول من ابني آدم { لا تقتل نفس ظلما إلا كان على بن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل}[34]
وهذا من قاعدة الجزاء الرباني في تحمل الإنسان إثم عمله السيئ وإثماً مثل إثم عمل كل عامل تأثر به , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
{ من سن سنة حسنة فإن له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ومثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء}[35]
ولذا يقول صلى الله عليه وسلم
{كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل}[36]
[33] البغوي 2/28 البضاوي 2/215 –219
[34] مسلم 1677 كفل يعني نصيب
[35] مسلم 1017
[36] المسند 5/110المعجم الكبير 2/ 177 , أبو يعلى 13/176 , صححه الألباني في الإرواء 2451