![]() |
سورة العصر
موضوعنا الخسران المبين وصفات الناجين كما بين ذلك رب العالمين
{ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) }
هذه هي سورة العصر
المقصود بالعصر هنا الدهر كله ، لما فيه من العبر التي تدل دلالة واضحة على عظيم قدرة الله تعالى
لما فيه من العجائب ، أمة تذهب وأمة تأتي ، وقدر ينفذ ، وآية تظهر ، وهو لا يتغير ، ليل يعقبه نهار ، ونهار يطرده ليل ، فهو في نفسه عجب .
فهو في نفسه آية ، سواء في ماضيه لا يعلم متى كان ، أو في حاضره لا يعلم كيف ينقضي ، أو في مستقبله .
فالعصر الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم، من خير وشر
{ العصر } العشي آخر النهار
{ والعصر } الليلة
فالعصر هو الليل والنهار فهو محل أفعال العباد وأعمالهم
لما فيه من الأحداث التي يراها الناس بأعينهم ، ويعرفونها عن غيرهم
فهم يرون ويسمعون كم من غنى قد صار فقيرا ، وقوى قد صار ضعيفا ، ومسرور قد أصبح حزينا
{ العصر هي صلاة العصر ووقتها لفضلها الباهر يقول تعالى { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى (238) } البقرة
وقوله صلى الله عليه وسلم { من فاتته صلاة العصر فكأنما وَتِرَ أهله وماله }
لانتهاء الدوام عند الكثير وقد دب فيهم الخمول والكسل ويحتاجون إلى الراحة من مجهود العمل فقد يحدث عندهم الخلل في أدائها
ويكون التكليف في أدائها أشق لتهافت الكثير من الناس في تجاراتهم ومكاسبهم واشتغالهم بمعايشهم آخر النهار لبرد الهواء حينئذ فالكسب الحاصل في ذلك الوقت مع السهو عن الصلاة في حكم الخسران وسبب للخذلان
إن ربنا أقسم بالعصر الذي هو شامل لكل المعاني التي ذكرناها بما فيها عصر الإنسان الذي هو عمره ومدة حياته والذي هو محل الكسب والخسران
أقسم سبحانه بصلاة العصر كما اقسم بالفجر وبالضحى
وأقسم به سبحانه لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها
والأقسام بالشيء إعظام له
فاقسم الله بالدهر لأنه بالنسبة إلى الفهم العام محل شهود الآيات الإلهية كالليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وغيرها
{ إِنَّ الإنسان لفي خُسْرٍ } جواب القسم
ليشعر أن الإنسان مستغرق في الخسران ، وهو محيط به من كل جهة
{ الإنسان } اسم الجنس فالمراد بالإِنسان جنسه
{ الخسر } النقصان وسوء الحال والخاسر ضد الرابح والخسر العقوبة والهلكة
والخسار مراتب متعددة متفاوتة
قد يكون خسارًا مطلقًا، كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم. وذلك بين غاية البيان في الكافر لأنه خسر الدنيا والآخرة
وذلك هو الخسران المبين
وقد يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض
فالمؤمن يخسر في وقت شيخوخته القدرة في تحصيل وأداء الأعمال الصالحة التي كان يأتي بها في شبابه بكل سهولة ويسر لكن خسر دنياه في هرمه معفو عنه لفلاحه في الآخرة وربحه الذي لا يفنى ، فلا خسر معه ، وقد جمع له الخير كله
فجنس الإِنسان لا يخلو من خسران ونقصان وفقدان للربح في مساعيه وأعماله طوال عمره ، وإن هذا الخسران يتفاوت قوة وضعفا .
فأخسر الأخسرين هو الكافر الذي أشرك مع خالقه إلها آخر في العبادة ، وأقل الناس خسارة هو المؤمن الذي خلط عملا صالحا بآخر سيئا ثم تاب إلى الله تعالى توبة صادقة
وجاء الكلام بأسلوب القسم ، لتأكيد المقسم عليه ، وهو أن جنس الإِنسان في خسران للإِشعار بأن الإِنسان كأنه مغمور بالخسر ، وأن هذا الخسران قد أحاط به من كل جانب فهو لفي خسر عظيم .
{إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} استثناء مما قبله ، والمقصود بهذه الآية الكريمة تسلية المؤمنين الصادقين وتبشيرهم بأنهم ليسوا من هذا الفريق الخاسر .وأن غير المستثنى في خسر لا محالة إما بالخلود إن مات كافرا وإما بالدخول في النار إن مات عاصيا لم يغفر له وإما بفوات الدرجات العالية إن غفر له
فالله تعالى عمم الخسارة لكل إنسان، إلا من اتصف بأربع صفات
الصفة الأولى الإيمان
وهو اعتقاد بالقلب ، ونطق باللسان ، وعمل بالجوارح
الإيمان بما أمر الله بالإيمان به وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر والقدر خيره وشره
فالإيمان هو الارتباط بالمنهج الرباني
الصفة الثانية العمل الصالح
وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده الواجبة والمستحبة
والعمل الصالح هو الثمرة الطبيعية لترجمة الإيمان لعمل
وفي تحقيق هتان الخصلتان الإيمان والعمل الصالح بيان لتكميلهم لأنفسهم
الصفة الثالثة التواصي بالحق
الوصية بالحق تشمل الشريعة كلها ، أصولها وفروعها ، ماضيها وحاضرها ، كما وصى الله بها الأنبياء عموماً ، من نوح وإبراهيم ومن بعدهم كما قال تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [ الشورى : 13 ] .
والحق كل ما كان ضد الباطل فيشمل عمل الطاعات وترك المعاصي والمنكرات
وهو من أسس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فيوصي بعضهم بعضًا بالإيمان والعمل الصالح ، ويحثوا عليه، ويرغبوا فيه.
فالتواصي من الوصية وهى تقديم النصح للغير مقرونا بالوعظ
الصفة الرابعة التواصي بالصبر
على طاعة الله وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة.
إي عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها وعلى ما يبلوا لله به عباده وعن الهلع والجزع
فالوصية بالصبر لأنه قوة في النفس تعينها على احتمال المكاره والمشاق والإتيان بالطاعة واجتناب المعصية والمنكرات
ولا بد من الصبر على جهاد النفس وعلى الأمر والنهي
وهتان الخصلتان الثالثة والرابعة وهما التواصي بالحق وبالصبر بيان لتكميلهم لغيرهم أي وصى بعضهم بعضا في مودة وتعاون
لما أخبر الله تعالى عن هؤلاء بالنجاة من الخسران ، وفوزهم بالعمل الصالح والإيمان ، أخبر عنهم أنهم لم يكتفوا بما يتعلق بصلاح أنفسهم بل تعدوا إلى إصلاح غيرهم ، فدعوهم إلى ما فازوا به على حد قوله صلى الله عليه وسلم { حب لأخيك ما تحب لنفسك }
فبالأمرين الأولين، يكُمل الإنسان نفسه وبالأمرين الأخيرين يكُمل غيره وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم
لأن جميع الناس في خسران ونقصان وهلاك إلا الذين آمنوا بالله تعالى إيمانا حقا ، وعملوا الأعمال الصالحات ، من صلاة وزكاة وصيام وحج وغير ذلك من وجوه الخير ، وأوصى بعضهم بعضا بالتمسك بالحق ، الذي على رأسه الثبات على الإِيمان وعلى العمل الصالح وأوصى بعضهم بعضا كذلك بالصبر على طاعة الله تعالى وعلى البلايا والمصائب والآلام التي لا تخلو عنها الحياة فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم وتواصوا بالحق وهو أداء الطاعات، وترك المحرمات وتواصوا بالصبر على المصائب والأقدار، وأذى من يؤذى ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر
فهؤلاء المؤمنون الصادقون ، الذين أوصى بعضهم بعضا بهذه الفضائل ليسوا من بين الناس الذين هم في خسران ونقصان ، لأن إيمانهم الصادق وعملهم الصالح قد حماهم من الخسران
وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على الوعيد الشديد ، وذلك لأنه تعالى حكم بالخسارة على جميع الناس ، إلا من كان متصفا بهذه الأشياء الأربعة ، وهى الإِيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور الأربعة ، وأنه كما يجب على الإِنسان أن يأتي من الأعمال ما فيه الخير والنفع ، يجب عليه أيضا أن يدعو غيره إلى الدين ، وينصحه بعمل الخير والبر ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وأن يثبت على ذلك ، فلا يحيد عنه ، ولا يزحزحه عن الدعوة إليه ما يلاقيه من مشاق
ولعله سبحانه إنما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاء ببيان المقصود فان المقصود بيان ما فيه الفوز بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية وإشعارا بان ما عدا هذه الأمور الأربعة إلى الخسران والنقصان
روى عن الشافعي رحمه الله قوله في سورة العصر أنها سورة لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم
وهو معنى قول غيره أنها شملت جميع علوم القرءان .
ففي هذه السورة الصغيرة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة . إنها تضع الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار وتصف الأمة المسلمة حقيقتها ووظيفتها في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا الله
والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار ، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار ، ليس هنالك إلا منهج واحد رابح ، وطريق واحد ناج . هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده ، وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار
ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ثم يسلم أحدهما على الآخر لقد كانا يتعاهدان على هذا الدستور الإلهي ، يتعاهدان على الإيمان والصلاح ، ويتعاهدان على التواصي بالحق والتواصي بالصبر ويتعاهدان على أنهما حارسان لهذا الدستور ويتعاهدان على أنهما من هذه الأمة القائمة على هذا الدستور
فصارت هذه السورة بحق جامعة لأصول الرسالة .
فهذه السورة فعلاً دافع لكل فرد إلى الجد والعمل المربح
ودرجات الجنة رفيعة ومنازلها عالية مهما بذل العبد من جهد ، فإن أمامه مجال للكسب والربح ، نسأل الله التوفيق والفلاح