الدعوة إلى العقيدة الإسلامية
يجب على المسلم بعدما يمن الله عليه بمعرفة هذه
العقيدة والتمسك بها أن يدعو الناس إليها لإخراجهم بها من الظلمات إلى
النور؛ كما قال تعالى: {فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
.
والدعوة إلى العقيدة الإسلامية هي فاتحة دعوة الرسل
جميعا؛ فلم يكونوا يبدءون بشيء قبلها؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وكل رسول يقول لقومه أول ما
يدعوهم: {اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ؛ كما قالها
نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وسائر الرسل عليهم
صلوات الله وسلامه أجمعين.
فيجب على كل من عرف هذه العقيدة وعمل بها ألا يقتصر
على نفسه، بل يدعو الناس إليها بالحكمة والموعظة الحسنة؛ كما هو سبيل
المرسلين وأتباعهم، وإن الدعوة إلى هذه العقيدة هو الأساس والمنطلق؛
فلا يدعى إلى شيء قبلها من فعل الواجبات وترك المحرمات، حتى تقوم هذه
العقيدة وتتحقق؛ لأنها هي الأساس المصحح لجميع الأعمال، وبدونها لا تصح
الأعمال ولا تقبل ولا يثاب عليها، ومن المعلوم بداهة أن أي بناء لا
يقوم ولا يستقيم إلا بعد إقامة أساسه.
ولهذا كان الرسل يهتمون بها قبل كل شيء، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم عندما يبعث الدعاة يوصيهم بالبداءة بالدعوة إلى
تصحيح العقيدة:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم (لما بعث معاذا إلى
اليمن؛ قال له إنك تأتي قوما من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه
شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله"-؛
فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم
وليلة؛ فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من
أغنيائهم فترد على فقرائهم؛ فإن هم أطاعوك لذلك؛ فإياك وكرائم أموالهم،
واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) . رواه
البخاري ومسلم.
فمن هذا الحديث الشريف، ومن استقراء دعوة الرسل في
القرآن، ومن استقراء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يؤخذ منهج الدعوة
إلى الله، وأن أول ما يدعى الناس إليه هو العقيدة المتمثلة بعبادة الله
وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه؛ كما هو معنى لا إله إلا الله.
وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة
سنة بعد البعث يدعو الناس إلى تصحيح العقيدة بعبادة الله وحده وترك
عبادة الأصنام قبل أن يأمر الناس بالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد
وترك المحرمات من الربا والزنى والخمر والميسر.
وهذا ما يدلنا دلالة واضحة على خطأ بعض الجماعات
المعاصرة التي تنتمي للدعوة، وهي لا تهتم بالعقيدة، وإنما تركز على
أمور جانبية أخلاقية وسلوكية، وهي ترى كثيرا من الناس يمارسون الشرك
الأكبر حول الأضرحة المبنية على القبور في بعض ديار الإسلام، ولا تنكر
ذلك، ولا تنهى عنه، لا في كلمة، ولا في محاضرة، ولا في مؤلف؛ إلا
قليلا، بل قد يكون بين صفوف تلك الجماعات من يمارس الشرك والتصوف
المنحرف، ولا ينهونه، ولا ينبهونه، مع أن البداءة بدعوة هؤلاء وإصلاح
عقيدتهم أولى من دعوة الملاحدة والكفار المصرحين بكفرهم؛ لأن الكفار
والملاحدة مصرحون بكفرهم ومقرون أن ما هم عليه مخالف لما جاءت به
الرسل، أما أولئك القبوريون والمتصوفة المنحرفون؛ فيظنون أنهم مسلمون،
وأن ما هم عليه هو الإسلام، فيغترون ويغرون غيرهم، والله جل وعلا أمرنا
بالبداءة بالكفار الأقربين، وقال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ
الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
مَعَ الْمُتَّقِينَ} ؛ فما لم تصف صفوف المسلمين من
الدخيل؛ فإنهم لن يستطيعوا الصمود في وجه عدوهم، ويحكى أن قبوريا رأى
رجلا يعبد صنما أمامه، فأنكر عليه القبوري، فقال له عابد الصنم: أنت
تعبد مخلوقا غائبا عنك، وأنا أعبد مخلوقا ماثلا أمامي؛ فأينا
أعجب؟! فانخصم القبوري. هذا وإن كان كل منهما مشركا ضالا؛ لأنه
يعبد ما لا يملك ضرا ولا نفعا، إلا أن القبوري أغرق في الضلال وأبلغ في
طلب المحال. فيجب على الدعاة إلى الله أن يركزوا على جانب العقيدة
أكثر من غيرها، ويقبلوا على دراستها وتفهمها أولا، ثم يعلموها لغيرهم،
ويدعوا إليها من انحرف عنها أو أخل بها.
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
.
قال الإمام ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية
الكريمة: "يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد
هذه: الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى
توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان والانتهاء إلى طاعته
وترك معصيته. سبيلي وطريقتي ودعوتي أدعو إلى الله: تعالى وحده لا
شريك له. على بصيرة بذلك ويقين علم مني أنا ومن اتبعني؛ أي: ويدعو
إليه على بصيرة أيضا من تبعني وصدقني وآمن بي. وسبحان الله يقول له
تعالى ذكره وقل تنزيها لله تعالى وتعظيما له من أن يكون له شريك في
ملكه أو معبود سواه في سلطانه وما أنا من المشركين: يقول: وأنا
بريء من أهل الشرك به، لست منهم ولا هم مني". انتهى كلام ابن
جرير.
فالآية الكريمة تدل على أهمية معرفة العقيدة الإسلامية
والدعوة إليها، وأن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم من اقتدى به في
ذلك واتصف بالصفتين. العلم بالعقيدة، والدعوة إليها، وأن من لم يتعلم
أحكام العقيدة ويهتم بها ويدعو إليها؛ فليس من أتباع الرسول على
الحقيقة، وإن كان من أتباعه على سبيل الانتساب والدعوى.
وقال ابن القيم رحمه الله في معنى قوله تعالى: {ادْعُ
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} : "ذكر
سبحانه مراتب الدعوة، وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو؛ فإنه: إما
أن يكون طالبا للحق مؤثرا له على غيره إذا عرفه؛ فهذا يدعى بالحكمة ولا
يحتاج إلى موعظة وجدال. وإما أن يكون مشتغلا بضد الحق، لكن لو عرفه؛
آثره واتبعه؛ فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب. وإما أن
يكون معاندا معارضا؛ فهذا يجادل بالتي هي أحسن؛ فإن رجع، وإلا، انتقل
معه إلى غير الجدال إن أمكن..."انتهى كلام ابن القيم.
وبهذا تبين منهج الدعوة وما ينبغي فيها، وتبين خطأ ما تنتهجه بعض الجماعات المنتمية إلى الدعوة، وهي تخالف المنهاج السليم الذي بينه الله ورسوله