أصل مناسك الحج
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . وبعد
هذه الأنساك التي يأتي بها الحجاج إنها في الأصل أفعال قدمها لله عباد صالحين بإخلاص فكافئهم الله بأن جعلها أنساك يأتي بها الحجاج من بعدهم وهذه قصتهم
إبراهيم عليه السلام لما هاجر من بلاد قومه نزل بزوجته سارة أرض مصر , وكان على مصر جبار من الجبابرة اسمه عمرو بن امرئ القيس بن سبأ , وكانت سارة قد أعطيت شطر الحس , وشاهدها الرجل الذي كان يبيع القمح لإبراهيم وهي تطحن فنم على إبراهيم عند الملك, فقال له: نزل ها هنا بأرضك رجلاً معه امرأة من أحسن النساء ولا ينبغي أن تكون لغيرك ، فأرسل إليها , فأتي بها للملك ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها , لما رآها لم يتمالك أن بسط يده إليها
فدعت وقالت اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر فقبضت يده قبضة شديدة , واختنق حتى صار كأنه مصروع يركض برجله, فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك , فدعت الله قالت اللهم إن يمت يقولوا هي التي قتلته , فأرسل الله يده وأطلق , ثم تناولها الثانية فقبضت يده أشد من القبضة الأولى , فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك , فدعت الله , فأطلق
فدعا بعض حجبته ودعا الذي جاء بها, وقال له إنك لم تأتني بإنسان ، إنما أتيتني بشيطان ، وكانوا قبل الإسلام يعظمون أمر الجن جداً ويرون كل أن ما وقع من خوارق العادة من فعلهم وتصرفهم ولما وقع له من الصرع بسببها عظم أمرها فقال أرجعوها إلى إبراهيم وأخدمها هاجر , وهبها لها لتخدمها لأنه أعظمها أن تخدم نفسها في الطحن , وقال هذه لا تصلح أن تخدم نفسها , أخرجوها من أرضي وأعطاها هاجر , وكانت هاجر من قرية بصعيد مصر كان أبوها من ملوك القبط قبل أن يستولى على مصر ابن سبأ
فحفظ الله سارة التي حفظت الله لأنه في ذلك الوقت لم يكن أحد على وجه الأرض يعبد الله إلا إبراهيم وزوجته, ولحفظها فرجها ونفسها لله ولزوجها حفظها الله فلم يمكن الفاجر من أن ينال منها شيء وأرجعها الله لزوجها ومعها هاجر هدية لتكون آمة لها
فأتت سارة إلى إبراهيم ومعها هاجر وكان إبراهيم يصلي وقالت له رد الله كيد الكافر الفاجر واخدمني هاجر
وعاد إبراهيم إلى أرض الشام بزوجته وآمتها هاجر ثم أرادت سارة أن تعف هاجر , فوهبت سارة هاجر لإبراهيم فحملت منه بإسماعيل ، فلما ولدته فدخلت في سارة غيرة النساء فغارت منها فهي أجمل نساء البشر ولم تحمل من زوجها وهذه آمتها تحمل منه , واشتدت بها الغيرة بعدما ولدت هاجر إسماعيل حتى اتخذت هاجر منطقا فشدت به وسطها وهربت وجرت ذيلها لتخفي أثرها على سارة , ولذلك أراد الله أن يفصل بينهما فأمر إبراهيم إن يخرج بإسماعيل وأمه إلى مكة وحملوا على البراق
وجاء بها إبراهيمُ وبابِنها إسماعيلَ وهيَ تُرضِعُهُ ، حتى وَضعَها عندَ البيتِ عند دَوحةٍ فوقَ زَمزَم في أعلى المسجدِ ، وليسَ بمكةَ يَومَئذٍ أحد ، وليس بها ماءٌ فوَضعَهما هنالك ، ووضعَ عندَهما جِراباً فيهِ تمرٌ وسِقاءً فيهِ ماءٌ، ثم قَفَّى إِبراهيمُ مُنَطلِقاً ، فتَبِعَتْهُ أمُّ إِسماعيلَ فقالت: يا إِبراهيمُ أينَ تَذهَبُ وتترُكنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إِنسٌ ولا شيء ، فقالت له ذلكَ مِراراً ، وجعلَ لا يَلتفِتُ إِليها. فقالت له: آلله أمرَكَ بهذا ؟ قال: نعم. قالت: إذَن لا يُضيِّعُنا. ثمَّ رَجعتْ. فانطَلَقَ إِبراهيمُ حتى إذا كان عندَ الثَّنيَّةِ حيثُ لا يَرونَهُ استقبَلَ بوَجههِ البيتَ ثمَّ دَعا بهؤلاءِ الكلماتِ ورَفعَ يَدَيهِ فقال: { ربَّنا إِني أسكَنتُ من ذُرِّيَّتي بوادٍ غير ذي زرع ـ حتى بلغ ـ يَشكُرون } [إبراهيم: 37 ]
وجَعَلت أمُّ إِسماعيلَ تُرضِعُ إِسماعيلَ وتَشربُ من ذلك الماء ، حتى إِذا نَفِذَ ما في السِّقاءِ عَطِشَت وعطِش ابنُها ، وجعَلَت تَنظُرُ إِليه يَتلوَّى فانطَلَقَتْ كراهيةَ أن تَنظُرَ إِليه ، فوَجدَتِ الصَّفا أقرَبَ جَبلٍ في الأرضِ يَليها ، فقامَت عليهِ ، ثمَّ استقبَلَتِ الوادِيَ تَنظُرُ هل تَرَى أحداً، فلم تَرَ أحداً ، فهبَطَت مِنَ الصَّفا ، حتى إِذا بلَغَتِ الواديَ رَفعَت طرَفَ دِرعِها ، ثمَّ سَعَت سَعيَ الإنسانِ المجهودِ حتى جاوَزَتِ الواديَ ، ثمَّ أتَتِ المرْوَةَ فقامت عليها فنظَرَت هل تَرَى أحداً ، فلم تَرَ أحداً ، ففعلت ذلك سبعَ مراتٍ. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : فذلك سعيُ الناسِ بينهما.
لما أشرَفَت على المروةِ سمعَت صوتاً فقالت: أغث إن كان عندَكَ خير ، فإِذا هيَ بالملَكِ جبريل عند مَوضعِ زَمزم ، فبَحَثَ بعَقِبهِ أو بجَناحهِ على الأرض , حتى ظهرَ الماءُ ، فجعَلَت تَحُوضهُ وتقول بيدِها هكذا ، وجَعلت تَغرِفُ منَ الماءِ في سِقائها وهوَ يَفورُ بعدما تَغرِفُ
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: يَرحَمُ الله أمَّ إسماعيلَ لو تَرَكَت زمزَم أو لو لم تَغرِف منَ الماء لكانت زمزمُ عَيناً مَعيناً
فشَرِبتَ وأرضَعتْ ولَدَها فقال لها الملَكُ: لا تخافوا الضَّيعة ، فإِنَّ ها هنا بيتَ الله يَبني هذا الغلامُ وأبوه ، وإنَّ الله لا يُضيعُ أهلَه
واطمأنت على ابنها بهذا الخبر , أنه سوف يبني البيت هو وأبوه , فعلمت أن ابنها سيكبر ويترعرع , فهذه قصة فلق زمزم التي كانت منة من الله لهذه المرأة التي أخلصت في تفويض أمرها لله وطاعته في مقامها مع ولدها في هذا الوادي الذي لم يكن به أنيس
كان إبراهيم يزور إسماعيل وأمه هاجر كل شهر على البراق يغدو غدوة فيأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله بالشام
وكان البيتُ مرتفعاً منَ الأرضِ كالرابية ، تأتيهِ السيولُ فتأخُذ عن يمينهِ وشمالهِ
وكانت هاجر تتغذي بماء زمزم فيكفيها عن الطعام والشراب , حتى مرَّت بهم رُفقة من جُرْهُم , مُقبِلينَ من طريقِ كَداء ، فنزَلوا في أسفَلِ مكةَ ، فَرأوا طائراً عائفاً ، فقالوا: إِنَّ هذا الطائر لَيَدورُ على ماء ، لَعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسَلوا جَريّاً أو جَرِيَّينِ فإِذا هم بالماء ، فرَجَعوا فأخبروهم بالماءِ ، فأقبلوا قال وأمُّ إسماعيلَ عند الماء فقالوا: أتأذَنينَ لنا أن نَنزِلَ عندَكِ ؟ فقالت: نعم ، ولكنْ لا حقَّ لكم في الماء , قالوا: نعم. ووجدوا أن أم إسماعيل تحب الأنس فنزَلوا ، وأرسلوا إلى أهلِيهم فنزلوا معهم ، وشبَّ الغلامُ وتعلَّمَ العربيةَ منهم
ولم يكن لسان أمه وأبيه عربيا , حتى سار أفصح من جرهم بالعربية فإسماعيل أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة
وكان إبراهيم عليه السلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فاران وينظر في أمرهما وكان يركب على البراق سريعا إلى هناك وكبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه وقد شب وارتجل وأطاق ما يفعله أبوه من العمل , وأصبح يتحمل السعي مع أبيه في أمور دنياه معينا له على أعماله
فآتهما الاختبار العظيم { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } [ الصافات 102]
وكان يومئذ بن ثلاث عشرة سنة
يقال إن إبراهيم رأى في ليلة التروية كأن قائلا يقول إن الله يأمرك بذبح ابنك فلما أصبح روى في نفسه أي فكر أهذا الحلم من الله أم من الشيطان فسمي يوم التروية
فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضا وقيل له الوعد فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي يوم عرفة
ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمى يوم النحر
تمثل الشيطان في صورة رجل ثم أتى أم الغلام فقال أين ذهب إبراهيم بابنك قالت غدا به لبعض حاجته قال فإنه لم يغد به لحاجة إنما ذهب به ليذبحه قالت ولم يذبحه قال زعم أن ربه أمره بذلك قالت فقد أحسن أن يطيع ربه فيئس منها الشيطان وذهب في أثرهما فقال للغلام أين يذهب بك أبوك قال لبعض حاجته
قال إنه لا يذهب بك لحاجة ولكنه يذهب بك ليذبحك قال ولم يذبحني قال يزعم أن ربه أمره بذلك قال فو الله لئن كان الله تعالى أمره بذلك ليفعلن قال فيئس منه فتركه , ولحق بإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال أين تريد والله لأظن أن الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك فعرفه إبراهيم فقال إليك عني عدو الله فو الله لأمضين لأمر ربي
فلم يصب الملعون منهم شيئاً ورماه إبراهيم بسبع حصيات عند جمرة العقبة حتى ذهب
لما أتى إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه وسلامه المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض
ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض
ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض
ومضى إبراهيم لأمر الله , فكانت هذه قصة رمي الجمار بمنى
ووجد إبراهيم من ابنه الجلد والصبر طاعة الله تعالى وطاعة أبيه على صغر سنه مما قر عينه وهو يقول له امضي لما أمرت به وطع ربك
{ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [ الصافات 102 ] ولهذا قال تعالى { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ } [ مريم 54 ]
قال إسماعيل لأبيه أمض لما أمرك الله من ذبحي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل [ ص ] قال تعالى { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين } [ الصافات 103 ] يعني استسلما وانقادا إبراهيم أمتثل أمر الله تعالى وإسماعيل طاعة لله ولأبيه ومعنى ( تله للجبين ) أي أكبه على وجهه ليذبحه من قفاه ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه , وأمر إبراهيم السكين على رقبته فلم تقطع شيء بل حيل بين السكينة وبين رقبته صفحة من نحاس
ونودي إبراهيم عند ذلك { قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ } [ ص 105] من إقدمه على المكاره بصبر وشجاعة هو وابنه بالتطبيق العملي لتنفيذ أمر الله لذلك صرف الله عنه المكاره والشدائد وجعل لهما من أمرهما فرجاً ومخرجاً وكان الله قد شرع لإبراهيم ذبح ولده ثم صرفه إلى الفداء ليثيب لإبراهيم على ذبح ولده وعرفه على ذلك , وهذا هو البلاء الواضح الجلي ولم يكن في سرعة الاستسلام لهذا الذابح المتدفق رحمة على ولده بأعظم من الذبيح المستسلم لأعظم مكروه في الدنيا فكلاهما بلغا قمة الاستسلام والطاعة لربهما في أعظم اختبار كانت النتيجة بعدما ردا قلبيهما إلى الله أن رد الله إسماعيل إلى أبيه لذا نزل الفداء
{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم } [ ص 107 ]
وكان الفداء عن إسماعيل كبش أبيض أقرن قد هبط من السماء بسمرة في جبل ثبير الذي يطل على منى من الجهة الشمالية لها وقيل هذا الكبش الذي رعا في الجنة وقيل هو الكبش الذي قربه ابن آدم فكان مخزوناًُ حتى فدي به إسماعيل وذبحه إبراهيم
وسن الذبح لنا من ذلك اليوم الذي سمي يوم النحر لنحر هذا الكبش الذي ظل رأسه معلق بقرنيه في ميزاب الكعبة حتى يبس وكانت قريشاً توارثوا قرني الكبش الذي فدي به إبراهيم خلفاً عن سلف وجيلاً بعد جيل إلى أن بعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الإسلام
وكان إسماعيل قد شب مع أبناء جرهم , فأنفَسَهُم وأعجبَهم حينَ شَبَّ ، فلما أدركَ زوَّجوهُ امرأة منهم. وماتَت أمُّ إِسماعيل ، فجاء إبراهيمُ بعدَما تَزوَّجَ إسماعيلُ يُطالِعُ تَرِكتَهُ ، فلم يَجد إسماعيل ، فسألَ امرأتَهُ عنه فقالت: خرَجَ يَبتغي لنا ، ثم سألها عن عَيشِهم وهَيْئِتهم
وقال هل عندك ضيافة فقالت: نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة ، فشكت إليه جهدا فقالت: أما الطعام فلا طعام ، وأما الشاة فلا تحلب إلا الشخب وأما الماء فعلى ما ترى من الغلظ
قال: فإِذا جاءَ زوجُكِ فاقرَئي عليهِ السلام وقولي لهُ يَغَيِّرُ عَتبةَ بابه. فلما جاء إسماعيلُ كأنهُ آنس شيئاً فقال: هل جاءكم من أحد ؟ قالت: نعم، جاءنا شيخٌ كذا وكذا ، فسأَلَنا عنك فأخبرتُه ، وسألني كيف عَيشُنا ، فأخبرتهُ أنا في جهدٍ وشِدَّة. قال: فهل أوصاك بشيء ؟ قالت: نعم ، أمرَني أن أقرَأ عليكَ السلام ، ويقول: غَيِّر عتبةَ بابك. قال: ذاكِ أبي ، قد أمرَني أن أُفارِقَكِ ، الحَقِي بأهلِكِ ، فطلَّقَها ، وتزوجَ منهم أخرَى ، فلَبِثَ عنهم إبراهيمُ ما شاءَ الله ، ثم أتاهم بعدُ فلم يَجِدْه ، فدخَلَ على امرأته فسألها عنه فقالت: خرَجَ يَبتغِي لنا. قال: كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشِهم وهَيئِتهم فقالت: نحن بخيرٍ وسَعَة ، وأثنَتْ على الله. فقال: ما طعامُكم ؟ قالتِ: اللحمُ. قال فما شرابُكم ؟ قالتِ: الماء. قال: اللّهمَّ بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومَئذٍ حبّ ، ولو كان لهم دعا لهم فيه، قال: فهما لا يَخْلو عليهما أحدٌ بغيرِ مكةَ إلا لم يُوافِقاهُ. قال: فإِذا جاءَ زوجُكِ اقرَئي عليهِ السلام، ومُريهِ يُثبتُ عتبةَ بابه. فلما جاءَ إسماعيلُ قال: هل أتاكم مِن أحد ؟ قالت: نعم، أتانا شيخُ حَسنُ الهيئِة وأثنَتْ عليه فسألني عنكَ فأخبَرْتهُ ، فسألني كيف عيشُنا فأخبرتهُ أنّا بخيرٍ. قال: فأوصاكِ بشيءٍ قالت: نعم ، هو يقرأُ عليكَ السلامَ ، ويأمُرُكَ أن تُثبِتَ عتبةَ بابِك. قال: ذاكِ أبي ، وأنتِ العتبةَ ، أمَرَني أن أمسِكَكِ. ثم لَبِثَ عنهم ما شاءَ الله
جاء إبراهيم بعدَ ذلك وإسماعيلُ يَبري نَبْلاً له تحتَ دَوحةٍ قريباً منَ زَمزَمَ ، فلمّا رآهُ قام إليه ، فصَنَعا كما يَصنَعُ الوالدُ بالوَلَد والوَلَدُ بالوالد. ثم قال: يا إسماعيلُ ، إن الله أمَرَني بأمر. قال: فاصْنَعْ ما أمَرَكَ ربُّك. قال: وتُعِينُني ؟ قال: وأعِينكُ
وأرشد الله تعالى إبراهيم مكان البيت { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْت} [ الحج 26 ] وأشارَ إبراهيم إلى أكمة مُرتفعةٍ , وقال فإن الله أمَرَني أن أبِنيَ ها هنا بيتاً , وبعث الله ريحاً فكشف لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول الذي بناه آدم لما أمره ربه لما هبط من الجنة وقال له يا آدم اذهب فابني ليّ بيتاً وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي وضرب جبريل بجناحه الأرض فأبرز لآدم عن أس ثابت بالأرض السابعة السفلى وقذفت إليه الملائكة الصخر وبناه وكان يطوف به والمؤمنين من ولده إلى زمن الطوفان من الغرق فرفع الله البيت وبوأ مكانه لإبراهيم ورفع إبراهيم هذه الأسس قال تعالى { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } [البقرة: 127 ] فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ونزل جبريل بالحجر الأسود إلى إبراهيم فوضعه في مكانه الذي عليه وارتفع البناء وجاء إسماعيل بحجر المقام ووضعه لأبيه فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ولم يعينهما أحد في البناء رغم وجود قبيلة جرهم , فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [البقرة: 127 ] [البقرة: 127 ] هذا هو الأصل في الطواف بالبيت
وأمر الله إبراهيم إن ينادي في الناس فقال تعالى
{ وَأَذِّن في ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً } [الحج 27]
ناد في الناس بالحج داعيا لهم إلى حج هذا البيت الذي أمرناك ببنائه قال يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم , من يسمعني , قال أنت تنادي وعلينا البلاغ فقام على مقامه وصاح فقال يا أيها الناس كتب الله عليكم الحج ليثيبكم الجنة ويجيركم من عذاب النار وإن ربكم قد إتخذ بيتا فحجوه فتواضعت الجبال أرجاء الأرض حتى تحمل الريح هذا الصوت في كل مكان فأسمع الله من في أرحام النساء وأصلاب الرجال فأجابه كل من آمن ومن كان سبق في علم الله وكتب أنه يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك , ومن أجاب يومئذ مرة حج مرة ومن أجاب مرتين فمرتين وهذا أصل التلبية في أداء الحج
وهكذا كان لإبراهيم ولآل إبراهيم من محبة الله وعبادته والإيمان به وطاعته ما لم يكن لغيرهم فخصهم الله بأن جعل لبيته الذي بنوه له خصائص لا توجد لغيره وجعل ما جعله من أفعالهم قدوة للناس وعبادة يتبعونهم فيها في السعي ورمي الجمار والذبح والطواف والقبلة
تأليف
الشيخ / عبد القادر أبو طالب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . وبعد
هذه الأنساك التي يأتي بها الحجاج إنها في الأصل أفعال قدمها لله عباد صالحين بإخلاص فكافئهم الله بأن جعلها أنساك يأتي بها الحجاج من بعدهم وهذه قصتهم
إبراهيم عليه السلام لما هاجر من بلاد قومه نزل بزوجته سارة أرض مصر , وكان على مصر جبار من الجبابرة اسمه عمرو بن امرئ القيس بن سبأ , وكانت سارة قد أعطيت شطر الحس , وشاهدها الرجل الذي كان يبيع القمح لإبراهيم وهي تطحن فنم على إبراهيم عند الملك, فقال له: نزل ها هنا بأرضك رجلاً معه امرأة من أحسن النساء ولا ينبغي أن تكون لغيرك ، فأرسل إليها , فأتي بها للملك ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها , لما رآها لم يتمالك أن بسط يده إليها
فدعت وقالت اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر فقبضت يده قبضة شديدة , واختنق حتى صار كأنه مصروع يركض برجله, فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك , فدعت الله قالت اللهم إن يمت يقولوا هي التي قتلته , فأرسل الله يده وأطلق , ثم تناولها الثانية فقبضت يده أشد من القبضة الأولى , فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك , فدعت الله , فأطلق
فدعا بعض حجبته ودعا الذي جاء بها, وقال له إنك لم تأتني بإنسان ، إنما أتيتني بشيطان ، وكانوا قبل الإسلام يعظمون أمر الجن جداً ويرون كل أن ما وقع من خوارق العادة من فعلهم وتصرفهم ولما وقع له من الصرع بسببها عظم أمرها فقال أرجعوها إلى إبراهيم وأخدمها هاجر , وهبها لها لتخدمها لأنه أعظمها أن تخدم نفسها في الطحن , وقال هذه لا تصلح أن تخدم نفسها , أخرجوها من أرضي وأعطاها هاجر , وكانت هاجر من قرية بصعيد مصر كان أبوها من ملوك القبط قبل أن يستولى على مصر ابن سبأ
فحفظ الله سارة التي حفظت الله لأنه في ذلك الوقت لم يكن أحد على وجه الأرض يعبد الله إلا إبراهيم وزوجته, ولحفظها فرجها ونفسها لله ولزوجها حفظها الله فلم يمكن الفاجر من أن ينال منها شيء وأرجعها الله لزوجها ومعها هاجر هدية لتكون آمة لها
فأتت سارة إلى إبراهيم ومعها هاجر وكان إبراهيم يصلي وقالت له رد الله كيد الكافر الفاجر واخدمني هاجر
وعاد إبراهيم إلى أرض الشام بزوجته وآمتها هاجر ثم أرادت سارة أن تعف هاجر , فوهبت سارة هاجر لإبراهيم فحملت منه بإسماعيل ، فلما ولدته فدخلت في سارة غيرة النساء فغارت منها فهي أجمل نساء البشر ولم تحمل من زوجها وهذه آمتها تحمل منه , واشتدت بها الغيرة بعدما ولدت هاجر إسماعيل حتى اتخذت هاجر منطقا فشدت به وسطها وهربت وجرت ذيلها لتخفي أثرها على سارة , ولذلك أراد الله أن يفصل بينهما فأمر إبراهيم إن يخرج بإسماعيل وأمه إلى مكة وحملوا على البراق
وجاء بها إبراهيمُ وبابِنها إسماعيلَ وهيَ تُرضِعُهُ ، حتى وَضعَها عندَ البيتِ عند دَوحةٍ فوقَ زَمزَم في أعلى المسجدِ ، وليسَ بمكةَ يَومَئذٍ أحد ، وليس بها ماءٌ فوَضعَهما هنالك ، ووضعَ عندَهما جِراباً فيهِ تمرٌ وسِقاءً فيهِ ماءٌ، ثم قَفَّى إِبراهيمُ مُنَطلِقاً ، فتَبِعَتْهُ أمُّ إِسماعيلَ فقالت: يا إِبراهيمُ أينَ تَذهَبُ وتترُكنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إِنسٌ ولا شيء ، فقالت له ذلكَ مِراراً ، وجعلَ لا يَلتفِتُ إِليها. فقالت له: آلله أمرَكَ بهذا ؟ قال: نعم. قالت: إذَن لا يُضيِّعُنا. ثمَّ رَجعتْ. فانطَلَقَ إِبراهيمُ حتى إذا كان عندَ الثَّنيَّةِ حيثُ لا يَرونَهُ استقبَلَ بوَجههِ البيتَ ثمَّ دَعا بهؤلاءِ الكلماتِ ورَفعَ يَدَيهِ فقال: { ربَّنا إِني أسكَنتُ من ذُرِّيَّتي بوادٍ غير ذي زرع ـ حتى بلغ ـ يَشكُرون } [إبراهيم: 37 ]
وجَعَلت أمُّ إِسماعيلَ تُرضِعُ إِسماعيلَ وتَشربُ من ذلك الماء ، حتى إِذا نَفِذَ ما في السِّقاءِ عَطِشَت وعطِش ابنُها ، وجعَلَت تَنظُرُ إِليه يَتلوَّى فانطَلَقَتْ كراهيةَ أن تَنظُرَ إِليه ، فوَجدَتِ الصَّفا أقرَبَ جَبلٍ في الأرضِ يَليها ، فقامَت عليهِ ، ثمَّ استقبَلَتِ الوادِيَ تَنظُرُ هل تَرَى أحداً، فلم تَرَ أحداً ، فهبَطَت مِنَ الصَّفا ، حتى إِذا بلَغَتِ الواديَ رَفعَت طرَفَ دِرعِها ، ثمَّ سَعَت سَعيَ الإنسانِ المجهودِ حتى جاوَزَتِ الواديَ ، ثمَّ أتَتِ المرْوَةَ فقامت عليها فنظَرَت هل تَرَى أحداً ، فلم تَرَ أحداً ، ففعلت ذلك سبعَ مراتٍ. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : فذلك سعيُ الناسِ بينهما.
لما أشرَفَت على المروةِ سمعَت صوتاً فقالت: أغث إن كان عندَكَ خير ، فإِذا هيَ بالملَكِ جبريل عند مَوضعِ زَمزم ، فبَحَثَ بعَقِبهِ أو بجَناحهِ على الأرض , حتى ظهرَ الماءُ ، فجعَلَت تَحُوضهُ وتقول بيدِها هكذا ، وجَعلت تَغرِفُ منَ الماءِ في سِقائها وهوَ يَفورُ بعدما تَغرِفُ
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: يَرحَمُ الله أمَّ إسماعيلَ لو تَرَكَت زمزَم أو لو لم تَغرِف منَ الماء لكانت زمزمُ عَيناً مَعيناً
فشَرِبتَ وأرضَعتْ ولَدَها فقال لها الملَكُ: لا تخافوا الضَّيعة ، فإِنَّ ها هنا بيتَ الله يَبني هذا الغلامُ وأبوه ، وإنَّ الله لا يُضيعُ أهلَه
واطمأنت على ابنها بهذا الخبر , أنه سوف يبني البيت هو وأبوه , فعلمت أن ابنها سيكبر ويترعرع , فهذه قصة فلق زمزم التي كانت منة من الله لهذه المرأة التي أخلصت في تفويض أمرها لله وطاعته في مقامها مع ولدها في هذا الوادي الذي لم يكن به أنيس
كان إبراهيم يزور إسماعيل وأمه هاجر كل شهر على البراق يغدو غدوة فيأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله بالشام
وكان البيتُ مرتفعاً منَ الأرضِ كالرابية ، تأتيهِ السيولُ فتأخُذ عن يمينهِ وشمالهِ
وكانت هاجر تتغذي بماء زمزم فيكفيها عن الطعام والشراب , حتى مرَّت بهم رُفقة من جُرْهُم , مُقبِلينَ من طريقِ كَداء ، فنزَلوا في أسفَلِ مكةَ ، فَرأوا طائراً عائفاً ، فقالوا: إِنَّ هذا الطائر لَيَدورُ على ماء ، لَعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسَلوا جَريّاً أو جَرِيَّينِ فإِذا هم بالماء ، فرَجَعوا فأخبروهم بالماءِ ، فأقبلوا قال وأمُّ إسماعيلَ عند الماء فقالوا: أتأذَنينَ لنا أن نَنزِلَ عندَكِ ؟ فقالت: نعم ، ولكنْ لا حقَّ لكم في الماء , قالوا: نعم. ووجدوا أن أم إسماعيل تحب الأنس فنزَلوا ، وأرسلوا إلى أهلِيهم فنزلوا معهم ، وشبَّ الغلامُ وتعلَّمَ العربيةَ منهم
ولم يكن لسان أمه وأبيه عربيا , حتى سار أفصح من جرهم بالعربية فإسماعيل أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة
وكان إبراهيم عليه السلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فاران وينظر في أمرهما وكان يركب على البراق سريعا إلى هناك وكبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه وقد شب وارتجل وأطاق ما يفعله أبوه من العمل , وأصبح يتحمل السعي مع أبيه في أمور دنياه معينا له على أعماله
فآتهما الاختبار العظيم { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } [ الصافات 102]
وكان يومئذ بن ثلاث عشرة سنة
يقال إن إبراهيم رأى في ليلة التروية كأن قائلا يقول إن الله يأمرك بذبح ابنك فلما أصبح روى في نفسه أي فكر أهذا الحلم من الله أم من الشيطان فسمي يوم التروية
فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضا وقيل له الوعد فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي يوم عرفة
ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمى يوم النحر
تمثل الشيطان في صورة رجل ثم أتى أم الغلام فقال أين ذهب إبراهيم بابنك قالت غدا به لبعض حاجته قال فإنه لم يغد به لحاجة إنما ذهب به ليذبحه قالت ولم يذبحه قال زعم أن ربه أمره بذلك قالت فقد أحسن أن يطيع ربه فيئس منها الشيطان وذهب في أثرهما فقال للغلام أين يذهب بك أبوك قال لبعض حاجته
قال إنه لا يذهب بك لحاجة ولكنه يذهب بك ليذبحك قال ولم يذبحني قال يزعم أن ربه أمره بذلك قال فو الله لئن كان الله تعالى أمره بذلك ليفعلن قال فيئس منه فتركه , ولحق بإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال أين تريد والله لأظن أن الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك فعرفه إبراهيم فقال إليك عني عدو الله فو الله لأمضين لأمر ربي
فلم يصب الملعون منهم شيئاً ورماه إبراهيم بسبع حصيات عند جمرة العقبة حتى ذهب
لما أتى إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه وسلامه المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض
ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض
ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض
ومضى إبراهيم لأمر الله , فكانت هذه قصة رمي الجمار بمنى
ووجد إبراهيم من ابنه الجلد والصبر طاعة الله تعالى وطاعة أبيه على صغر سنه مما قر عينه وهو يقول له امضي لما أمرت به وطع ربك
{ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [ الصافات 102 ] ولهذا قال تعالى { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ } [ مريم 54 ]
قال إسماعيل لأبيه أمض لما أمرك الله من ذبحي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل [ ص ] قال تعالى { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين } [ الصافات 103 ] يعني استسلما وانقادا إبراهيم أمتثل أمر الله تعالى وإسماعيل طاعة لله ولأبيه ومعنى ( تله للجبين ) أي أكبه على وجهه ليذبحه من قفاه ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه , وأمر إبراهيم السكين على رقبته فلم تقطع شيء بل حيل بين السكينة وبين رقبته صفحة من نحاس
ونودي إبراهيم عند ذلك { قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ } [ ص 105] من إقدمه على المكاره بصبر وشجاعة هو وابنه بالتطبيق العملي لتنفيذ أمر الله لذلك صرف الله عنه المكاره والشدائد وجعل لهما من أمرهما فرجاً ومخرجاً وكان الله قد شرع لإبراهيم ذبح ولده ثم صرفه إلى الفداء ليثيب لإبراهيم على ذبح ولده وعرفه على ذلك , وهذا هو البلاء الواضح الجلي ولم يكن في سرعة الاستسلام لهذا الذابح المتدفق رحمة على ولده بأعظم من الذبيح المستسلم لأعظم مكروه في الدنيا فكلاهما بلغا قمة الاستسلام والطاعة لربهما في أعظم اختبار كانت النتيجة بعدما ردا قلبيهما إلى الله أن رد الله إسماعيل إلى أبيه لذا نزل الفداء
{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم } [ ص 107 ]
وكان الفداء عن إسماعيل كبش أبيض أقرن قد هبط من السماء بسمرة في جبل ثبير الذي يطل على منى من الجهة الشمالية لها وقيل هذا الكبش الذي رعا في الجنة وقيل هو الكبش الذي قربه ابن آدم فكان مخزوناًُ حتى فدي به إسماعيل وذبحه إبراهيم
وسن الذبح لنا من ذلك اليوم الذي سمي يوم النحر لنحر هذا الكبش الذي ظل رأسه معلق بقرنيه في ميزاب الكعبة حتى يبس وكانت قريشاً توارثوا قرني الكبش الذي فدي به إبراهيم خلفاً عن سلف وجيلاً بعد جيل إلى أن بعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الإسلام
وكان إسماعيل قد شب مع أبناء جرهم , فأنفَسَهُم وأعجبَهم حينَ شَبَّ ، فلما أدركَ زوَّجوهُ امرأة منهم. وماتَت أمُّ إِسماعيل ، فجاء إبراهيمُ بعدَما تَزوَّجَ إسماعيلُ يُطالِعُ تَرِكتَهُ ، فلم يَجد إسماعيل ، فسألَ امرأتَهُ عنه فقالت: خرَجَ يَبتغي لنا ، ثم سألها عن عَيشِهم وهَيْئِتهم
وقال هل عندك ضيافة فقالت: نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة ، فشكت إليه جهدا فقالت: أما الطعام فلا طعام ، وأما الشاة فلا تحلب إلا الشخب وأما الماء فعلى ما ترى من الغلظ
قال: فإِذا جاءَ زوجُكِ فاقرَئي عليهِ السلام وقولي لهُ يَغَيِّرُ عَتبةَ بابه. فلما جاء إسماعيلُ كأنهُ آنس شيئاً فقال: هل جاءكم من أحد ؟ قالت: نعم، جاءنا شيخٌ كذا وكذا ، فسأَلَنا عنك فأخبرتُه ، وسألني كيف عَيشُنا ، فأخبرتهُ أنا في جهدٍ وشِدَّة. قال: فهل أوصاك بشيء ؟ قالت: نعم ، أمرَني أن أقرَأ عليكَ السلام ، ويقول: غَيِّر عتبةَ بابك. قال: ذاكِ أبي ، قد أمرَني أن أُفارِقَكِ ، الحَقِي بأهلِكِ ، فطلَّقَها ، وتزوجَ منهم أخرَى ، فلَبِثَ عنهم إبراهيمُ ما شاءَ الله ، ثم أتاهم بعدُ فلم يَجِدْه ، فدخَلَ على امرأته فسألها عنه فقالت: خرَجَ يَبتغِي لنا. قال: كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشِهم وهَيئِتهم فقالت: نحن بخيرٍ وسَعَة ، وأثنَتْ على الله. فقال: ما طعامُكم ؟ قالتِ: اللحمُ. قال فما شرابُكم ؟ قالتِ: الماء. قال: اللّهمَّ بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومَئذٍ حبّ ، ولو كان لهم دعا لهم فيه، قال: فهما لا يَخْلو عليهما أحدٌ بغيرِ مكةَ إلا لم يُوافِقاهُ. قال: فإِذا جاءَ زوجُكِ اقرَئي عليهِ السلام، ومُريهِ يُثبتُ عتبةَ بابه. فلما جاءَ إسماعيلُ قال: هل أتاكم مِن أحد ؟ قالت: نعم، أتانا شيخُ حَسنُ الهيئِة وأثنَتْ عليه فسألني عنكَ فأخبَرْتهُ ، فسألني كيف عيشُنا فأخبرتهُ أنّا بخيرٍ. قال: فأوصاكِ بشيءٍ قالت: نعم ، هو يقرأُ عليكَ السلامَ ، ويأمُرُكَ أن تُثبِتَ عتبةَ بابِك. قال: ذاكِ أبي ، وأنتِ العتبةَ ، أمَرَني أن أمسِكَكِ. ثم لَبِثَ عنهم ما شاءَ الله
جاء إبراهيم بعدَ ذلك وإسماعيلُ يَبري نَبْلاً له تحتَ دَوحةٍ قريباً منَ زَمزَمَ ، فلمّا رآهُ قام إليه ، فصَنَعا كما يَصنَعُ الوالدُ بالوَلَد والوَلَدُ بالوالد. ثم قال: يا إسماعيلُ ، إن الله أمَرَني بأمر. قال: فاصْنَعْ ما أمَرَكَ ربُّك. قال: وتُعِينُني ؟ قال: وأعِينكُ
وأرشد الله تعالى إبراهيم مكان البيت { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْت} [ الحج 26 ] وأشارَ إبراهيم إلى أكمة مُرتفعةٍ , وقال فإن الله أمَرَني أن أبِنيَ ها هنا بيتاً , وبعث الله ريحاً فكشف لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول الذي بناه آدم لما أمره ربه لما هبط من الجنة وقال له يا آدم اذهب فابني ليّ بيتاً وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي وضرب جبريل بجناحه الأرض فأبرز لآدم عن أس ثابت بالأرض السابعة السفلى وقذفت إليه الملائكة الصخر وبناه وكان يطوف به والمؤمنين من ولده إلى زمن الطوفان من الغرق فرفع الله البيت وبوأ مكانه لإبراهيم ورفع إبراهيم هذه الأسس قال تعالى { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } [البقرة: 127 ] فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ونزل جبريل بالحجر الأسود إلى إبراهيم فوضعه في مكانه الذي عليه وارتفع البناء وجاء إسماعيل بحجر المقام ووضعه لأبيه فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ولم يعينهما أحد في البناء رغم وجود قبيلة جرهم , فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [البقرة: 127 ] [البقرة: 127 ] هذا هو الأصل في الطواف بالبيت
وأمر الله إبراهيم إن ينادي في الناس فقال تعالى
{ وَأَذِّن في ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً } [الحج 27]
ناد في الناس بالحج داعيا لهم إلى حج هذا البيت الذي أمرناك ببنائه قال يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم , من يسمعني , قال أنت تنادي وعلينا البلاغ فقام على مقامه وصاح فقال يا أيها الناس كتب الله عليكم الحج ليثيبكم الجنة ويجيركم من عذاب النار وإن ربكم قد إتخذ بيتا فحجوه فتواضعت الجبال أرجاء الأرض حتى تحمل الريح هذا الصوت في كل مكان فأسمع الله من في أرحام النساء وأصلاب الرجال فأجابه كل من آمن ومن كان سبق في علم الله وكتب أنه يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك , ومن أجاب يومئذ مرة حج مرة ومن أجاب مرتين فمرتين وهذا أصل التلبية في أداء الحج
وهكذا كان لإبراهيم ولآل إبراهيم من محبة الله وعبادته والإيمان به وطاعته ما لم يكن لغيرهم فخصهم الله بأن جعل لبيته الذي بنوه له خصائص لا توجد لغيره وجعل ما جعله من أفعالهم قدوة للناس وعبادة يتبعونهم فيها في السعي ورمي الجمار والذبح والطواف والقبلة
تأليف
الشيخ / عبد القادر أبو طالب