ذكر الله مع البكاء في الخلوة
فقوله صلى الله عليه وسلم ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه
خص صلى الله عليه وسلم الخالي بذلك لأنه أبعد من الرياء والسمعة لأن من كان في حال الخلوة لذكر الله عز وجل سواء ذكر الله بقلبه أو بلسانه واستشعر خشيته حتى فاضت عيناه فإنه مخلص لله تعالى
والخلوة تشمل خلوة مكانية وخلوة نفسية
الخلوة المكانية
هي التي يكون فيها الذاكر لله بعيد عن أعين الناس وهو الذي يتبادر إلى الذهن لمعنى الخلوة كمن كان على سبيل المثال يغلق غرفته على نفسه في سكون الليل ولا أحد يراه ليقيم الليل مختلياً بربه فتذكر وحشة القبر أو أهوال القيامة فبكى خوفاً من الله وفراراً إليه أو يقرأ القرآن ومر بآيات عذاب أو آيات رجاء ففاض الدمع من عينه خوفاً من الله أو رجاء رحمته
الخلوة النفسية
التي تحدث لمن كان في ملأ لكنه مختلياً بالله رغم وجوده بالملأ الذي حوله وذكر الله فيما بينه وبين الله ففاضت عيناه ولا أحد يعلم بما حدث منه إلا الله أو اطلع على حاله آخرين دون قصده
وكحال من يكون على فراشه وجواره زوجته نائمة وهو قد أرقه ذكر النار الذي أضج مضجعه أو تذكر ماضي سيء عنده وخاف من الله لسوء عاقبته فبكى من خشية الله ولا تشعر به زوجته التي بجواره على فراشه
ولا بد أن يشمل النوعين قصد الخلوة من الرياء والسمعة
وهذه فضيلة البكاء من خشية الله وفضل طاعة السر لكمال الإخلاص فيها أن يحسن الله إليه بأن يجعله في ظله ليراه الخلق جميعاً في هذه الكرامة كرامة الظل جزاءً على إخفائه لبكائه لله عن الناس
وفي فضل البكاء من خشية الله في الخلوة ندب وترغيب على أن يجعل المرء وقتًا من خلوته للندم على ذنوبه ويفزع إلى الله بإخلاص من قلبه، وتضرع إليه لغفرانها فإنه يجيب المضطر إذا دعاه، وألا يجعل الإنسان خلوته كلها في لذاته كفعل البهائم التي قد أمنت الحساب
فالإنسان الذي يعلم أن هناك مُساءلة على رءوس الخلائق وتكريم على رؤوس الخلائق أو توبيخ وغضب من الله على رؤوس الخلائق فإنه يطول في الخلوة بكاؤه وتصير الدنيا سجنه لما سلف من ذنوبه كي يكرم بظل ربه يوم القيامة
والرجل الذي يخشى الله فِي سره ، ويراقبه فِي خلوته تجده يخشى الله في العلانية أيضاً ، وخشية الله فِي السر إنما تصدر عن قوة إيمان ومجاهدة للنفس والهوى، فإن الهوى يدعو للخلوة في المعاصي ، ولهذا قيل إن من أعز الأشياء الورع فِي الخلوة
وذكر الله يشمل ذكر عظمته وبطشه وانتقامه وعقابه والبكاء الناشيء عن هذا هو بكاء الخوف
ويشمل ذكر الله ذكر جماله وكماله وبره ولطفه وكرامته لأوليائه عندما يدخلهم الجنة ، والبكاء الناشيء عن هذا هو بكاء الشوق
والرجل الذي يتذكر أن الله معه حيثما كان ، فيتذكر معيته وقربه واطلاعه عليه حيث كان تجده يبكي حياء منه ، وهو من نوع البكاء من خشية الله
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة سمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل ([1]) من البكاء
{ يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل }
وفي رواية { يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحا من البكاء }
وهذا حال الأنبياء والصالحين كأن خوف الله أُشرب قلوبهم واستولى عليهم الوجل حتى كأنهم عاينوا الحساب
فما تعبد العابدون بمثل البكاء من خيفة الله
ولذا كان من السلف من يبكى من خشية الله حتى اتخذت الدموع في وجهه مجرى من كثرة بكائه
ومنهم من لم يُر ضاحكًا بعد الخطيئة، ولا شاخصًا ببصره إلى السماء حياءً من الله ، وكان إذا ذكر خطيئته خر مغشيا عليه يضطرب
وكان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، ولما سئل عن ذلك قال رضي الله عنه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
{ إن القبر أول منزلة من منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه } ( [2] )
فأكحل عينيك بالبكاء وخاصة إذا رأيت البطالين أصحاب المعاصي يضحكون فإنهم يبكون يوم القيامة حسرة وندامة
فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا
[1] كصوت القدر من الغليان أثناء الطبخ
[2] المجمع 3/ 47 قال الهيثمي رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثقون , صححه الألباني في صحيح الجامع 5306