الأسباب المعينة على حفظ الوقت من الهدر والضياع
أولاً: محاسبة النفس فيما يتعلق بصرف الوقت
وهي من أعظم الوسائل التي تعين المسلم على اغتنام وقته في طاعة الله.
ثانيًا: تربية النفس على علو الهمة
فمن ربَّى نفسه على التعلق بمعالي الأمور والتباعد عن سفاسفها كان من أحرص الناس على اغتنام وقته، ومن عَلَت همته لم تقنع بالدون، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
ثالثًا: مصاحبة المحافظين على أوقاتهم
فإن صحبة هؤلاء ومخالطتهم والحرص على القرب منهم والتأسي بهم تعين على اغتنام الوقت، وتقوي النفس على استغلال ساعات العمر في طاعة الله.
رابعًا: معرفة حال السلف مع الوقت
فإن معرفة أحوالهم وقراءة سيرهم أكبرُ عون للمسلم على حسن استغلال وقته، فهم خير من أدرك قيمة الوقت وأهمية العمر، وقد ضربوا أروع الأمثلة في اغتنام دقائق العمر واستغلال أنفاسه في طاعة الله
السلف في اغتنامهم الأوقات
لقد عرف السلف الصالح رضوان الله عليهم أهمية حياتهم ووقتهم فاغتنموها خير اغتنام، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (ما ندمت على شيء ندامتي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي)، ويقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: "السَّنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ يوم المعاد، فعند الجذاذ يَتبين حلو الثمار من مرها"، وكتب الأوزاعي إلى أخ له: "أما بعد: فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسلام".
ومن الحرص على استثمار هذا الوقت الثمين وعدم التفريط في لحظة واحدة منه، يقول الحسن البصري: "أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم".
وقال عمر بن عبد العزيز: "الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما"، وقال موسى بن إسماعيل: "لو قلت لكم: إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكا قط صدقتكم، كان مشغولا بنفسه؛ إما أن يُحدِّث، وإما أن يقرأ، وإما أن يسبح، وإما أن يصلي، كان قد قسم النهار على هذه الأعمال"، وقال ابن القيم: "إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها". وأما الإمام ابن عقيل ففي أخباره العجب، حتى كان يقول: "إني لا يحلّ لي أن أُضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة وبَصَري عن مطالَعة أعملت فكري في راحتي وأنا مُنطرِح، فلا أنهض إلا وقد خَطَرَ لي ما أُسطِّره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة".
جمال الدين القاسمي رحمه الله من علماء الشام ،كان يمشي مع بعض رفاقه فمر بمقهى فرأى الناس يلعبون، فأطرق مليا، فسئل عن ذلك؟ فقال: لو أن هؤلاء يبيعونني أوقاتهم لاشتريتها
لذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أشد حرصا على أوقاتهم منا، فبينا ترى منا من لا يعرف كيف يشغل وقته، ويملأ فراغه، فتسمعه يقول لصاحبه: تعال نضيّع الوقت اونقتل الوقت، ترى منهم الحرص على الدقيقة، بل على اللحظة والثانية، وكما تراهم يتواصون بذلك
: فها هو ابن الجوزي رحمه الله يقول لولده: أي بني من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة فانظر إلى مضيع الساعات كم ضيع من نخلات.
وأثر عن بعضهم أنه كان إذا قيل له :قف أكلمك. قال: أمسك الشمس.
وكان بعضم إذا دخل عليه زواره أكرمهم وأحسن ضيافتهم، فإذا طال بقاؤهم قال: ألا تنصرفون. الله الله عباد الله في الأوقات لا تستكثروا أوقاتكم فإن الواجبات أكثر من الأوقات.
قال ابن القيم رحمه الله: "العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كتب له، فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه، ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر، فالكيّس الفطِن هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه، فيهتم بقطعها سالمًا غانما".
قال تعالى: { وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1، 2]، قال ابن عباس: (العصر هو الزمن)، وقال بعضهم: قال رجل لداود الطائي رحمه الله: أوصني، فدمعت عيناه وقال: "يا أخي، إنما الليل والنهار مراحل، ينزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدّم كل يوم زادًا لما بين يديك فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب، والأمر أعجل من ذلك، فتزوّد لنفسك، واقضِ ما أنت قاضٍ، فكأنك بالأمر قد بغتَك، إني لأقول لك هذا وما أعلم أحدًا أشدّ تقصيرًا منى"، ثم قام وتركه.
نصيحة مثلى التي كتبها الحافظ ابن الجوزي رحمه الله إلى ولده في رسالته الصغيرة النفيسة المسماة: (لفتة الكبد في نصيحة الولد) قال رحمه الله: "اعلم ـ يا بُني ـ أن الأيام تبسط ساعات، والساعات تبسط أنفاسًا، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نفَس بغير شيء، فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم، وانظر كل ساعة من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تودعها إلا إلى أشرف ما يمكن، ولا تهمل نفسك، وعوِّدها أشرفَ ما يكون من العمل وأحسنَه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه
ونُقل عن عامر بن عبد قيس أحد التابعين الزهاد: أن رجلا قال له كلمني، فقال له: عامر بن عبد قيس: أمسك الشمس. يعني أوقف لي الشمس واحبسها عن المسير حتى أكلمك، فإن الزمن متحرك دائب المضي.
تقول رابعة: "يا سفيان، إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل"، ويروى عن وَهْب بن منبه رحمه الله أنه قال: "ينبغي للعاقل أن لا يشغل نفسه عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها هو وإخوانه والذين ينصحون له في دينه ويصدقونه عن عيوبه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاته فيما يحل ويحمد، فإن هذه الساعة عون لهذه الساعات، وفضل بلغة واستجمام للقلوب".
لقد كان أسلافنا الأوائل يُسابقون الساعات، ويبادرون اللحظات، ضناً منهم بالوقت، وحرصاً على أن لا يذهب منهم هدراً. ولقد أورث ذلك نتائج أشبه بالمعجزات، وإذا بالإنجازات قريبة من الخيال، فحسبك منها حركة الفتوحات التي كانت على قدم وساق ناهيك عن وثبة بعيدة المدى في التصنيف والتأليف والابتكار هكذا كانت أحوالهم يوم عرفوا قيمة الزمن، وهكذا كانت إنجازاتهم يوم اتسعت مداركهم ونضجت عقولهم.
خامسًا: تنويع ما يُستغل به الوقت
فإن النفس بطبيعتها سريعة الملل وتنفر من التكرير، وتنويع الأعمال يساعد النفس على استغلال أكبر قدر ممكن من الوقت وينشطها إلى ذلك.
سادسًا: إدراك أن ما مضى من الوقت لا يعود ولا يُعوَّض
فكل يوم يمضي وكل ساعة تنقضي وكل لحظة تمر ليس في الإمكان استعادتها، وبالتالي لا يمكن تعويضها.
سابعًا: تنظيم الوقت
فيقدَّم من الأعمال والأقوال الأهمُ فالمهم، بحيث لا يطغى بعضها على بعض، خاصة إذا تعددت مسؤولياته بين حق الله وحق الوالدين وحق الزوجة والأولاد وحق عامة الناس، وفي الحديث: ((إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه)).
ثامناً: تذكُّر الموت وساعة الاحتضار
الموت يأتي بغتة. وليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم ولا مرض معلوم، وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعدا لذلك
لأن الله تعالى قد أخبرنا أن الموتى يطلبون الرجعة إلى الدنيا عند الموت لما رأوا من قيمة الحياة، قال تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ (100) }[المؤمنون:99-100].
قال قتادة: والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة، ولا أن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات، لكنه تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله
فكل مفرّط يندم عند الاحتضار ويسأل التأخير ولو زمنا يسيرا ليستعتب ويستدرك ما فات
ولذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر هادم اللذات
فالمرء وهو في غفلة والأيام عليه تمر، والسنين تنقضي، ورصيده من الحسنات قليل، لأنه ضيّع حياته في اللهو واللعب، وأنفق أوقاته في الغناء والطرب، وقضى شبابه في الملذات والشهوات، عندما يتذكر الموت يفكر في الرجوع إلى الله قبل أن تأتيه سكرات الموت:{ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) }[المنافقون:10-11].
تاسعاً: تذكُّر السؤال عن الوقت يوم القيامة
تذكُّر السؤال عن الوقت يوم القيامة حين يستدبر المرء الدنيا ويستقبل الآخرة ويتمنى لو مُنح مهلة من الزمن ليصلح ما فسد ويتدارك ما فات، ولكن هيهات هيهات، فقد انتهى زمن العمل وحان زمن الحساب والجزاء.
{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر:92، 93] فالفراغ خطير والوقت ثمين، إن لم يُشغل بالنافع المفيد جرَّ إلى المضار الوخيمة
فالمرء عليه أن يعلم أن الناس في هذا العالم سفر، وأول منازلهم المهد، وآخرها اللحد، والوطن هو الجنة أو النار، والعمر مسافة السفر، فسِنُونه مراحله، وشهوره فراسخه، وأيامه أمياله، وأنفاسه خطواته، وطاعته بضاعته، وأوقاته رؤوس أمواله، وشهواته وأغراضه قطّاع طريقه، وربحه الفوز بلقاء الله تعالى في دار السلام مع الملك الكبير والنعيم المقيم، وخسرانه البعد عن الله مع الأنكال والأغلال والعذاب الأليم في دركات الجحيم، فالغافل في نَفس من أنفاسه حتى ينقضي في غير طاعة تقربه إلى الله زلفى، متعرض في يوم التغابن لغبينة وحسرة ما لها منتهى، ولهذا الخطر العظيم والخطب الهائل شمّر الموفَّقون عن ساق الجد، وودّعوا بالكلية ملاذَ النفس، واغتنموا بقايا العمر
فهذه أمور كثيرة، لكي نستفيد ونستثمر وندخر هذا الوقت.
فاغتنم يا عبد الله صحتك فاستعن بها على صيام النهار وقيام الليل والرواح إلى المساجد، والغدو في طلب العلم، قبل أن تبتلى بالمرض فتتمنى أن تصوم فلا تقدر، وأن تصلي قائما فلا تستطيع، وأن تخرج إلى المسجد فلا تحملك رجلاك، وهنالك تندم على أيام كنت فيها قادرا على ذلك كله وتركته. واملأ فراغك بما ينفعك من صالح الأعمال قبل أن تشغل، وهنالك في وسط الشغل تتمنى ساعة تقرأ فيها كتابا، أو تحضر فيها درسا فلا تجد، فتندم على ما ضيعت من ساعات بل سنين