ذكر الله أكثر من ذكركم أبائكم
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }
يأمرُ تعالى بذكره والإكثار منه بعد تأدية عبادة الحج والفراغ منها { كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } يعني: كما يَلْهَج الصبي بذكر أبيه وأمه، فكذلك أنتم، فالهجوا بذكر الله بعد قضاء لحج بل عليكم أن تجعلوا ذكركم لله تعالى أشد وأكثر من ذكركم لمآثر آبائكم
ذكر الله كثيراً معلق عليه فلاح العبد في الدنيا والأخرة
فالله تعالى بين أن العبد الذي يذكر الله كثيرا يجد الفلاح على العموم فلاح الدنيا والآخرة والخسران المبين للمعرض عنه
{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
اذكروا الله ذكرا كثيرا في مجامع أحوالكم ولا تخصوا ذكره بالصلاة بل اذكروه ذكراً كثيراً في حال بيعكم وشرائكم، وأخذكم وعَطَائكم، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة
لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا، حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا ولا ينساه أبدا
والذكر الكثير يكون بالشكر لله على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيويّ
واذكروه بما يقرّبكم إليه من الأذكار ، كالحمد ، والتسبيح ، والتكبير ، والاستغفار ، ونحو ذلك
ويكون الذكر باللسان والقلب وبالطاعة
وأن تكون هممكم في جميع أحوالكم وأوقاتكم موكلة به لا تنفضون عنه لتكونوا { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله }
وفي الأمر بالإكثار من ذكر الله تحذير لكم من الانتشار في الأرض لمصالحكم الدنيوية ، دون أن تعطوا طاعة الله تعالى وعبادته ، ما تستحقه من عناية ومواظبة
وفي هذا احتراس من الانصباب في أشغال الدنيا انصباباً ينسي ذكر الله
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
أي رجاء فلاحكم وفوزكم في دنياكم وآخرتكم
فإن الإكثار من ذكر الله أكبر أسباب الفلاح
لأنّ فلاحكم فيه وفوزكم منوط به
فإن الفلاح في الإِقبال على مرضاة الله تعالى
والفلاح كل الفلاح في تقديم ما يتعلق بأمور الدين ، على ما يتعلق بأمور الدنيا ، وفى تفضيل ما يبقى على ما يفنى
الفلاح في الإقبال على الطاعات التي ترضيه سبحانه ومن بين هذه الطاعات أن يكثر الإنسان من ذكر الله تعالى حتى في حالة سعيه لتحصيل رزقه
وهذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي
التوازن بين متطلبات الحياة في الأرض ، من عمل وكد ونشاط وكسب وبين انقطاع القلب وتجرده للذكر . وهي ضرورة لحياة القلب لا يصلح بدونها
فالبرغم من أن ذكر الله لا بد منه في أثناء طلب المعاش ، والشعور بالله فيه الذي يحول نشاط المعاش إلى عبادة . إلا أنه مع هذا لا بد للذكر الخالص ، والانقطاع الكامل ، والتجرد المحض لله بالذكر الكثير
فالله تعالى يأمرنا عند صلاة الخوف والعدو في المقابل أن نكثر ذكر الله لأنه هو الفلاح
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ (103)
فداوموا على الإِكثار من ذكر الله في كل أحوالكم سواء أكنتم قائمين في ميدان القتال ، أم قاعدين مستريحين ، أم مضطجعين على جنوبكم ، فإن ذكر الله تعالى الذي يتناول كل قول أو عمل يرضى الله هو العبادة المستمرة التي بها تصفو النفوس ، وتنشرح الصدور ، وتطمئن القلوب . قال تعالى { الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } وإنما أمره سبحانه بالإِكثار من ذكره في هذه الأحوال بصفة خاصة ، مع أن الإِكثار من ذكر الله مطلوب في كل وقت ، لأن الإِنسان في حالة الخوف ومقابلة الأعداء أحوج ما يكون إلى عون الله وتأييده ونصره ، والتضرع إلى الله بالدعاء في هذه الأحوال يكون جديراً بالقبول والاستجابة .
فداوموا على ذكره سبحانه فإن ذكره حصنكم في كل حالة من كل عدو ظاهر أو باطن
فالذكر أعظم حفيظ للعبد ، وحارس من شياطين الإنس والجن ، ومسكن للقلوب وهو أفضل مجليات القلوب ومهذبات النفوس
فداوموا على ذكر الله تعالى وحافظوا على مراقبته ومناجاته ودعائه في جميع الأحوال فإذا فرغتم من صلاتكم، سواء صلاة الخوف وغيرها، فاذكروا الله في جميع أحوالكم وهيئاتكم، ولكن خصت صلاة الخوف بذلك لأن القلب صلاحه وفلاحه وسعادته بالإنابة إلى الله تعالى في المحبة وامتلاء القلب من ذكره والثناء عليه
ولأن الخوف يأتي من قلق القلب وخوفه مظنة لضعفه، وإذا ضعف القلب ضعف البدن عن مقاومة العدو، والذكر لله والإكثار منه من أعظم مقويات القلب. [ ص 199 ]
ولأن الذكر لله تعالى مع الصبر والثبات سبب للفلاح والظفر بالأعداء، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
وليست الحرب قاصرة على مواجهة العدو في المعارك ولكن هناك أعداء للإنسان في ميادين كثيرة تحتاج الثبات في مواجهتها والصمود حتى الانتصار عليها كالصراع مع المخدرات والشيطان الذي يتخذها سلاحا له ليدمر بها الإنسان مع الخليعة والمنكرات
والإنسان الذي يريد الفلاح لابد له من مواجهة هذه الصراعات وغيرها في آن واحد ولا يكتفي مثلاً بمواجهة المخدرات وترك باقي الشهوات فلا بد من مواجهة الجميع ولا يعينه في النصر على هذا كله إلا ذكر الله كثيرا باللسان والقلب والطاعة والابتعاد عن المعاصي فيجد بذلك الفلاح من عند الله في الدنيا والآخر
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
اللقاء بمعنى المقابلة والمواجهة
والمعنى يأيها الذين آمنوا بالله إذا حاربتم أعدائكم ، فاثبتوا لا سيما في مواطن الشدة ، واذكروا الله فإن ذكر الله بالقلب واللسان من أعظم وسائل النصر لأن المؤمن متى استحضر عظمه الله في قلبه لا تهوله قوة عدوه ، ولا تخيفه كثرته
واذكروا ما وعدكم الله تعالى من النصر على الأعداء في الدنيا والثواب في الآخرة ليدعوكم ذلك إلى الثبات في المواجهة
واذكروا الله عند جزع قلوبكم ، فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد
وأكثروا من ذكر الله بأقوالكم وأعمالكم ، وفى سركم وجهركم ، وفى كل ما تأتون وما تذرون
اعلم أن الله تعالى علمهم إذا التقوا بالأعداء أن يثبتوا وهو أن يوطنوا أنفسهم على اللقاء وأن يذكروا الله كثيراً فالإنسان لا يجوز أن يخلى قلبه ولسانه عن ذكر الله والدعاء بالنصر والظفر ، لأن ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى
والعبد عليه أن لا يفتر عن ذكر ربه وإن يكون شغل قلبه وهم نفسه مجتمعة على ذكره لا يشغله شيء عن ذكر الله ، وأن يلتجىء إليه عند الشدائد ويقبل إليه فارغ البال واثقاً بأن ذكر الله تعالى له تأثير عظيم في دفع المضار وجلب المنافع
فالآية دليل على أن الذكر في جميع الأحوال ، حتى في هذه الحالة التي ترجف فيها القلوب ، وتزيغ عندها البصائر
الله يأمرهم بما يهيءّ لهم النصر في المواقع كلّها ، ويستدعي عناية الله بهم وتأييدَه إيّاهم ، فجمع لهم في هذه الآية ما به قِوام النصر في الحروب
الله تعالى فرض ذكره عند أشغل ما يكونون النصر والعز ، وهي وصية من الله
وأمر الله تعالى بإكثار ذكره لأنه هو عصمة المستنجد
لأن ذكر الله هو الصلة التي تربط الإِنسان بخالقه الذي بيده كل شئ ، ومتى حسنت صلة الإِنسان بخالقه ، صغرت في عينه قوة أعدائه مهما كبرت .
وبذكر الله يدخل المؤمنون المعركة بقلوب نقية ، وبنفوس صافية متوطنة على ما يرضى الله ، متحملة للمكاره والمشاق في جلد . وهذه الصفة لا بد منها لمن يريد أن يصل إلى آماله وغاياته
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } تنالون بغيتكم وتبلغون آمالكم وتظفرون بمرادكم متى فعلتم ذلك عن إخلاص
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } تدركون ما تطلبون من الانتصار على أعدائكم ، فالصبر والثبات والإكثار من ذكر اللّه من أكبر الأسباب للنصر فان الغلبة على الأعداء بالقوة المقدسة والتأييد الإلهي لا بالقوة الجسمانية وكثرة العدد والعدد
ثم اعلم أن المؤمن مأمور بالثبات والمجاهدات والجهاد مع النفس جهاد عظيم لآن فيه الخلاص من الظلمات الخلقية والفوز بالطمأنينة القلبية التي تنبثق من ذكر الرحمن وهي من اكبر أنواع الجهاد وأسرع قدم في الوصول إلى رب العباد
وهذا هو الفلاح
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } تفوزون بالنجاة من الأعداء والنصر عليهم في الدنيا والجنة في الآخرة والنجاة من النار