توحيد الربوبية
فأما توحيد الربوبية؛ فإنه الإقرار بأن الله وحده هو
الخالق للعالم، وهو المدبر، المحيي، المميت، وهو الرزاق، ذو القوة
المتين.
والإقرار بهذا النوع مركوز في الفطر، لا يكاد ينازع
فيه أحد من الأمم:
كما قال تعالى: {وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} .
وقال تعالى: {وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ
خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} .
وقال تعالى: {قُلْ
مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} .
وهذا في القرآن كثير؛ يذكر الله عن المشركين أنهم
يعترفون لله بالربوبية والانفراد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة.
ولم ينكر توحيد الربويية ويجحد الرب إلا شواذ من
المجموعة البشربة، تظاهروا بإنكار الرب مع اعترافهم به في باطن أنفسهم
وقرارة قلوبهم، وإنكارهم له إنما هو من باب المكابرة؛ كما ذكر الله عن
فرعون أنه قال: {مَا
عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، وقد خاطبه موسى
عليه السلام بقوله: {لَقَدْ
عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} ، وقال تعالى: {وَجَحَدُوا
بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}
.
وهم لم يستندوا في جحودهم إلى حجة، وإنما ذلك مكابرة
منهم؛ كما قال تعالى: {
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا
وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ
إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} فهم لم
ينكروا عن علم دلهم على إنكاره ولا سمع ولا عقل ولا فطرة.
ولما كان هذا الكون وما يجري فيه من الحوادث شاهدا على
وحدانية الله وربوبيته؛ إذ المخلوق لا بد له من خالق، والحوادث لا بد
لها من محدث؛ كما قال تعالى: {أَمْ
خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ، وقال الشاعر:
وفـي كـل شـيء له آيـة **
تــدل عـلى أنه واحــد
لما كان لا بد من جواب على هذه الحقيقة، اضطرب هؤلاء
المنكرون لوجود الخالق في أجوبتهم: فتارة يقولون: هذا العالم وجد
نتيجه للطبيعة، التي هي عبارة عن ذات الأشياء من النبات والحيوان
والجمادات؛ فهذه الكائنات عندهم هي الطبيعة، وهي التي أوجدت
نفسها!! أو يقولون: هي عبارة عن صفات الأشياء وخصائصها من حرارة
وبرودة ورطوبة ويبوسة وملاسة وخشونة، وهذه القابليات من حركة وسكون
ونمو وتزاوج وتوالد؛ هذه الصفات وهذه القابليات هي الطبيعة بزعمهم، وهي
التي أوجدت الأشياء!!
وهذا قول باطل على كلا الاعتبارين؛ لأن الطبيعة
بالاعتبار الأول على حد قولهم تكون خالقة ومخلوقة؛ فالأرض خلقت الأرض،
والسماء خلقت السماء... وهكذا! وهذا مستحيل! وإذا كان صدور
الخلق عن الطبيعة بهذا الاعتبار مستحيلا؛ فاستحالته بالاعتبار الثاني
أشد استحالة؛ لأنه إذا عجزت ذات الشيء عن خلقه؛ فعجز صفته من باب أولى؛
لأن وجود الصفة مرتبط بالموصوف الذي تقوم به، فكيف تخلقه وهي مفتقرة
إليه؟! وإذ ثبت بالبرهان حدوث الموصوف؛ لزم حدوث الصفة. وأيضا؛
قالطبيعة لا شعور لها؛ فهي آلة محضة؛ فكيف تصدر عنها الأفعال العظيمة
التي هي في غاية الإبداع والإتقان، وفي نهاية الحكمة، وفي غاية
الارتباط.
ومن هؤلاء الملاحدة من يقول: إن هذه الكائنات تنشأ
عن طريق المصادفة بمعنى أن تجميع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة
يؤدي إلى ظهور الحياة بلا تدبير من خالق مدبر ولا حكمة!! وهذا قول
باطل ترده العقول والفطر؛ فإنك إذا نظرت إلى هذا الكون المنظم بأفلاكه
وأرضه وسمائه وسير المخلوقات فيه بهذه الدقة والتنظيم العجيب؛ تبين لك
أنه لا يمكن أن يصدر إلا عن خالق حكيم
قال ابن
القيم: "فسل المعطل الجاحد: ماذا تقول في دولاب دائر على نهر،
وقد أحكمت آلاته، وأحكم تركيبه، وقدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه، بحيث
لا يرى الناظر فيه خللا في مادته ولا في صورته، وقد جعل على حديقة
عظيمة، فيها من كل أنواع الثمار والزروع، يسقيها حاجتها، وفي تلك
الحديقة من يلم شعثها، ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها،
فلا يختل منها شيء، ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على أحسن المخارج بحسب
حاجاتهم وضروراتهم، فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به، ويقسمه هكذا على
الدوام، أترى هذا اتفاقا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر، بل اتفق وجود
ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقا من غير فاعل ولا قيم ولا
مدبر؟! أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان؟! وما الذي يفتيك
به؟! وما الذي يرشدك إليه؟! ولكن من حكمة العزيز الحكيم أن خلق
قلوبا عميا لا بصائر لها فلا ترى هذه الآيات الباهرة إلا رؤية
الحيوانات البهيمية كما خلق أعينا لا أبصار لها". انتهى كلامه رحمه
الله.