قصة الثلاثة نفر الذين دخلوا مجلس النبي عليه
السلام
ابن حجر
باب مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا
قوله: (باب من قعد حيث ينتهي به المجلس) مناسبة هذا لكتاب العلم من جهة أن المراد بالمجلس وبالحلقة حلقة العلم ومجلس العلم، فيدخل في أدب الطالب من عدة أوجه كما سنبينه، والتراجم الماضية كلها تتعلق بصفات العالم.
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ قَالَ فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ
قوله: (مولى عقيل) بفتح العين، وقيل لأبي مرة ذلك للزومه إياه، وإنما هو مولى أخته أم هانئ بنت أبي طالب، قوله: (عن أبي واقد) صرح بالتحديث في رواية النسائي من طريق يحيى بن أبي كثير عن إسحاق فقال: عن أبي مرة أن أبا واقد حدثه، وقد قدمنا أن اسم أبي واقد الحارث بن مالك، وقيل ابن عوف، وقيل عوف بن الحارث، وليس له في البخاري غير هذا الحديث، ورجال إسناده مدنيون، وهو في الموطأ، ولم يروه عن أبي واقد إلا أبو مرة، ولا عنه إلا إسحاق، وأبو مرة والراوي عنه تابعيان، وله شاهد من حديث أنس أخرجه البزار والحاكم، قوله: (ثلاثة نفر) النفر بالتحريك للرجال من ثلاثة إلى عشرة، والمعنى ثلاثة هم نفر، والنفر اسم جمع ولهذا وقع مميزا للجمع كقوله تعالى: (تسعة رهط) ، قوله: (فأقبل اثنان) بعد قوله:
” أقبل ثلاثة ” هما إقبالان، كأنهم أقبلوا أولا من الطريق فدخلوا المسجد مارين كما في حديث أنس، فإذا ثلاثة نفر يمرون، فلما رأوا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إليه اثنان منهم واستمر الثالث ذاهبا، قوله: (فوقفا) زاد أكثر رواة الموطأ: ” فلما وقفا سلما ” وكذا عند الترمذي والنسائي، ولم يذكر المصنف هنا ولا في الصلاة السلام، وكذا لم يقع في رواية مسلم، ويستفاد منه أن الداخل يبدأ بالسلام، وأن القائم يسلم على القاعد، وإنما لم يذكر رد السلام عليهما اكتفاء بشهرته، أو يستفاد منه أن المستغرق في العبادة يسقط عنه الرد، وسيأتي البحث فيه في كتاب الاستئذان، ولم يذكر أنهما صليا تحية المسجد إما لكون ذلك كان قبل أن تشرع أو كانا على غير وضوء أو وقع فلم ينقل للاهتمام بغير ذلك من القصة أو كان في غير وقت تنفل، قاله القاضي عياض بناء على مذهبه في أنها لا تصلى في الأوقات المكروهة، قوله: (فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ” على ” بمعنى عند، قوله: (فرجة) بالضم والفتح معا هي الخلل بين الشيئين، والحلقة بإسكان اللام كل شيء مستدير خالي الوسط والجمع حلق بفتحتين، وحكي فتح اللام في الواحد وهو نادر، وفيه استحباب التحليق في مجالس الذكر والعلم، وفيه أن من سبق إلى موضع منها كان أحق به، قوله: (وأما الآخر)
بفتح الخاء المعجمة، وفيه رد على من زعم أنه يختص بالأخير لإطلاقه هنا على الثاني، قوله: (فأوى إلى الله فآواه الله) قال القرطبي: الرواية الصحيحة بقصر الأول ومد الثاني وهو المشهور في اللغة، وفي القرآن (إذ أوى الفتية إلى الكهف) بالقصر، (وآويناهما إلى ربوة) بالمد، وحكي في اللغة القصر والمد معا فيهما، ومعنى أوى إلى الله لجأ إلى الله، أو على الحذف أي انضم إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى فآواه الله أي جازاه بنظير فعله بأن ضمه إلى رحمته ورضوانه، وفيه استحباب الأدب في مجالس العلم وفضل سد خلل الحلقة، كما ورد الترغيب في سد خلل الصفوف في الصلاة، وجواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ، فإن خشي استحب الجلوس حيث ينتهي كما فعل الثاني، وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير، قوله: (فاستحيا) أي ترك المزاحمة كما فعل رفيقه حياء من النبي صلى الله عليه وسلم وممن حضر قاله القاضي عياض، وقد بين أنس في روايته سبب استحياء هذا الثاني فلفظه عند الحاكم: ” ومضى الثاني قليلا ثم جاء فجلس ” فالمعنى أنه استحيا من الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث،
قوله: (فاستحيا الله منه) أي رحمه ولم يعاقبه، قوله: (فأعرض الله عنه) أي سخط عليه، وهو محمول على من ذهب معرضا لا لعذر، هذا إن كان مسلما، ويحتمل أن يكون منافقا، واطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أمره، كما يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: ” فأعرض الله عنه ” إخبارا أو دعاء، ووقع في حديث أنس: ” فاستغنى فاستغنى الله عنه ” وهذا يرشح كونه خبرا، وإطلاق الإعراض وغيره في حق الله تعالى على سبيل المقابلة والمشاكلة، فيحمل كل لفظ منها على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وفائدة إطلاق ذلك بيان الشيء بطريق واضح، وفيه جواز الإخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم للزجر عنها وأن ذلك لا يعد من الغيبة، وفي الحديث فضل ملازمة حلق العلم والذكر وجلوس العالم والمذكر في المسجد، وفيه الثناء على المستحي، والجلوس حيث ينتهي به المجلس، ولم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية واحد من الثلاثة المذكورين، والله تعالى أعلم.
الأحوذي
قوله: (إذ أقبل ثلاثة نفر) النفر بالتحريك للرجال من ثلاثة إلى عشرة والمعنى ثلاثة هم نفر والنفر اسم جمع ولهذا وقع مميزاً للجمع كقوله تعالى: «وتسعة رهط» (فأقبل اثنان) بعد قوله أقبل ثلاثة هما إقبالان كأنهم أقبلوا أولا من الطريق فدخلوا المسجد مارين كما في حديث أنس: فإذا ثلاثة نفر يمرون فلما رأوا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إليه اثنان منهم واستمر الثالث ذاهباً. كذا في الفتح (فلما وقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي على مجلس رسول صلى الله عليه وسلم أو على بمعنى عند (فرأى فرجة) بضم الفاء وفتحها لغتان وهي الخلل بين الشيئين ويقال لها أيضاً فرج ومنه قوله تعالى: {وما لها من فروج} جمع فرج، وأما الفرجة بمعنى الراحة من الغم فذكر الأزهري فيها فتح الفاء وضمها وكسرها، وقد فرج له في الحلقة والصف ونحوهما بتخفيف الراء يفرج بضمها (في الحلقة) بإسكان اللام على المشهور كل شيء مستدير خالي الوسط والجمع حلق بفتحتين وحكى فتح اللام في الواحد وهو نادر (أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله) قال النووي لفظه أوى بالقصر وآواه بالمد هكذا الرواية وهذه هي اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن أنه إذا كان لازماً كان مقصوراً وإن كان متعدياً كان ممدوداً، قال الله تعالى: {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة} وقال تعالى: { إذ أوى الفتية إلى الكهف} وقال في التعدي {وآويناهما إلى ربوة} وقال تعالى: {ألم يجدك يتيماً فآوى} قال القاضي وحكى بعض أهل اللغة فيهما جميعاً لغتين القصر والمد فيقال أويت إلى الرجل بالقصر والمد وآويته وأويته بالمد والقصر والمشهور الفرق كما سبق. قال العلماء: معنى أوى إلى الله أي لجأ إليه. قال القاضي وعندي أن معناه هنا دخل مجلس ذكر الله تعالى، أو دخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجمع أوليائه وانضم إليه، ومعنى آواه الله أي قبله وقربه وقيل معناه رحمه أو آواه إلى جنته أو كتبها له (وأما الاۤخر فاستحيى فاستحيى الله منه) قال النووي: أي ترك المزاحمة والتخطي حياء من الله تعالى ومن النبي صلى الله عليه وسلم والحاضرين أو استحياء منهم أن يعرض ذاهباً كما فعل الثالث فاستحيى الله منه أي رحمه ولم يعذبه بل غفر ذنوبه،
وقيل جازاه بالثواب، قالوا ولم يلحقه بدرجة صاحبه الأول في الفضيلة الذي آواه وبسط له اللطف وقربه، قال وهذا دليل اللغة الفصيحة أنه يجوز في الجماعة أن يقال في غير الأخير منهم الاۤخر، فيقال حضرني ثلاثة أما أحدهم فقرشي وأما الاۤخر فأنصاري وأما الاۤخر فتيمي. وقد زعم بعضهم أنه لا يستعمل الاۤخر إلا في الأخير خاصة وهذا الحديث صريح في الرد عليه انتهى (وأما الاۤخر فأعرض فأعرض الله عنه) أي لم يرحمه، وقيل سخط عليه، وهذا محمول على إنه ذهب معرضاً لا لعذر وضرورة قاله النووي، وقال الحافظ: أي سخط عليه وهو محمول على من ذهب معرضاً لا لعذر هذا إن كان مسلماً، ويحتمل أن يكون منافقاً واطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أمره كما يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم فأعرض الله عنه إخباراً أو دعاء، ووقع في حديث أنس: فاستغنى فاستغنى الله عنه. وهذا يرشح كونه خبراً، وإطلاق الاعراض وغيره في حق الله تعالى على سبيل المقابلة والمشاكلة فيحمل كل لفظ منها على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى. وفائدة إطلاق ذلك بيان الشيء بطريق واضح انتهى. وفي الحديث استحباب جلوس العالم لأصحابه وغيرهم في موضع بارز ظاهر للناس والمسجد أفضل فيذاكرهم العلم والخير. وفيه جواز حِلَق العلم والذكر في المسجد واستحباب دخولها ومجالسة أهلها وكراهة الانصراف عنها من غير عذر واستحباب القرب من كبير الحلقة ليسمع كلامه سماعاً بيناً ويتأدب بأدبه، وأن قاصد الحلقة إن رأى فرجة دخل فيها وإلا جلس وراءهم، وفيه الثناء على من فعل جميلاً فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى على الاثنين في هذا الحديث وأن الإنسان إذا فعل قبيحاً ومذموماً وباح به جاز أن ينسب إليه
النووي
باب من أتى مجلساً فوجد فرجة فجلس فيها وإلا وراءهم
قوله صلى الله عليه وسلم: «بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان» إلى آخره، فيه استحباب جلوس العالم لأصحابه وغيرهم في موضع بارز ظاهر للناس والمسجد أفضل فيذاكرهم العلم والخير، وفيه جواز حلق العلم والذكر في المسجد واستحباب دخولها ومجالسة أهلها وكراهة الانصراف عنها من غير عذر واستحباب القرب من كبير الحلقة ليسمع كلامه سماعاً بيناً ويتأدب بأدبه وأن قاصد الحلقة إن رأى فرجة دخل فيها وإلا جلس وراءهم، وفيه الثناء على من فعل جميلاً فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى على الاثنين في هذا الحديث، وأن الإنسان إذا فعل قبيحاً ومذموماً وباح به جاز أن ينسب إليه والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: «فرأى فرجة في الحلقة فدخل فيها» الفرجة بضم الفاء وفتحها لغتان وهي الخلل بين الشيئين ويقال لها أيضاً فرج ومنه قوله تعالى: {ومالها من فروج} جمع فرج، وأما الفرجة بمعنى الراحة من الغم فذكر الأزهري فيها فتح الفاء وضمها وكسرها، وقد فرج له في الحلقة والصف ونحوهما بتخفيف الراء يفرج بضمها، وأما الحلقة فبإسكان اللام على المشهور وحكى الجوهري فتحها وهي لغة رديئة. قوله صلى الله عليه وسلم: «أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله» لفظة أوى بالقصر وآواه بالمد هكذا الرواية وهذه هي اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن أنه إذا كان لازماً كان مقصوراً وإن كان متعدياً كان ممدوداً، قال الله تعالى: {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة} وقال تعالى: {إذ أوى الفتية إلى الكهف} وقال في المتعدي: {وآويناهما إلى ربوة} وقال تعالى: {ألم يجدك يتيماً فآوى} قال القاضي: وحكى بعض أهل اللغة فيهما جميعاً لغتين القصر والمد فيقال أويت إلى الرجل بالقصر والمد وآويته بالمد والقصر والمشهور الفرق كما سبق. قال العلماء: معىن أوى إلى الله أي لجأ إليه. قال القاضي: وعندي أن معناه هنا دخل مجلس ذكر الله تعالى أو دخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجمع أوليائه وانضم إليه، ومعنى آواه الله أي قبله وقربه، وقيل معناه رحمه أو آواه إلى جنته أي كتبها له. قوله صلى الله عليه وسلم: «وأما الآخر فاستحى فاستحى الله منه» أي ترك المزاحمة والتخطي حياء من الله تعالى ومن النبيّ صلى الله عليه وسلم والحاضرين،
أو استحياء منهم أن يعرض ذاهباً كما فعل الثالث فاستحى الله منه أي رحمه ولم يعذبه بل غفر ذنوبه، وقيل جازاه بالثواب. ولم يلحقه بدرجة صاحبه الأول في الفضيلة الذي آواه وبسط له اللطف وقربه. وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه أي لم يرحمه وقيل سخط عليه وهذا محمول على أنه ذهب معرضاً لا لعذر وضرورة. قوله صلى الله عليه وسلم في الثاني وأما الآخر فاستحى هذا دليل اللغة الفصيحة الصحيحة أنه يجوز في الجماعة أن يقال في غير الأخير منهم الآخر فيقال حضرني ثلاثة: أما أحدهم فقرشي، وأما الآخر فأنصاري، وأما الآخر فتيمي، وقد زعم بعضهم أنه لا يستعمل الآخر إلا في الآخر خاصة، وهذا الحديث صريح في الرد عليه والله أعلم