علاج مشلة الفراغ
إِنَّ لاستِغلالِ الوقت طُرُقًا وَأَسَالِيبَ كَثِيرَةً، وَلِضَيَاعِهَا أَسبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَمَن سَلَكَ الطُّرُقَ الصَّحِيحَةَ وَاتَّبَعَ الأَسَالِيبَ المُثلَى وَاستَقبَلَ وَقتَهُ بِالجِدِّ مِن أَوَّلِهِ وَبَكَّرَ وَبَادَرَ أَوشَكَ أَن يَستَفِيدَ وَيَصِلَ إِلى مُرَادِهِ، وَمَن أَخَذَ بِأَسبَابِ الضَّيَاعِ وَسَوَّفَ وَأَجَّلَ وَتَقَاعَسَ وَتَأَخَّرَ فَلَن يَجنيَ إِلاَّ الضَّيَاعَ. فإِنَّ الوَقتَ لا يَتَوَقَّفُ، وَالعُمرَ في ازدِيَادٍ، وَالأَجَلَ يَقرُبُ وَيَدنُو، وَالمَوتُ بِالمِرصَادِ لا يغفلُ، { قُلْ إِنَّ المَوتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عَالِمِ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ}.
السيطرة على وقت الفراغ
سيطرة الفرد الرشيدة على وقت الفراغ وتصريفه في قنواته المناسبة يضمن ارتقاء المرء بطاقاته ، ويكسبه مناعة أمام السموم الفكرية، ويتيح القدرة على سد منافذ الانحراف السلوكي.
ولهذا حرص الإسلام على شغل أوقات الفراغ بعد الواجبات بالعمل النافع المثمر، بحيث لا يجد الإنسان الفراغ الذي يشكو منه، ويحتاج في ملئه إلى تبديد الطاقة أو الانحراف، بل إن الأصل في حياة المسلم أنه لا يوجد فيها وقت فراغ، ذلك أن الوقت والعمر في حياة المسلم ملك لله، والتربية الإسلامية تعوّد الناشئ ليرى كل ساعات الحياة ولحظاتها أمانة في عنقه، يشغلها بالخير، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة صريحة إلى أن نستفيد من ساعات فراغنا قبل أن تمضي فقال: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك))
هذا العمق التربوي من معلم البشرية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في توجيه بليغ يجعل الفراغ موسمًا للاستثمار، وتجارة رابحة يدخر فيها المسلم من الصحة ليوم السقم، ومن الشباب للهرم، ومن الغنى للفقر، إنها دعوة للإفادة من ساعات الفراغ قبل أن تمضي فلا تعود، ليغتنمها المرء قبل حلول مرض مقعِد أو كبر مفنِّد أو بلاء مشغل، ولقد صدَّق فعلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قولَه في الحث على الاستفادة من الوقت، فلم يكن في حياته ثمة فراغ
الحذر من آفَةٌ التسويف لأنها تَأكُلُ الوَقتَ وَتُذهِبُهُ في غَيرِ فَائِدَةٍ
حتى لا يكون المرء ككثير ممن يَعِيشُونَ فَرَاغًا كَبِيرًا، وَيَتَقَلَّبُونَ سَاعَاتٍ طِوَالاً لا يَجِدُونَ فِيهَا مَا يَشغَلُهُم، ولا يدرون أَنَّ هَذَا الفَرَاغَ جُزءٌ مِن أَعمَارِهِم وَحَجَرٌ في بِنَاءِ ثَقَافَتِهِم، إِنْ لم يُستَثمَرْ فِيمَا يَنفَعُهُم وَيَعُودُ عَلَيهِم بِالفَائِدَةِ في دُنيَاهُم وَآخِرَتِهِم فَإِنهم سَيَقضُونَهُ فِيمَا يَضُرُّهُم في دِينِهِم وَأَخلاقِهِم، فعلى المرء أن يدرك المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: ((نِعمَتَانِ مَغبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ))، وَمَعنى كَونِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَغبُونِينَ في هَاتَينِ النِّعمَتَينِ أَنهم لا يُحسِنُونَ استِعمَالَهُمَا فِيمَا يَنبَغِي، وَلا يَشكُرُونَ اللهَ جل وعلا عَلَيهِمَا الشُّكرَ الوَاجِبَ، ذَلِكَ أَنَّ الإِنسَانَ قَد يَكُونُ صَحِيحًا وَلَكِنَّهُ مَشغُولٌ، وَقَد يَكُونُ فَارِغًا لَكِنَّهُ مَرِيضٌ، وَأَمَّا إِذَا اجتَمَعَ لَهُ الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ فَقَد جمع نِعمَتَينِ مِن أَجَلِّ النِّعَمِ التي يَستَعِينُ بها العَبدُ على العَمَلِ لآخِرَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ لِرَبِّهِ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَيهِ الكَسَلُ عَنِ الطَّاعَةِ وَالحَالُ هَذِهِ أَو استَعمَلَ تِلكَ النِّعمَتَينِ في المَعصِيَةِ وَالضَّيَاعِ فَهُوَ المَغبُونُ حَقًّا؛ لأَنَّ الفَرَاغَ يَعقُبُهُ الشُّغلُ، وَالصِّحَّةُ يَعقُبُهَا السَّقَمَ أُوِ الهَرَمُ.
فعلى المرء أن يدرك أن الأَيَّامُ سَائِرَةٌ بِهِ وَإِنْ لم يَسِرْ، مُتَحَرِّكَةٌ وَإِن هُوَ تَوَقَّفَ، وَمِن هُنَا كَانَ لِزَامًا عَلَى المَرءِ أَن يجعَلَ لِكُلِّ يَومٍ عَمَلاً يُنجِزُهُ، وَأَن يُخَصِّصَ لِكُلِّ سَاعَةٍ مُهِمَّةً يَقضِيهَا، وَإِلاَّ ضَاعَت عَلَيهِ الغَنَائِمُ وَالفُرَصُ، وَتَجَرَّعَ الآلامَ وَالغُصَصَ، وَإِنَّهُ مَا آفَةٌ تَأكُلُ الوَقتَ وَتُذهِبُهُ في غَيرِ فَائِدَةٍ مِثلُ آفَةِ التَّسوِيفِ وَالتَّأجِيلِ، حَيثُ يُؤَجِّلُ المَرءُ عَمَلَ اليَومِ إِلى الغَدِ، فَإِذَا جَاءَ الغَدُ اجتَمَعَ عَلَيهِ عَمَلانِ أَو أَكثَرُ، فَإِنْ هُوَ بَدَأَ بِأَحَدِهِمَا فَقَد يَكِلُّ وَيَمَلُّ قَبلَ أَن يَأتيَ دَورُ الآخَرِ، وَإِذَا هُوَ تَحَامَلَ عَلَى نَفسِهِ وَجَمَعَ عَلَيهَا العَمَلَينِ أَرهَقَهَا، فَطَلَبَتِ الرَّاحَةَ في اليَومِ الذِي بَعدَهُ، فَأَضَاعَ عَمَلَ ذَلِكَ اليَومِ، وَمِن هُنَا كَانَ عَلَيهِ تَرتِيبُ وَقتِهِ وَإِشغَالُ نَفسِهِ وَمُصَاحَبَةُ مَن يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَجَنُّبُ الفَارِغِينَ البَطَّالِينَ الذِينَ لا يُؤَدُّونَ وَاجِبًا وَلا يَحفَظُونَ وَقتًا
التوجه لعمل كلما فرغت من عمل
قدوتنا صلى الله عليه وسلم لم يكن في حياته فراغ مستجيباً لأمر لربه: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) } [الشرح: 7، 8]
هذا خطاب لكل مسلم، أي: لا تبق أيها المسلم فارغًا أبدًا، فإذا فرغت من عمل فابدأ في عمل آخر، إذا فرغت من عمل دينك فاشتغل بعمل دنياك، وإذا فرغت من عمل دنياك فاشتغل بعمل دينك، وإذا فرغت من حاجة بدنك فخذ غذاءً لقلبك أو متعة لروحك، وإذا فرغت من شأن نفسك فأقبل على شأن أسرتك، ثم على شأن مجتمعك وأمتك، وهكذا لا فراغ أبدًا إلا استجمام وتأهب للعمل، تقول عائشة رضي الله عنها عن الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم: ولا رُئِيَ قط فارغًا في بيته ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: إني أكره أن أرى الرجل فارغًا لا في عمل دنيا ولا آخرة وروي أيضًا: إني لأبغض الرجل أن آراه فارغًا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة، ورأى شريح القاضي جيرانًا له يجولون فقال: ما لكم؟ فقالوا: فرغنا اليوم، فقال شريح: وبهذا أمر الفارغ
التفقه في موضوع الفراغ يحفز على استغلال الوقت
أن النصوص التي جآت مضمونها أن يغتنم المرء من دنياه لأخراه تشكل دافعًا يحفِّزنا لتوظيف دقائق أعمارنا في عمارة الأرض، أو إنجاز عمل نافع لنا أو لغيرنا من الناس، أو للترويح المشروع عن أنفسنا ومن نعول، ويؤدي إلى تقدمًا في ميدان العلم والتقنية والعمل الخدمي للناس، يقول الشافعي رحمه الله راسمًا لنا قاعدة عظيمة "إذا لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل"، إذا لم تدر النفس في حركة سريعة من مشروعات الخير والبر والتطوع لم تلبث أن تنهبها الأفكار الطائشة وتلفها دوامة الترهات، والأفضل أن يرسم الإنسان لنفسه منهجًا يستغرق وقته ويسد منافذ الشيطان؛ ليجعل من وقت الفراغ فراغًا عاملاً، يعود على جسمه بالصحة، وعلى عضلاته بالقوة، وعلى بدنه بالنشاط والحيوية، وعلى مجتمعه بالنفع والفائدة.
وفي توجيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه علاج للفراغ القلبي والروحي والمبادئ الجادة حيث يقول علي رضي الله عنه: (من أمضى يومًا في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد بناه أو حمد حصله أو خير سمعه أو علم اقتبسه فقد عق يومه)، فعندما يعمل المسلم بهذا الوجيه لا توجد لمشكلة الفراغ بأنواعه في حياته، لأنه لا يمكن أن يوجد فراغ في قلب عامر بذكر الله، ولا في روح متعبِّدة لله.
انتهاز أوقات الإجازات والفراغ لتنمية الملكات
انتهاز أوقات الإجازات والفراغ لتنمية الملكات واستغلال المواهب وتوسيع الأفكار وتثقيف العقل بالجديد من العلوم والمعارف والآداب.
وليَحذَرِ المُسلِمُ وَقَد أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِ بِنِعمَةِ الفَرَاغِ مِن أَن يَملَؤُها بما يُغضِبُ اللهُ، أَو يَقضيهُ فِيمَا يَشغَلُ عَن طَاعَةِ اللهِ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلهِكُم أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} .
دور المعالج الموجه لتعامل مع الفراغ
الفراغ قضية واقعة لا نستطيع إنكارها، إلا أننا نستطيع بالتخطيط السليم التخلص من الملل، وتوجيه الرغبات الكامنة، وإحياء الملكات المخبوءة، والتنمية الشخصية للملكات والإمكانات، وتعزيز العادات الطيبة، و دور المعالج تعليمهم تحمل المسؤولية ضمن برامج هادفة ووسائل متنوعة، تجمع بين التوجيه والإرشاد والترويح والاستجمام، وإذا نهض بهذا الواجب المعالج وغيره من أهل الإصلاح اجتذب الشباب إليه عبر ما يطرحوه من برامج وأنشطة تلبي رغبات وطموح المراجع، حتى لا يكون عرضة للآثار السلبية لفراغه، وإهدار طاقاته الفاعلة
إن خطورة الفراغ يلقي بالمسؤولية والتبعة على المعالج والآباء والمربين، في توظيف أوقات الفراغ، ولوضع برامج تنسجم وتطلعات النهوض في استثمار طاقات الذين يعانون من مشكلة الفراغ وتستوعبهم.
من الوسائل المفيدة لملء الفراغ القراءة الهادفة، حضور المحاضرات والندوات، أداء حقوق الوالدين ومزيد من برهم، صلة الرحم، الاشتراك في الأنشطة الاجتماعية المفيدة، تعلم الحاسوب، الإحسان إلى الضعفاء والمساكين والملهوفين والأيتام، الاجتهاد في طلب العلم، سعي للإصلاح بين الناس، زيارة الحرمين، أداء العمرة، كذا الدروس العلمية والدورات في المساجد نعمة يجب الاستفادة منها واستثمارها، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم بعض مجالات النشاط التطوعي فيقول: ((تبسُّمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة))