نعمة الفراغ
الفراغ نعمة من النعم العظيمة التي ينعم بها الله عز وجل على عباده، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ))، ونحن في هذه الأيام يتمتع أكثرنا بنعمة الفراغ
من النعم العظيمة التي تحصل للعبد في هذه الحياة نعمة الفراغ، الفراغ بأن يكون العبد فارغًا من مشاغل هذه الحياة، وفي هذا الحديث تذكير لكل مسلم بهذه النعمة، والتي من واجبها عليه اغتنامها واستعمالها بما يعود عليه بالنفع دنيا وأخرى، وإن لم يكن كذلك فإنه في عداد المغبونين.
إن أغلب الناس في خسارة من اغتنام الصحّة والفراغ في الخير لقوله صلى الله عليه وسلم: ((مغبون فيهما كثير من الناس)) أي: أن الذين يوفَّقون لاغتنام نعمة الصحة ونعمة الفراغ قلة، القلة هم الذين يسلمون من الغَبْن، أما الكثرة أكثر الناس مغبون، مغبون لماذا؟ لتفريطهم وعدم مبالاتهم بنعمة الصحة والفراغ
أكثر الخلق يهدرون أوقاتهم، ويحرمون أنفسهم من نعمة استغلال العمر واغتنام الوقت ويفرحون بمرور الأيام وتوالي الأعوام، وهم في غفلة معرضون وفي غمرة ساهون. يقول ابن الجوزي: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل".
الفراغ نعمة يغفل عنها كثير من الناس فلا يؤدون شكرها، ولا يقدرونها حق قدرها ولذلك أرشَدنا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام الحياة قبل الفوات وهو يعظ رجل بقوله ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك))
اعتناء القرآن الكريم بالوقت
عني القرآن الكريم بالوقت من نواحٍ شتى وبصور عديدة، فقد أقسم الله بالوقت مثل: الليل والنهار والفجر والضحى والعصر في سور عديدة فقال جل وعلا: {والعصر }وقال سبحانه: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)}وقال جل شأنه: { وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) }وقال: { وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) }وأهل العلم يقولون إن القسم بالشيء يدل على تعظيم المقسم به فوقتك هو حياتك ووقتك هو نهارك وليلك وإمساؤك وإصباحك وإظهارك: { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) }
ومعلوم أن الله إذا أقسم بشيء من خلقه دلَّ ذلك على أهمية المقسم به، وليلفت الأنظار إليه وينبه على جليل منفَعته
اعتناء السنة المطهرة بالوقت
توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لاغتنام الوقت جاء في مواضع كثيرة مثل
وصيته صلى الله عليه وسلم للرجل أن يغتنم حياته قبل موته، فالحياة نعمة عظيمة وكل يوم من أيامها نعمة
حثنا صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ أحدنا من النوم أن يقول: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)) وذلك أن هذا اليوم يمكن المذنب فيه أن يتوب، ويمكن المحسن أن يزيد من إحسانه
تبينه صلى الله عليه وسلم بقوله ((خيركم من طال عمره وحسن عمله)) فإن طول العمر مع العمل الحسن يبلغ العبد الدرجات العلى والنعيم المقيم وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الفرّق بين رجلين، قتل أحدهما، ومات الآخر بعده بجمعة أو نحوها، وقد صلى الصحابة عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما قلتم؟)) فقالوا: دعونا له، وقلنا: اللهم اغفر له وألحقه بصاحبه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((فأين صلاته بعد صلاته؟ وعمله بعد عمله؟ كان بينهما كما بين السماء والأرض)) فبين صلى الله عليه وسلم كيف سبق الأخ الذي مات على فراشه أخاه الشهيد وارتفعت درجته فوق درجته بسبب جمعة متعه الله بها فكيف لو عاش بعده سنة أو أكثر
توضيحه صلى الله عليه وسلم بأن الوقت البسيط مع اغتنامه يزاد نعيم عظيم ويتبين هذا فيما جاءت به السنة لتؤكد على أهمية الوقت وقيمة الزمن، وتبين أن الإنسان مسئول عنه يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ و عن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟))
الفراغ كنز بين يدي أهله
الكيس من الناس يعلم أن هذا الزمن هو موضع الخير والشر، ومستودع السعادة والشقاوة، وهو عز الإنسان أو ذله، فيه أحياء وأموات، وسعداء وأشقياء، ويعلم أن الخيبة لمن حرقه بالمعاصي والموبقات وجعل نهاره في اللهو، وسهره في الترف، وسعيه إلى معصية الله ويعلم أن الفراغ كنز بين يدي أهله لا يراه إلا المشغولون فشغله بما يجد أثره ونمائه في جنات النعيم عند رب العالمين عملاً بتوجيه رسول الهدى " الْكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسه وَعَمِلَ لِمَا بَعْد الْمَوْت ، وَالْأَحْمَق مَنْ أَتْبَع نَفْسه هَوَاهَا "
الفراغ مَكْنَزُ الأعمال لدى الأخيار، وأحزمُ الناس وأَكْيَسُهم من اقْتَطَفَ أيامَه ولياليَه في جَلْبِ المصالح والخُيُور، ودَرْء المفاسد والشرور عن نفسه ومجتمعه وأمته فاغتنام الأوقات بالصالحات في الخيرات والطاعات وإنماء المجتمعات
المخدوع بنعمة فراغه
الغبن المقصود في قول النبي صلى الله عليه وسلم :((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) هو الخداع
فأصل الغبن في البيع والشراء: الوكس، يقال: غبنه، يغبنه، إذا خدعه.
أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين أن المخدوع حقيقة ذو الصحة والفراغ، الذي لم يستفد من صحته وفراغه، فكأنما كان معه جوهرة نفيسة لها قيمة فباعها ببعرة لا قيمة لها.
كثير من الشباب من ينشأ في بيت أهله وهم أهل نعمة يكفونه العيش فيضيع شبابه في الطيش والتفحيط فيضيع هذه النعمة بالغفلة
قال ابن بطال: معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغا حتى يكون مكتفيا صحيح البدن، فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن، بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه، فمن فرط في ذلك فهو المغبون
كثير من الشباب من كفاه والداه مؤن العيش فوجه هذه الكفاية لتعاطي المخدرات وضيع هذه المؤن وصحة شبابه في المنكرات ولم يجتنب ما نهاه الله عنه
قال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم.
كثير من الشباب من ضيع وقته في المخدرات والمنكرات فضيع ما انعم به الله عليه من مال كان يعيشه هو وأولاده من بعده دون أن يحتاجوا وحصد من وراء ذلك أمراض الكبدي والإيدز ثم يحسد غيره من الشباب الذين لم يتوفر لهم شئ من النعم التي توفرت له لكنهم استغلوا الوقت القليل من بعد قضاء الأوقات في تحصيل معايشهم في حفظ كتاب الله وتعلم شرعه فرضوا الله بما يرضيه من تنفيذ أوامره واسخط المدمن ربه عليه بما غبن صحته وفراغه
قال الطيبي: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للمكلف مثلا بالتاجر الذي له رأس مال، فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله، ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان ومجاهدة النفس وعدو الدين، ليربح خيري الدنيا والآخرة. وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح، وذلك أعظم الخسران
الناس الكثيرون منهم يجلس للقنوات والمواقع المخلة دينياً وخلقياً يضيع بها وقته ولا يغض بصره عن الخليعة تاركاً لنفسه العنان في كل منكر يقبل عليه طوعاً لنفسه الأمارة وشيطانه في تزين كل ما هو سوء وباطل
الإمام البخاري أخرج هذا الحديث في صحيحه في أول كتاب الرقائق، ثم أتبعه بحديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة))
قال ابن المنير: مناسبة إيراد حديث ابن عباس الذي تضمنته الترجمة: أن الناس قد غبن كثير منهم في الصحة والفراغ لإيثارهم لعيش الدنيا على عيش الآخرة، فأراد الإشارة إلى أن العيش الذي اشتغلوا به ليس بشيء، بل العيش الذي شغلوا عنه هو المطلوب، ومن فاته فهو المغبون
فراغ الوقت من الخير مملوء بالشر
الفراغ لا يبقى فراغًا أبدًا، فلا بد أن يُملأ بخير أو شر، ومن لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل، فطوبى لمن ملأه بالخير والصلاح