مسبة الدهر ونحوه
ومن الأشياء يرتكبها بعض الناس بحكم العادة، وهي مما ينقص التوحيد أيضا
ويسيء إلى العقيدة: مسبة الدهر ومسبة الريح وما أشبه ذلك من إسناد
الذم إلى المخلوقات فيما ليس لها فيه تصرف، فيكون هذا الذم في الحقيقة
موجها إلى الله سبحانه؛ لأنه الخالق المتصرف.
قال الله تعالى عن المشركين: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا
حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا
الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا
يَظُنُّونَ} ؛ فقد كذبوا بالبعث، وقالوا: {مَا
هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} : التي نحن فيها، ليس
هناك حياة سواها. {نموت ونحيا} ؛ أي: يموت قوم ويعيش آخرون.
وهذا منهم إنكار لوجود الخالق المتصرف، ورد جريان الحوادث إلى الطبيعة،
ولهذا قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا
إِلَّا الدَّهْرُ} ؛ أي: لا يفنينا إلا مرور الليالي
والأيام، فنسبوا الإهلاك إلى الدهر على سبيل الذم له، وإنما قالوا هذا
القول عن جهل وتخرص لا عن علم وبرهان؛ لأن البرهان يرد هذا القول
ويبطله، ولهذا رد الله عليهم بقوله: {وَمَا
لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ،
وكل قول لا ينبني على علم وبرهان؛ فهو قول باطل مردود، والبراهين تدل
على أن ما يجري في الكون لابد له من مدبر حكيم قادر، وهو الله سبحانه
وتعالى؛ فكل من سب الدهر ونسب إليه شيئا من الحوادث؛ فقد شارك المشركين
والدهرية في هذا الوصف الذميم، وإن لم يشاركهم في أصل الاعتقاد.
وفي "الصحيحين"وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (قال
الله تعالى يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل
والنهار) . وفي رواية: (لا
تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر) .
فدل الحديث على أن من سب الدهر؛ فقد آذى الله سبحانه؛ لأن السب يتجه
إلى مدبر الحوادث والوقائع وخالقها، والدهر إنما هو ظرف ومحل وخلق مدبر
ليس له شيء من التدبير، ولهذا قال الله: "وأنا الدهر، أقلب الليل
والنهار".
فقوله سبحانه: "أقلب الليل والنهار": تفسير لقوله: "وأنا
الدهر"، وكذا قوله: "فإن الله هو الدهر": معناه أن الله هو
المتصرف الذي يصرف الدهر وغيره؛ فالذي يسب الدهر إنما يسب من خلقه، وهو
الله تعالى وتقدس.
قال بعض السلف: كانت العرب في جاهليتها من شأنها ذم الدهر؛ أي سبه
عند النوازل، فكانوا إذا أصابتهم شدة أو بلاء؛ قالوا: أصابتهم قوارع
الدهر، وأبادهم الدهر، وقالوا: يا خيبة الدهر! فيسندون تلك الأفعال
إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعل ذلك هو الله؛ فإذا أضافوا ما نالهم من
الشدائد إلى الدهر؛ فإنما سبوا الله عز وجل؛ لأن الله هو الفاعل لذلك
حقيقة.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: "وقد غلط ابن حزم ومن نحا
نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذا بهذا الحديث،
وقد بين معناه في الحديث بقوله: "أقلب الليل والنهار"،
وتقليبه: تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه؛ فالذي يليق
بالمسلم تجنب مثل هذه الألفاظ، وإن كان يعتقد أن الله هو المتصرف، لكن
في تجنبها ابتعاد عن مشابهة الكفار ولو في الألفاظ، وفي ذلك حفاظ على
العقيدة وتأدب مع الله سبحانه".
ومن جنس مسبة الدهر مسبة الريح.
وقد ورد النهي عنها في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي رضي الله
عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا
تسبوا الريح؛ فإذا رأيتم ما تكرهون؛ فقولوا اللهم! إنا نسألك من خير
هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر
ما فيها وشر ما أمرت به) .
وذلك لأن الريح إنما تهب بأمر الله وتدبيره؛ لأنه هو الذي أوجدها
وأمرها؛ فمسبتها مسبة للفاعل، وهو الله سبحانه؛ كما تقدم في سب الدهر؛
لأن سب الريح وسب الدهر يرجعان إلى مسبة الخالق الذي دبر هذه
الكائنات.
ثم أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم عندما يرون ما يكرهون مما يأتي مع
الريح بأن يتوجهوا إلى خالقها وآمرها ليسألوه من خيرها وخير ما فيها
ويستعيذوا من شرها وشر ما فيها؛ فما استجلبت نعمة إلا بطاعة الله
وشكره، ولا استدفعت نقمة إلا بالالتجاء إلى الله والاستعاذة به، وأما
سب هذه المخلوقات؛ ففيه مفاسد:
منها: أنه سب ما ليس أهلا للسب؛ فإنها مخلوقات مسخرة ومدبرة.
ومنها: أن سب هذه الأشياء متضمن للشرك؛ فإنه إنما سبها لظنه أنها تضر
وتنفع من دون الله.
ومنها: أن السب إنما يقع على من فعل هذه الأفعال، وهو الله.
وإذا قال العبد عند هبوب الريح ما أرشده إليه النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله: (إذا رأيتم ما تكرهون؛
فقولوا اللهم! إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت
به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به) ؛
فقد لجأ إلى خالق الريح ومدبرها ومصرفها، وهدا هو التوحيد والاعتقاد
السليم الذي يخالف اعتقاد أهل الجاهلية.
وهكذا يكون المسلم دائما وأبدا مع الأحداث؛ يرجعها إلى خالقها، ويسأله
من خيرها، وأن يدفع عنه شرها، ولا يلقي باللوم عليها ويسبها ويفسرها
بغير تفسيرها الصحيح.
وليعلم أن ما أصابه من هذه الأحداث مما يكره إنما هو بتقدير من الله
وتسليط لها عليه بسبب ذنوبه؛ كما قال تعالى: {وَمَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو
عَنْ كَثِيرٍ} ، وقال تعالى: {اللَّهُ
الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} الآية، وقال
تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ، وقال تعالى: {يُقَلِّبُ
اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي
الْأَبْصَارِ} .
فالأمر كله راجع إلى الله؛ فالواجب حمده في الحالتين حالة السراء وحالة
الضراء، وحسن الظن به، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة؛ كما قال
تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ
بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ،
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ} .
هذا هو التفسير الصحيح لمجريات الأحداث؛ فالمؤمن يعلم أن ما أصابه مما
يكره إنما هو بسبب ذنوبه، فيلقي باللوم على نفسه لا على الدهر ولا على
الريح، فيتوب إلى الله، والكافر والفاسق أو الجاهل يلقي باللوم على هذه
المخلوقات، ولا يحاسب نفسه، ولا يتوب من ذنبه؛ كما قال الشاعر:
يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا ** إذ أنت والد سوء تأكل الولدا
وقال آخر:
قبحا لوجهك يا زمان فإنه ** وجه له في كل قبح برقع
نسأل الله
العافية والبصيرة في دينه