أجناس الذكر
والدعاء سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟ ولهذا جاء في الحديث: "مَنْ شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". ولهذا كان مستحبا في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته كما جاء في حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد عجل هذا"، ثم دعاه فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم، فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء ". وهكذا دعا ذو النون الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" وفي الترمذي: دعوة أخي ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له". وهكذا عامة الأدعية النبوية، ومنه
قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب: "لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم". ومنه حديث بريدة الأسلمي، رواه أهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو وهو يقول: اللهم أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فقال: "والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى". وروى أنس أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يصلي ثم دعا: اللهم أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي: "لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى" فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه هذا الثناء والذكر، وأنه اسم الله الأعظم، فكان ذكر الله والثناء عليه أنجح ما سأل به حوائجه، فهذا من فوائد الذكر، وهو أنه يجعل الدعاء مستجابا فلهذا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)) فالدعاء الذي يتقدمه الذكر والثناء أقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته وافتقاره واعترافه، كان أبلغ في الإجابة وأفضل. فإنه يكون قد توسل إلى المدعو بصفات كماله وإحسانه وفضله، وعرض، بل صرح، بشدة حالته وضرورته وفقره ومسكنته، فهذا المقتضى منه وأوصاف المسؤول مقتضى منه، فاجتمع المقتضى من السائل والمقتضى من المسؤول في الدعاء، فكان أبلغ وألطف موقعا وأتم معرفة وعبودية، وأنت ترى في الشاهد ولله المثل الأعلى أن الرجل إذا توسل إلى من يريد معروفه بكرمه وجوده وبره، وذكر حاجته هو وفقره ومسكنته، كان أعطف لقلب المسؤول وأقرب إلى قضاء حاجته من أن يقول له ابتداء أعطني كذا وكذا، فإذا عرف هذا فتأمل قول موسى، عليه السلام: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)) وقول ذي النون في دعائه: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) وقول أبينا آدم: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) وفي الصحيحين أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه؛ قال يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" فجمع في هذا الدعاء الشريف العظيم القدر بين الاعتراف بحاله، والتوسل إلى ربه بفضله وجوده، وأنه المتفرد بغفران الذنوب ثم سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معا فهكذا آداب الدعاء والعبودية.
وقراءة القرآن أفضل الأذكار وهي أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، وهذا من حيث النظر إلى كل واحد منهما مجردا، وقد تعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل تعينه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه أفضل من قراءة القرآن، وكذلك التشهد، وكذلك رب اغفر لي بين السجدتين، وقول رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني بين السجدتين أفضل من القراءة. وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة، ذكر التهليل والتسبيح والتكبير والتحميد أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة. وكذلك إجابة المؤذن، والقول كما يقول، أفضل من القراءة، وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله على خلقه، لكن لكل مقام مقال، متى فات مقاله فيه وعدل عنه إلى غيره، واختلت الحكمة، وفقدت المصلحة المطلوبة منه، وهكذا الأذكار المفيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن، مثاله أن يحدث له من التفكر في ذنوبه فيحصل له توبة واستغفار أو يحصل له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن، فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه، وكذلك أيضا قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءة القرآن، لم يحضر قلبه فيها. وإذا أقبل على الذكر والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله، وأحدث له تضرعا وخشوعا وابتهالا، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع له، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأكثر أجرا، وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نص وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فيعطي كل ذي حق حقه ويضع كل شيء موضعه، فللعين موضع، وللرجل موضع، وللماء موضع، وللحم موضع، وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي، والله الموفق.
وهكذا الصابون أنفع للثوب الجديد في وقت، والتحمير وماء الورد أنفع له في وقت. وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، يوما: سئل بعض أهل العلم: أيما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيا فالبخور وماء الورد نافع له، وإن كاد دنسا فالصابون والماء الجاري أنفع له فقال: كيف والثياب لا تزال دنسة؟.
ومن هذا الباب أن سورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)) تعدل ثلث القرآن، ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث والطلاق والخلع والعدد ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها، وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص. ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه، فكانت أفضل من كل القراءة والذكر والدعاء بمفرده بجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء فهذا أصل نافع جدا للعبد يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وينزلها منازلها لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها فيرنح عليه إبليس الفضل الذي بينهما أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل عن مفضولها، وإن كان ذلك وقته فتفوته مصلحته بالكلية لظنه أن اشتغاله به أكثر ثوابا وأعظم أجرا"