أسباب الحسد
السبب الأول: العداوة والبغضاء ، وهذا أشدّ أسباب الحسد ، فإن من آذاه شخص بسبب من الأسباب وخالفه في غرض بوجه من الوجوه أبغضه قلبه وغضب عليه ورسخ في نفسه الحقد , والحقد يقتضي التشفي والانتقام ، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان ، وربما يحيل ذلك على كرامة نفسه عند الله تعالى فمهما أصابت عدوه بلية فرح بها وظنها مكافأة له من جهة الله على بغضه وأنها لأجله ، ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك لأنه ضد مراده ، وربما يخطر له أنه لا منزلة له عند الله حيث لم ينتقم له من عدوه الذي آذاه بل أنعم عليه , وبالجملة ، فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما
والحسد بسبب البغض ربما يفضي إلى التنازع والتقاتل واستغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل والسعاية وهتك الستر وما يجري مجراه
السبب الثاني: التعزز , وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه غيره , فإذا أصاب بعض أمثاله ولاية أو إدارة أو رئاسة أو علماً أو مالًا خاف أن يتكبر عليه وهو لا يطيق تكبره ولا تسمح نفسه باحتمال تفاخره عليه ، وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره ، فإنه قد رضي بمساواته مثلاً ، ولكن لا يرضى بالترفع عليه
السبب الثالث: الكبر , وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه ويستصغره ويستخدمه ويتوقع منه الانقياد له والمتابعة في أغراضه ، فإذا نال نعمة خاف أن لا يحتمل تكبره ويترفع عن متابعته ، أو ربما يتشوّف إلى مساواته أو إلى أن يرتفع عليه فيعود متكبراً بعد أن كان متكبراً عليه
السبب الرابع: التعجب ، وهو أن يكون من أمثال له قد يكونوا سواسية في المعيشة إلا أن أحدهما ورث مالاً أو أصبح له جاه ؟ أو وظيفة مرموقة فأحب زوال هذه النعمة عنه جزعاً أن يفضل عليه وهو مثله لا عن تكبر وجلب رئاسة أو تقدم عداوة أو سبب آخر بل متعجب أن تميز عنه
السبب الخامس: الخوف من فوات المقاصد ، وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد ، فإن كان كل واحد يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عوناً في الانفراد بمقصوده ، ومن هذا الجنس تحاسد في التزاحم على مقاصد الزوجية في حالة تعدد الزوجات ، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصل به إلى مقاصد الكرامة والمال ، وكذلك تحاسد التلميذين لأستاذ واحد على نيل المرتبة من قلب الأستاذ ، وكذلك تحاسد الموظفين المتزاحمين على مكان واحد إذا كان غرضهما نيل القبول عند مديرهم للتوصل إلى أغراضهم
السبب السادس: حب الرئاسة وطلب الجاه لنفسه من غير توصل إلى مقصود , وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون إذا غلب عليه حب الثناء واستفزه الفرح بما يمدح به من أنه وحيد الدهر وفريد العصر في فنه وأنه لا نظير له ، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم لساءه ذلك وأحب موته أو زوال النعمة عنه التي بها يشاركه المنزلة من شجاعة أو علم أو عبادة أو صناعة أو جمال أو ثروة أو غير ذلك مما يتفرّد هو به ويفرح بسبب تفرّده ، وليس السبب في هذا عداوة ولا تعزز ولا تكبر على المحسود ولا خوف من فوات المقصود سوى محض الرئاسة بدعوى الانفراد
السبب السابع : شح النفس بالخير على عباد الله ، فإنك تجد من لا يشتغل برئاسة ولا تكبر ، ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك ، وإذا وصف اضطراب الناس وإدبارهم فرح به ، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ، ويبخل بنعمة الله على عباده ، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه [49]
فالطباع مجبولة على حب الترفع على الجنس فإذا رأى لغيره ما ليس له أحب أن يزول ذلك عنه ليرتفع عليه مطلقا أو ليساويه , وصاحبه مذموم إذا عمل بمقتضى ذلك من تصميم أو قول أو فعل وينبغي لمن خطر له ذلك أن يكرهه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات واستثنوا من ذلك ما إذا كانت النعمة لكافر أو إنسان يستعين بها على معاصي الله
فهذا حكم الحسد بحسب حقيقته [50]
[49] الأحياء 3/192-196
[50] ابن حجر 200/1