الدركة الثانية من الحسد محبة زوال نعمة الغير وإن لم تنتقل إلى الحاسد
يتمنوا أن تزول نعمة الإيمان من المسلمين ليكونوا مثلهم في الكفر فيخسروا الدنيا والآخرة مثلهم كما بين الله تعالى ذلك :
{ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً (89) } النساء
وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ (109)} البقرة
{ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ا(54)} النساء
فالحسود عدو النعمة متمنٍ زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو
حسدهم جماعي من أمة لأمة كما يكون الحسد من فرد لفرد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
{ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين}[30]
وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
{إنهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين }[31]
واليهود في حسدهم هذا يتمنوا أن تزول نعم الإيمان هذه عن المؤمنين دون أن يتمنوا انتقالها لهم فإنهم يعلمون أن هذا لا يحدث فقد حرمهم الله منها , لكن يريدون أن يفرحوا بزوالها عن المؤمنين كما فعل إمامهم الكبير إبليس مع أبونا آدم
إبليس حسد آدم وسعى في خروجه من الجنة التي حرم منها
إبليس تمنى أن تزول نعمة وجود آدم في الجنة حتى ولو لم تأتيه فإنه يعلم أنها محرمة عليه
هذه قصة إبليس الذي هو من الجن مع آدم الذي هو أول إنسان خلقه الله من هذه السلالة البشرية والتي تبين كيد إبليس لنفسه ، قبل كيده للأبوين آدم وحواء ، ثم عدم اقتصاره على ذلك ، حتى كاد ذرية نفسه ، وذرية آدم فكان مشؤوما على نفسه وعلى ذريته وأوليائه وأهل طاعته من الجن والإنس
أما كيده لنفسه , فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عليه السلام ، كان في امتثال أمره وطاعته , سعادته وفلاحه ، وعزه ونجاته . فسولت له نفسه الجاهلة الظالمة أن في سجوده لآدم عليه السلام غضاضة عليه ، وهضماً لنفسه ، إذ يخضع ويقع ساجداً لمن خُلق من طين ، وهو مخلوق من نار , والنار بزعمه أشرف من الطين , فالمخلوق من النار خير من المخلوق من الطين ، وخضوع الأفضل لمن هو دونه غضاضة عليه وهضم لمنزلته , فلما قام بقلبه هذا الهَوَس ، وقارنه الحسد لآدم ، لما رأى ربه سبحانه قد خصه به من أنواع الكرامة , فإنه خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وميزه بذلك عن الملائكة وأسكنه جنته ، فعند ذلك بلغ الحسد من عدو الله كل مبلغ ، وكان عدو الله يطيف به وهو صلصال كالفخار ، فيتعجب منه ، ويقول : لأمر عظيم قد خلق هذا ، ولئن سلط عليّ لأعصينه ، ولئن سلطت عليه لأهلكنه , فلما تم خلق آدم عليه السلام في أحسن تقويم وأكمل صورة وأجملها ، وكملت محاسنه الباطنة ، بالعلم والحلم والوقار وتولى ربه سبحانه خلقه بيده ، فجاء في أحسن خلق ، وأتم صورة ، طوله في السماء ستون ذراعا ، قد ألبس رداء الجمال والحسن، والمهابة ، والبهاء فرأت الملائكة منظرا لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل ، فوقعوا كلهم سجودا له ، بأمر ربهم تبارك وتعالى , فشق على الحسود ذلك ، واشتعلت في قلبه نيران الحسد المتين ، فعارض النص بالمعقول بزعمه ، كفعل أوليائه من المبطلين . وقال : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(76) } ص فأعرض عن النص الصريح ، وقابله بالرفض الفاسد القبيح . ثم أردف ذلك بالاعتراض على العليم الحكيم فقال : { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا(62) } الأسراء
وتحت هذا الكلام من الاعتراض معنى : أخبرني ، لم كرمته علي ؟ ومعنى هذا الاعتراض : أن الذي فعلته ليس بحكمة ولا صواب ، وأن الحكمة كانت تقتضي أن يسجد هو لي ، لأن المفضول يخضع للفاضل ، فلم خالفت الحكمة ؟
ثم أردف ذلك بتفضيل نفسه عليه ، وإزرائه به ، فقال : أنا خير منه
ثم قرر ذلك بحجته الداحضة في تفضيل مادته وأصله على مادة آدم عليه السلام وأصله . فأنتجت له هذه المقدمات إباءه وامتناعه من السجود ، ومعصيته الرب المعبود . فجمع بين الجهل والظلم ، والكبر والحسد والمعصية ، ومعارضة النص بالرأي والعقل ، فأهان نفسه كل الإهانة من حيث أراد تعظيمها ، ووضعها من حيث أراد رفعتها، وأذلها من حيث أراد عزتها ، وآلمها كل الألم من حيث أراد لذتها . ففعل بنفسه ما لو اجتهد أعظم أعدائه في مضرته لم يبلغ منه ذلك المبلغ . ومن كان هذا غشه لنفسه، فكيف يسمع عنه العاقل ويقبل ، ويواليه ؟
لما ظهرت فضائل آدم عليه السلام على الخلائق بسجود الملائكة له وبتعليمه أسماء كل شيء وإخباره الملائكة بها وهم يستمعون له كاستماع المتعلم من معلمه ، حتى أقروا بالعجز عن علمه وأقروا له بالفضل وأسكن هو وزوجته الجنة ، ظهر الحسد من إبليس وسعى في الأذى لهما فما يزل يخدعهما ، ويعدهما ، ويمنيهما الخلود في الجنة ، حتى حلف لهما بالله جهد يمينه : إنه ناصح لهما ، حتى اطمأنَ إلى قوله ، وأجاباه إلى ما طلب منهما ، فجرى عليهما من المحنة والخروج من الجنة ونزع لباسهما عنهما ما جرى ، وكان ذلك بكيده ومكره الذي جرى به القلم ، وسبق به القدر [32]
[30] ابن ماجة 856 وصحح إسناده في الزوائد , وصححه الألباني في صحيح الترغيب 512
[31] البيهقي 2/358 , صححه الألباني في صحيح الترغيب 512
[32] إغاثة اللهفان 2 / 571